بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
في اللقاء الأول للمطرب محمد رشدى مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في بداية الستينات على (قهوة التجارة) بشارع محمد على،كشفت نبؤة الشاعر و بصيرته الرؤية أمام رشدى، وكشفت الضباب أمام خطواته على طريق القادم – خللى بالك يا رشدى.. المرحلة دى بتاعتك أنت أكتر من عبد الحليم!
ازاى بقى؟
انت فيك حاجه تخللى الناس الغلابة تصدقك.. والوقت دا من بعد الثورة هو وقت الفلاحين و العمال.
في جيب الأبنودى كانت مطوية كلمات أغنية لم يتخيل لها صوتا سوى محمد رشدى،
أنا جيت لك هنا عشان صوتك ومكانتك الجايه.. و سيبك بقى من قعدة القهوة دى و تعالى نتمشى شويه.
في الطرقات استمر الأبنودي يشرح لمحمد رشدى رؤيته الخاصة لمستقبل الأغنية الشعبية، وليؤكد على رؤيته أخرج من جيبه كلمات أغنية (تحت الشجر يا وهيبة).. أصابت الكلمات هدفها فمال بها محمد رشدى إعجابا، تسائل الاثنان (من له أن يلحن مثل هذه الكلمات؟.
في نفس اللحظات كان القدر يفك شفرات إجابة السؤال في مكتب الشجاعى بالإذاعة، حيث الملحن الكبير والممثل عبد العظيم عبد الحق في زيارته، وحينما قرأ عبد الحق كلمات الأغنية الموجودة أمامه بالصدفة على المكتب سأل:
يا سلام: مين اللى كتب دى؟
عبد الرحمن الأبنودى.
دا نص ماحصلش.
ما انتو صعايده زى بعض!
صورايخ محمد رشدي تنفجر
طب ما تديهانى ألحنها ويغنيها محمد رشدى لتنفجر صواريخه الملونه في سماء الوسط الفني: (تحت الشجر يا وهيبة.. يا ما كلنا برتقان.. كحلة عينك يا وهيبة.. جارحة قلوب الجدعان).
و قد انتقد الكاتب أنيس منصور أكل الحبيب للبرتقان تحت الشجر (لأن دا معناه انه حرامى)، و (وهيبة) ممرضة جميلة تعمل في الوحدة الصحية بقرية (عامر) التي تتميز بالبساتين وبخاصة البرتقال و العنب.
الغريبة أن بليغ حمدى بعبقريته التي لن تتكرر والتي تجلت هذه الفترة في تلحينه لقمة المنحنى الطربى (أم كلثوم) وبحسب قول خادمه لمحمد رشدى عند زيارته لبيته أن بليغ لا يكف عن ترديد أغنية (تحت الشجر يا وهيبة في البيت.
كان بالفعل بليغ حمدى – النحلة الموسيقية – يستخلص من الأغنية تركيبة الرحيق.. الكلمات والصوت، ليتكون بعدها مثلث فيروزى في عالم الطرب (بليغ – الأبنودى – محمد رشدى).
إقرأ أيضا : محمد عبد الواحد يكتب: محمد رشدي.. يعوض الله يا عدوية (2)
إعصار طربى يدور بسطوة كاملة على طرقات الساحة الفنية ليطرد من طريقه الكثير من الغث، ويرتفع الاعصار ليلامس السحاب بمتواليات غنائية: (آه يا ليل يا قمر.. والمانجه طابت ع السجر).. تليها أغنية (عدوية):
اسقينى يا شابه و ناولينى حبة مايه
اسم النبى حارسك
اسمك ايه ردى عليا
آآه.. يا عدوية
أوعوا تحلوا المراكب
والله يا ناس ما راكب
ولا حاطط رجلى في المايه
إلا و معايا عدويه
محمد رشدي وبليغ حمدي
و من الأعاجيب أن هذه الأغنية التي لحنها بليغ حمدى كانت بطلتها (عدوية)، هي خادمة تعمل بمنزل الملحن عبد العظيم عبدالحق.. و قد رآها الأبنودى وهي تقدم له الشاي ليرى فيها صورة البنت القروية المصرية ذات الوجه الصبوح الباش.. بضفائرها الطويله و جمالها الفطرى – اسمك ايه؟:
عدوية!
طب يا عدوية.. هكتب لك أغنية.
قدم الأبنودى الأغنية لعبد العظيم عبد الحق الذى اندهش و حاول التهرب من الأبنودى:
يا أخى مش قادر اتخيل البنت الشغالة اللى عندى دى في الأغنية دى.. ولا أنا شايف الكلمات لايقه عليها.. مش حاسسها.. إعفينى معلش.
و كان للأغنية نصيب أن تتلقفها عبقرية بليغ ليغلفها بغلالة من الخلود الفني!
من ذكاء محمد رشدى الذى استحوذ على بليغ هذه الفترة علمه بأن ألحانه وليدة اللحظة، وأنه بمجرد أن تعجبه الكلمات يدندن باللحن و يتلفت باحثا عن العود.. لذلك صنع محمد رشدى لبليغ عودا احتفظ به عنده في البيت.
كان هذا العود مصنعا بالمقاييس التي تتناسب والبطن البارزه قليلا لبليغ كى يجد فيه كامل راحته!
في الطرف الأخر من الساحة كان هناك ماردا غاضبا من السطوة المتزايدة ساعة بعد ساعة للثلاثى، لذلك بدا في التخطيط لتفكيك هذا المثلث والاستحواذ على ضلعيه.. لم يكن أمام عبد الحليم حافظ مشكلة بالنسبة لبليغ حمدى.. فقد بدا بالفعل التعاون معه من قبل في أغنيات مثل (تخونوه).
لكن المشكلة الحقيقية تكمن في الأبنودي مكمن القوة.. فالأغنية تبدأ من أحرف الكلمات ليكون العقد الذى يجمع حباته حبل الصوت هو عقد من حبات ماس أو من قطع الصفيح.
بينما يشارك الأبنودي بليغ إحدى البروفات في الإذاعة.. يرقبه من خلف العازل الزجاجى للاستوديو إذا برجلين ضخمين يرتديان ملابسهما الرسمية ونظارات سوداء مخابراتية يجران الأبنودي من ذراعيه (عاوزينك معانا شوية.. اتفضل بدون شوشرة).
يشير الأبنودي – صاحب النشاط الشيوعى في هذا الوقت – لبليغ من خلف الحاجز الزجاجى أنه رهن الاعتقال.. و يخرج مع الرجلين ليركب الجميع سيارة سوداء تنطلق بهم الى الزمالك ليصعدوا به الى شقة واسعة
محمد رشدي وعبد الحليم
يفتح لهم بابها خادم نوبى بينما يجلس على فوتيه في منتصف صالتها الواسعه شبحا يخرج من الظل: مش انت عبد الحليم حافظ؟
أيوه يا سيدى
أومال مين ولاد الجزمة اللى سيبوا ركبى دول؟
معلش يا شاعر.. أنا اضطريت أعمل كده علشان أجيبك بسرعة!
وبعد أن لاحق الأبنودى الرجلين في طول الصالة وعرضها بالحذاء جلس إلى عبد الحليم الذى استدعى بالتليفون كمال الطويل ليحضر على الفور، و يبدأ مثلث ذهبى جديد في الظهور (حليم – البنودى – كمال الطويل):
اسمع بقى: أنا عاوز أغنى اللغة بتاعتك.. بس ما أقدرش أغنى المسامير والمزامير زى صاحبك محمد رشدى.
وتبدا الرحلة المشتركة بأغنية (وأنا كل ما أقول التوبة يا بوى.. ترمينى المقادير يا عين).. ورغم روعة كلماتها وصوت عبد الحليم حافظ – أرقى الأصوات البشرية – ولحن العبقرى بليغ إلا أن توزيع علي إسماعيل مستخدما آلات النفخ النحاسية قد حول الموسيقى إلى مشاجرة تشابكت فيها الأصوات الرجالية والنسائية.
وتناطحت الآلات الوترية والخشبية والنحاسية.. لتتمزق الصلة بين شعبية الكلمات وأوربية التوزيع الموسيقى، ويضاف إلى ذلك حيرة عبد الحليم.. فهو يغنيها مرة، و(أنا كل ما أقول التوبة).. ومرة أخرى: أنا كل ما أجول التوبة).
كانت هذه العثرات كلها تصب في رصيد محمد رشدى لتؤكد تفرده بالنجاح في هذه المنطقة دون منازع.. وامتلاكه للونه الخاص الذى ظل يبحث عنه طويلا.
لم يستسلم محمد رشدى أيضا لخطة عبد الحليم، و بدأ في تعويض خسائر الحرب، وقد وجد ضالته الأولى في شاعر من المحلة – مهنته الأصلية حلاق – وهو الشاعر حسن أبو عتمان، وأيضا ملحن جديد يؤمن بموهبته وهو حلمى بكر.. و تبدأ غزواته الجديدة ليشنها بقوة: أغنية (عرباوى)، وأغنية (حسن المغنوات).
و قد كان لأبو عتمان – قبل محمد رشدى – أغنية وحيدة غناها كارم محمود (بنت الحلال اللى عليها النية.. تسوى ملاين بس لو بإيديا).. وقد طارد أبو عتمان محمد رشدى كثيرا وبخاصة في حديقة معهد الموسيقى حتى اضطر محمد رشدى للتخلص منه أن يقف له غاضبا: سمعنى يا سيدى!
يا حسن يا مغنواتى
يا نغم بكى النياتى
أنا جرحى جرحك وغاوى
وزادى حبى وغناوى.
حلو قوي: معاك أغنية تانية؟
أيوه.. أهى:
قول.. قول
ولا يا ولا يا عرباوى
ارمى بياضك خطى الأناوى
و ان كنت شارى يا أدهم زمانك
المهر مركب وانت معداوى
عرباوى .. عرباوى
بعد دوى نجاح (المغنواتي، وعرباوى)، استمر (حلمى بكر) في نسج الحرير: (إن كنت مسافر خدنى معاك.. أو خد تباريح الشوق وياك)، ليعقبها بأغنية كل فرح في مصر (والله فرحنالك يا ولا.. والحظ ادالك يا ولا).
لم يكن المثلثين: (عبد الحليم – الأبنودى – بليغ)، و(رشدى – أبو عتمان – حلمى بكر) منفصلين تماما، فقد لحن بليغ (سواح) لعبد الحليم في نفس الوقت الذى لحن فيه لرشدى (يا عينى ع الولد)، بل وتم غناء الأغنيتين في نفس الليلة.
كما أن الأبنودي في هذه الفترة قد تم اعتقاله، إلا أن زوجته (عطيات) أصرت على استمرار تواجده بكلماته في الساحة.. فقدمت إلى كمال الطويل أغنية (يا قمر يا اسكندراني) مطالبة إياه بضرورة تلحينها.. و بالفعل لحنها ليشدو بها أيضا محمد رشدى.