بقلم: محمد شمروخ
مثل كثير من مؤسسات (الجمهورية القديمة) بدا على مسجد عمر مكرم أنه في طريقه إلى الزوال وكل من عليها فان وقدر ومحتوم.. وهييييه دنيا!، ففي آخر مرة ذهبت فيها لأداء واجب عزاء منذ أيام في احدى قاعات العزاء هناك، انتابنى حزن شديد هذه المرة على القاعة نفسها، فهى القاعة التى اعتادت أن تكون ملتقى لمواساة أهل المتوفين الذين يقام عزاؤهم فيها لكبار القوم وكريمة المجتمع، كبار القادة كبار الكتاب، كبار التجار، كبار الفنانين، كبار المعارضين، كبار اللصوص، المهم إنهم كبار.
فالعزاء في عمر مكرم كان يعنى الكثير، فالصدور كانت تنتفخ بالفخر أكثر من الحون لوفاة الفقيد والرؤوس تنحنى للقادمين للعزاء أشد ما تنحنى لجلال الموت ذاته.. الموت نفسه كان هنا مجبرا على الافتخار بمقعد مندوب السيد الرئيس ولو كان شاغرا لعدم مكوثه كثيراً، لكن قبل أن أترك المكان نظرت الى جدران المسجد المجللة بالظلام من الخارج، فرأيتها هى الأولى بتقديم العزاء لها، لأنها تبدو حزينة حزن الثكالى في وهن شيخوختهن أو الأرامل في شرخ شبابهن، وداهمنى شعور بغيض بحلول نهاية عهدها الذهبي واستقبال عهدها الترابي، ومن التراب وإلى التراب نعود!
آه وآه وآه من ذلك الشعور الخانق الذي يهاجمنى الآن كما سبق أن هاجمنى مثيله في كل زيارة لمبنى الإذاعة والتلفزيون بماسبيرو، فتخنقنى رائحة المجارى الضارية وأنا أهم بدخول الريسبشنن قبل أن أخطو على آثار خطوات جمال عبد الناصر والسادات وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم، وما لا يعد ولا يحصى من نجوم مصر في كل المجالات، وكلهم أو معظمهم خرجت جنائزهم من مسجد عمر مكرم او أقيم عزاؤهم في قاعاته.
إنه الإحساس نفسه الذي يطاردنى وأنا أمر بجوار أى من المؤسسات الصحفية والإعلامية القومية الأخرى أو دور السينما والمسارح والمحلات العتيقة، وهكذا حظ مسجد عمر مكرم وهو يفقد بريقه الذي طالما قاوم زواله مرارا أمام هجوم كاسح من مساجد أخرى دخلت ضده حلبة المنافسة، مثل الحامدية الشاذلية في المهندسين وآل رشدان في مصر الجديدة، لكنها لم تزحزحه وظل عمر مكرم في الصدارة للكبار فقط، وأى قاعات عزاء في أى مسجد آخر كانت تعامل كبديل قريب من عمر مكرم لأنهم لم يجدوا فيه حجزا في يوم مناسب وقريب ليوم الوفاة.
حجز العزاء في عمر مكرم
هل تعلم أن البعض كانوا يؤخرون العزاء مددا طويلة انتظارا لقائمة حجز عمر مكرم؟!، حتى كما قيل إن من لم ينشر نعيه في (الأهرام) كأنه لم يمت، كذلك يمكن أن يقال إن الذي لا يقام له عزاء في عمر مكرم، كأن لم تكن له جنازة.
وكم خرجت نعوش لزعماء وقادة ومفكرين وعلماء ووزراء ووزراء وسفراء وكبار موظفين وتجار ونجوم في كل المجالات حتى عهد قريب، من باب عمر مكرم نهارا ليقام عزاؤها في الباب الموازى، وكم زين اسم عمر مكرم وصايا الراحلين وجلل نهايات الأنعية في رؤوس أعمدة الصفحة قبل الأخيرة في الأهرام!
لكن قبل وقت قصير، ظهر منافسون أقوياء لا يبارورن، زاحموا عمر مكرم، بل تزلزل عرشه تحت ضربات مسجد كمسجد المشير طنطاوي مثلاً، باتساع قاعاته وتعددها والساحات الفسيحة لانتظار السيارات واللوحات الإرشادية المضيئة بالألوان الحمراء التى تبدأ صباحا بزغاريد كتب الكتاب وتنتهى ليلاً بقراءة الفاتحة على أرواح المرحومين!.
وعلى شاكلة قاعات المشير، بدأت مساجد أخرى في توزيع تركة عمر مكرم على حياة عينه، كالشرطة والشربتلى وأشباههما، فالشوارع حول عمر مكرم ضيقة خانقة أغلقت معظمها حواجز تأمين السفارات، بينما يطارد سيارتك ونش المرور والبلطجية من سياس مواقف السيارات، خاصة بعد تقنين بلطجتهم وأصبح بإمكان أى منهم ان يدب صوابعه في عين أجدعها صاحب سيارة، بشرط ألا تتبعه سيارة سوداء للحراسة!
لكن انظر حولك تعرف سر خفوت نجم عمر مكرم، فلم يعد المسجد تطل شرفات مئذنته على مبانى مجلسى النواب والشيوخ (الشعب والشورى يعنى) ولا مجلس الوزراء والوزارات والهيئات العليا والمؤسسات الكبرى التى بدات في الرحيل عن قلب القاهرة إلى القلب الجديد في أقصى الشرق.
وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي في وداع ملك سلاطين بنى عثمان من خلال رثاء قصور يلدز في إسطنبول:
أخنى عليها ما أناخ على الخورنق والسدير
ودهى الجزيرة بعد إسماعيل والملك الكبير.
ويقصد شوقى بالخورنق والسدير، القصرين الشهيرين للملك النعمان بن المنذر في الحكايات العربية في الجاهلية، وبالجزيرة، قصر الخديوى إسماعيل في جزيرة الزمالك والذي أهمل بعد خلعه ونفيه، فلن يبق لعمر مكرم إلا القليل من المستمسكين بأهداب عهد لا يأبى إلا الرحي..
لقد رأيت بعينى أحد عمال النظافة وقد غط في نوم عميق أمام باب القاعة الصغيرة المغلقة المجاورة لمدخل المسجد على الشارع الرئيسى وكان نومه آمنا يؤكد أن أحدا لن يوقظه لفتح القاعة.
حال العزاء في عمر مكرم
باختصار: حال العزاء في عمر مكرم هو حال القاهرة التى اتسع وصف القديمة ليبتلع أحياءها جميعاً حتى الحديث منها، فقلب القاهرة لا يطاق، لا للسكن ولا للعمل، فإن تذهب بسيارتك صار عبئا، وإن تذهب بأى وسيلة أخرى، فذلك أكثر إهدارا لوقتك وربما لآدميتك، فعليك أن تتحمل العشوائية وتنمر رجال المرور وأصابع بلطجية المواقف في عينيك.
فقلب القاهرة التقليدية بوسطه وكورنيشه ونواصيه وما يمثله من سطوة وجاه ونفوذ، كان يستمده من ثقل مبانى للوزارات والمؤسسات المالية والسياسية والإعلامية والفنية والتجارية والتنفيذية، لكنه لما شاخ وهرم وتصلبت شرايينه ووهنت عظامه وتجلطت دماؤه، تركته لغيره، بعد اختنقت بتلوث العوادم وعشوائية الحركة في السير والوقوف للمشاة والراكبين، حتى السير على الأقدام لعبور شارع او ميدان، صار معاناة قد تصل للمغامرة بالحياة.
بصراحة: مؤسسات قلب القاهرة لم تعد تناسب العصر الجديد، وصارت رموزا لعهد بائد، لم يعد يرغب فيه أحد من سادة العصور الجديدة، اللهم إلا كخلفيات كلاسيكية لكافى شوب عملاق يحتل كل المساحات التي شغلها هذا القلب!.
فلم تعد القاهرة القديمة أرضا للنفوذ كما ظهرت في السينما والتلفزيون، حتى النيل صار قابلا للتقليد بعد أن أمكن صنع أنهار تفور بالمياه في قلب الصحراء!.
وبصراحة:عمر مكرم لم يعد ملك الجنازات، تماماً كما أن ماسبيرو لم يعد سيد الأثير.
وها هى الأهرام والأخبار والجمهورية والوفد والمصرى اليوم، تتقلص صفحاتها يوما بعد يوم وقريبا جدا سنتسابق متلهفين لشراء آخر نسخة من آخر عدد لكل جريدة، فقط للاحتفاظ به في دولاب التحف والنوادر.
كما يبدو أن جامع عمر مكرم سيلقى مصير صاحب الاسم الذي لا تربطه علاقة به سوى الاسم، فعمر مكرم لم يدفن في المسجد ولاصلى ولاكان يوما إماما لصلاة فيه، بل إن مبنى المسجد والمنطقة نفسها لم تكن شيئا أيام حياة عمر مكرم، إذ كانت بركا ومستنقعات يبتلعا النيل في فيضانه أو يتركها قفرا بلقعا أيام جفافه.
لكن الزعيم الشعبي عمر مكرم قد مات منزويا بعد أن سمح له محمد على بالعودة من منفاه في دمياط، مع أنه كان صاحب الفضل الأول في ارتقائه سدة الحكم في القاهرة وأصعده بنفسه إلى القلعة التى كانت مقرا للحكم يوما، فهذا المسجد لقى مثل ما لقى صاحب اسمه، ففيما العجب؟!
القلعة تحولت إلى عابدين وعابدين تحول إلى القبة والقبة إلى منشية البكرى ومنشية البكرى للجيزة ومن الجيزة إلى مصر الجديدة!، والأرض بتلف والزمن دوار يا صاحبي ولا دايم إلا وجه الله تعالى.
(المهم ما نجيلكوش في وحش ولا أراكم الله مكروهاً في عزيز لديكم وأهو كاس وداير وكل من عليها فان.. بس اللى يتعظ).