بقلم الدكتور: مدحت الكاشف *
تشكل منظومة حماية حق المؤلف وحقوق الملكية الفكرية والحقوق المجاورة، وحقوق الأداء العلنى للمبدعين، محور المنظومة الثقافية بما تحمله من مشروعات قومية ثقافية، وتوجهات اجتماعية عصرية، وبالتالي فإن التشريعات المتعلقة بهذه الحقوق تظل تفتقر لبعض المفاهيم والتفاصيل الخاصة بالإبداع، وصناعة الإبداع، وحتى حرية الإبداع، خاصة فى عالم بات أكثر انفتاحاﹰ، إن هذه المفاهيم والتفاصيل المنشودة، تتعلق بطرفى العملية الإبداعية (المبدع والمتلقى)، وليس للمبدع فقط، ويعنى هذا أنه لزاماﹰ على الدولة حماية حرية الإبداع في حدود لاتتجاوز حماية مستهلك هذا الإبداع من أى عبث – تحت دعوى حرية الإبداع – بقيمه وعقائده وبمناحى ثقافته العامة، الأمر الذى لابد معه أن ننطلق من تعريفات محددة وواضحة لاتقبل اللبس أو الاجتهاد في التفسير حول مقومات صناعة الإبداع في ثقافة ما، لمواجهة الأصوات التي تنادي بضرورة منح الحرية المطلقة في الإبداع مهما كانت الصورة التي بنى عليها، سواء كانت تلك الحريات ملتزمة بقيم المجتمع وثقافته أم لا.
إقرأ أيضا : د. مدحت الكاشف يكتب : الفنون والقيم الاجتماعية
ومن ناحية أخرى ضرورة حفظ الحقوق الإبداعية الابتكارية ونسبها لأصحابها من المبدعين، حتى يتم إيقاف فوضى استخدام تعبيرات من نوعية الإبداع، وحرية الإبداع، بصرف النظر عما إذا كان إبداعاﹰ خالصاﹰ وفق المفاهيم العلمية، أم كان مجرد سلعة تجارية تبث صوراﹰ تتعارض مع مفهوم الإبداع من ناحية، وتتنافى مع ثقافة المجتمع من ناحية أخرى، ومبدئياﹰ لابد أن نتفق أن الإبداع بمفهومه الشامل والعام هو ذلك النشاط الذى يشير إلى القدرة على التحليل وتوليد أفكار أصلية ومبتكرة، لتفسير ماهو موجود في المحيط الاجتماعي الذي يتلقى هذا الإبداع، وبالتالي يصبح الإبداع في حد ذاته عملية اجتماعية مشتركة بين المبدع والمتلقى قابلة للقياس، ذلك على الرغم من أن تعريف الإبداع يمثل مشكلة علمية لم يتم الاتفاق عليها في الابحاث الأكاديمية، ولا حتى في دوائر صنع القرار السياسي والتشريعي، وهو الأمر الذي جعلنا نعيش في حالة من العشوائية الإبداعية المقصودة أو غير المقصودة، ومن جانب آخر، حفظ تراث إبداع الأمة الذي يشكل وعيها ووجدانها من خلال الأعمال الفنية الإبداعية المختلفة الوسائط من مسرح وسينما وموسيقى إلى آخره، وفضلا عن تلك المرتكزات الثلاث فإن التعريف بطبيعة تلك الصناعات الإبداعية يعتمد على نوع القيمة التي تولدها من خلال الأنشطة الإبداعية المختلفة.
الإبداع يعود على صانعيه
وهذه القيمة هي بالطبع قيمة ثقافية بكل ماتحمل كلمة ثقافية من معنى عام وشامل، دون إغفال للقيمة التجارية التي تساعد على استمرار الإبداع الذي يتكلف في أبسط صوره أموالا وجهدا لابد وأن يعود على صانعيه بالعائد الذي يسمح لهم على تطوير إبداعاتهم، واستمراريتها كضرورة إجتماعية، للتعبير عن محددات الحياة الثقافية العصرية، ومع ذلك تصبح هذه القيمة المنشودة مراوغة وغير محددة، وغير قابلة لقياس يمكن أن يتفق عليه الجميع.
إقرأ أيضا : د. مدحت الكاشف يكتب: الثقافة .. والصناعات الإبداعية
إن منظمة اليونسكو التى تعنى أصلا بالثقافة والإبداع تتعامل مع الصناعات الثقافية الإبداعية في المجتمعات المختلفة من خلال عناصر أساسية، تشكل أسس بناء العملية الإبداعية وهي (المبدع – الإبداع – الإنتاج – المستهلك)، ومن ثم، تنطلق اليونسكو من هذه العناصر، أو أطراف العملية الإبداعية، بغرض ترويج وحفظ وصيانة التنوع الثقافي للمجتمعات المختلفة، ومن ثم، فتح المجال للإبداع ، والحصول عليه بصورة ديمقراطية بعيدا عن وسائل كبح جماحه بأى صورة من الصور، وبالتالي تتلاشى أفكار من نوعية المنح أو المنع أو الترخيص لأي عمل إبداعي، إلا أنه لا يجب تحت هذا المفهوم أن تترك المسألة دون ضوابط تنظم العلاقة بين المبدع والمستهلك على عواهنها تحت دعوى حرية الإبداع، أو الأصوات التي تنادي بضرورة إلغاء الأجهزة الرقابية ذات الطابع السياسي، التي ترفض أو تسمح لعمل إبداعي وفق تعبيرات مطاطة ومراوغة مثل مصالح الدولة العليا، وهي نظرة قاصرة في اعتقادي.
إذ أن مصالح الدولة العليا تشمل الحفاظ على ثقافة المجتمع وقيمه وعقائده وتوجهاته وأعرافه وتقاليده، بصرف النظر عن اتفاق صاحب الإبداع مع النظام السياسى من عدمه، وحتى تخرج أجهزة وزارة الثقافة من تلك النظرة القاصرة، فلابد أن يتم الاتفاق على محددات للعملية الإبداعية، حتى يتم بها فض الاشتباك بين ماهو إبداع حقيقى وأصيل، وبين ماهو أى نشاط آخر، مع الوضع في الاعتبار الأبعاد الثقافية وهى تلك الأبعاد المتعلقة بالأعراف والتقاليد والعقائد والأخلاق والقيم التي تعتمل في المجتمع، والأبعاد الاجتماعية ، وأخيرا الأبعاد التجارية والصناعية التي تشكل وسائل لاستثمار الإبداع والثقافة بما يتفق مع متطلبات مصالح الدولة العليا التي يجب أن ترنو إلى العيش في عالم أفضل.
العلاقة بين الإبدع والتلقي
إذن فوجود جهاز ما يتحمل عبئ النظر في الإبداعات المختلفة هو نوع من تنظيم العلاقة بين المبدع والمتلقي، وليس المقصود بالتنظيم أن يتحول جهاز الرقابة إلى نائب عن المجتمع أو ولى أمر لأفراده متنوعي التوجهات والاختلافات ، بل أنه يعمل وفق ما تفرضه ثقافة هذا المجتمع، حفاظا على المنتج الإبداعى من ناحية، وعلى مستهلك ذلك المنتج من ناحية أخرى، حتى لا يتحول سباق المبدعين إلى عملية تجارية الغرض منها الترويج لسلع تصور المجتمع بشكل مشوه، وهي الشعرة الدقيقة التي تفصل بين الإبداع وحرياته، وبين محاولات تخريب العقول والأخلاق والقيم تحت دعوى حرية الإبداع، الأمر الذي يفسح المجال لقوى اجتماعية لتدلي برأيها في الإبداع كل على هواه، وتصبح منظمات مجتمعية مدنية حكومية أو غير حكومية أجهزة رقابية متعدده، خاصة في غياب الدور التنويري/ الثقافي لأجهزة الدولة التي تعمل وفق تشريع لابد وأن يكون نابعا عن منظومة لسياسة ثقافية محدده، لاتعمل لصالح نظام سياسى بقدر ماتعمل لصالح المجتمع وثقافته.
إقرأ أيضا : د.مدحت الكاشف: التكنولوجيا وجدلية الفنون!
إن الأمر على هذا النحو يجعل من الدولة ممثلة فى وزارة الثقافة التعامل مع الإبداع الفني بوصفه المحرك، والمنير، والمثير للقلق، واللافت للنظر للقضايا الاجتماعية، أو حتى للظواهر الاجتماعية العارضة أو الشائكة، عندئذ سوف تساهم الدولة في جعل العمليات الإبداعية وقد سمت بالروح، عن طريق كشف المستور، أو المسكوت عنه بصورة إبداعية بعيداﹰ عن الفجاجة والصور الصادمة التي لاتفي بالغرض اللهم إلا بالنوايا السيئة عن قصد لمن يبثونها بغرض إثارة الغرائز أو دغدغتها، وذلك على اعتبار أن التعبير الفني ليس مجرد نقل الواقع كما هو، ولكن إعادة صياغة هذا الواقع بطريقة فنية تعتمد على الانتقاء وإعادة الترتيب، بغرض تحليل ماهو كائن، للوصول إلى ماهو أفضل، وهى الرسالة السامية الأزلية للفن، إن الأمر على هذا النحو سوف يمنح أفراد المجتمع الفرصة لإقامة الحوار الديمقراطي مع أصحاب الإبداع الفني، الذي عليه أن يتحمل مجابهة الخواء والأشباح والرجعية والتطرف بكافة صوره، ومن ناحية أخرى يكسر حائط الصمت المنيع الذي ظل عقوداﹰ طويلة أمام المشكلات الاجتماعية، ومن ثم، تصبح العملية الإبداعية الأصيلة الحقيقية هى نوع من التواصل السحري الذي يتبادل فيه طرفاها (المبدع والمتلقي) بالأخذ والعطاء مايعمل على تغييرهم نحو الأفضل.
* أستاذ بأكاديمية الفنون