بقلم: بهاء الدين يوسف
فيلم أوبنهايمر الذي يكتسح صالات العرض في العديد من دول العالم حاليا، ويحقق إيرادات خرافية لم يكن صناعه يتخيلونها، يجب التوقف عند بعض التفاصيل التي تضمنها دون أن تتاح الفرصة للعديد من المشاهدين لتأملها كما ينبغي خصوصا إذا كانت تتعلق بدس سم اليهود في عسل الإنسانية كما حاول المخرج (كريستوفر نولان) الذي حظي بإشادات واسعة في أغلب الصحف الإسرائيلية أن يمررها لكسب تعاطف المشاهدين مع العالم اليهودي المسؤول ليس فقط عن صناعة أول قنبلة نووية في تاريخ البشر، ولكن وهذا هو الأهم عن التحول المرعب في عالم التسلح وفتح أبواب الأسلحة النووية فائقة التدمير.
طوال مدة الفيلم التي اقتربت من الثلاث ساعات أغلبها يشبه الأفلام الوثائقية من حيث رتابة الأحداث والاستغراق المطول في الحوار، لم استطع تحديد ما إذا كان (نولان) الذي قام بإنتاج الفيلم، بالمشاركة مع زوجته (إيما توماس) يريد أن يقود المشاهدين إلى قناعة نهائية بالتعاطف مع أوبنهايمر أم يريد بخبث الإشارة إلى إنه كان يدرك جيدا ما يفعله ومن ثم يتحمل المسؤولية كاملة عن كل الدمار الذي حدث ويحدث ويمكن أن يحدث في المستقبل بسبب الأسلحة النووية.
أوبنهايمر.. مواقف مختلفة
الحيرة جاءت من تضارب تعامل سيناريو أوبنهايمر مع مواقف مختلفة، فهو يدفع الناس للتعاطف مع الفيزيائي عندما يصور ندمه الشديد على صناعة القنبلة النووية بعدما سمع عن الدمار الهائل الذي سببته، ووقوفه ضد الاستمرار في إنتاج القنبلة الهيدروجينية منعا لسقوط المزيد من الأبرياء حتى مع ما ترتب على موقفه الرافض من تبعات تمثلت في تعرضه لملاحقات من لجان التحقيق المستفزة في ذروة ازدهار المكارثية في أمريكا انتهت بسحب ترخيصه الأمني وابتعاده بالتالي عن البرنامج النووي الأمريكي بالكامل، أو حتى من لويس ستراوس اليهودي الآخر الذي كان مسؤولا عن لجنة الطاقة النووية وأراد أن يقدمه قربانا للحصول على منصب وزير التجارة في بلاده.
كما حاول المخرج تبرير حماس أوبنهايمر الغريب لصناعة القنبلة النووية برغبته في كبح جماح النازية وزعيمها ادولف هتلر من الاستمرار في قتل ملايين الأبرياء وإحراق اليهود.
إقرأ أيضا : عصام السيد يكتب: إضراب هوليود
في المقابل قدم السيناريو الذي كتبه نولان بنفسه نقلا عن كتاب (بروميثيوس الأمريكي.. انتصار وانكسار روبرت أوبنهايمر)، لكل من كاي (بيرد ومارتن جاي شروين) مشاهد تبعد الناس عن التعاطف مع الفيزيائي اليهودي الألماني بداية من وصفه على لسان (الجنرال جروفز) الذي اختاره لرئاسة البرنامج النووي بأنه مغرور ومتغطرس وشهواني، وهو ما يوضح للمشاهدين سبب حماسه لتصدر مشروع صناعة القنبلة النووية حتى يتمكن من تسطير أسمه في التاريخ، كما أن هذه الصفات غالبا هي سبب إصراره على المضي قدما في مشروعه حتى بعد انتحار هتلر وهزيمة ألمانيا وتجاهل نصائح مساعديه ومناشداتهم له بالتوقف عن المشروع الذي يمكن أن يجلب الدمار والخراب على العالم لعقود طويلة مقبلة.
أوبنهايمر وأينشتين
عن نفسي توقف أمام ملاحظة لم أكن انتبه لها في السابق وهى أن المسؤولين عن صناعة أكثر الأسلحة في تاريخ الإنسانية دمارا وفتكا بالبشر هم اليهود بداية من الفيزيائي الشهير (أينشتاين) صاحب نظرية النسبية صاحب معادلة (E = mc^2) التي جعلت القنبلة النووية ممكنة من الناحية النظرية، ومن ثم وفرت الأساس العلمي للمشروع الذي أشرف عليه اليهودي الآخر أوبنهايمر لإنتاج أول قنبلة ذرية وما تلاها من تطوير للبرنامج النووي الأمريكي، وقد كان المشروع يضم إلى جانبه العشرات من علماء الفيزياء اليهود الذين حظوا برعاية كاملة من أوبنهايمر.
المضحك في الأمر هو الإصرار على تصوير علماء اليهود على أنهم دعاة سلام وحرص على الإنسانية وسلامة البشر عبر التركيز على بيان (أينشتاين) مع الفيلسوف الإنجليزي (برتراند راسل) الذي سلط الضوء على خطر الأسلحة النووية، رغم أن الفيزيائي الألماني اليهودي كان أول من حث الولايات المتحدة على اقتحام مجال أبحاث التسليح النووي برسالته التي أرسلها عام 1939 إلى الرئيس الامريكي آنذاك (روزفلت) يوصيه فيها باجراء بحوث معمقة في إنتاج القنابل النووية خوفا من نجاح ألمانيا النازية في إنتاجها قبل الولايات المتحدة، كذلك تصوير ندم أوبنهايمر وسعيه لإثناء الحكومة الأمريكية عن الاستمرار في بحوث صناعة القنابل الهيدروجينية رغم أنه هو المسؤول الأول عن إنتاج القنبلة النووية، ولو كان استمع لمساعديه وأصدقائه وخفف من حماسه لصناعة تلك القنبلة فربما كان حال العالم قد اختلف كليا في السنوات التالية.