في ذكرى نور الشريف وحوار نادر مع نجيب محفوظ (2/2)
كتب : أحمد السماحي
نحيي اليوم الذكرى الثامنة لرحيل النجم الكبير نور الشريف، الذي أثبت في كثير من أفلامه أن الممثل الجيد قادر أحيانا على أن ينقذ فيلما، وأن يقدم على طريقته الخاصة وبموهبته فقط عالما له أبعاده وانعكاساته وتأثيره، نور الشريف الذي جاء اسمه على صفحات أشهر قاموس فرنسي (لاروس) ــ LAROUSSE ــ وتحدث عنه في بضعة سطور، وتناول مولده وأول أعماله وأشهر أفلامه، أمس توقفنا معكم عند الجزء الأول من حوار ممتع بين (نجيب محفوظ ونور الشريف) أجرته الكاتبة الصحفية نعم الباز أو (ماما نعم) في مجلة (آخر ساعة) عام 1980، وهو حوار مختلف تماما عن الحوار الذي أجراه نور الشريف مع نجيب محفوظ على صفحات مجلة (نصف الدنيا) في نهاية تسعينيات القرن الماضي، والآن تعالوا بنا نستمتع بالجزء الثاني من الحوار النادر.
* نعم الباز: ما رأيك يا نور في نفسك في فيلم (قصر الشوق) وما هو موقع قصر الشوق في أدب نجيب محفوظ بالنسبة لك؟
** نور الشريف: وأنا صغير كنت مدمن سينما، وكنا ندخل سينما (إيزيس) وسينما (الشرق) في حي السيدة زينب، كنت أتمنى أن أمثل (أوليفر تويست)، وحينما كبرت والتحقت بالمرحلة الإعدادية بدأ اهتمامي بالتمثيل يزيد، وقرأت الثلاثية فتمنيت أن أمثل شخصية كمال عبدالجواد في (بين القصرين)، و(قصر الشوق)، ولم يخطر على بالي في مثل سني أن أصلح لتجسيد دور كمال عبدالجواد في فيلم (السكرية) وهو رجل كبير، وحينما تخرجت من معهد التمثيل كنت قد مثلت أربع حلقات من مسلسل (القاهرة والناس) وكان المخرج حسن الإمام يبحث عن شاب يمثل دور كمال عبدالجواد في فيلمه (قصر الشوق) وللصدف الغريبة أن زميلي الفنان عادل إمام هو الذي رشحني للدور رغم عدم معرفته بي، فقد رآني وأنا أؤدي امتحان دبلوم معهد التمثيل وقال لحسن الإمام : (فيه ولد اسمه محمد جابر عمل دور هاملت كويس، ويصلح لدور كمال عبدالجواد).
وفوجئت بالأستاذ حسن الإمام يرسل لي لإجراء اختبار، وكان أستاذي نبيل الألفي، قد زكاني للدور، والحمد لله مثلته، وأنا أطلق عليه اسم (ابني البكري) وبالرغم من أنه كان أول تجربة لي في السينما، وأنا أساسا دارس مسرح فقد نلت عنه جائزة وزارة الثقافة في نفس العام.
نور الشريف والثلاثية
* نعم الباز: يا نور ما موقع قصر الشوك أو الثلاثية عموما في حياتك كقارئ نهم ونحن هنا لسنا في مجال تقييم، فنحن لا نستطيع أن نقيم البحر ولا النجوم، ولكننا نحاول أن نجد إطارا نضع فيه قصر الشوق؟
** نور الشريف: أنا شخصيا أشبهها بشوامخ الأدب اليوناني، فقد كانت هناك مسابقات تقام في الأعياد الدينية، حيث يقدم المؤلف ثلاث مسرحيات تراجيدي تكمل كل منها الأخرى، إن (قصر الشوق) وهى الجزء الأوسط من الثلاثية لا يقل قيمة عن التراث اليوناني منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ومازال يعيش حتى الآن، وهكذا أدب أستاذنا نجيب محفوظ، سيظل حيا لأنه عمل متكامل يصف لسنوات طويلة تاريخ مصر بكل تكويناتها الاجتماعية والبطولات السياسية، وسيظل كتراث أدبي عن العبقرية المصرية.
* نعم الباز: هناك سؤال يؤرقني شخصيا حتى الآن ووسائل الإعلام لا تساعدني لأكون وجهة نظر فيه، ما رأيكما: هل يجب أن يكون للأديب أو الفنان مذهب سياسي يكون ملتزما به، أو يترك نفسه لرد فعل تلقائي لإدراكه لجمع الأحداث التى تدور حوله؟
** نجيب محفوظ: بالنسبة للسياسة لا ينبغي الاختيار أن تكون سياسيا أو غير سياسي أو ميالا لهذا الرأي أو ذلك، هذه ليست أشياء اختيارية كشراء شيئ يعجبك، أنها أشياء تفرض ذاتها.
** نور الشريف: أنا أختلف مع حضرتك في هذه النقطة، لأنه نتيجة لظروف مختلفة في بناء الإنسان المصري بعد الثورة أصبح هناك منافقون يدعون الإيمان بمذاهب سياسية معينة وهم غير مؤمنيين بها.
** تدخل نجيب محفوظ وقال: نحن نتكلم عن الصادقين، فإذا حدث أن الإنسان أصبح له ميل سياسي معين فماذا يفعل كفنان؟ يجب هنا أن يمارس رأيه السياسي لكن على أرضية إنسانية، وليس على أرضية شخصية.
** تحمس نور الشريف ورد قائلا: أشكرك لأن عندي نقطة أود توضيحها لكي أشعر برضى بيني وبين نفسي، وعي أن لا يكون الفنان بوقا! وأن يظل الفنان والأديب أعلى من أي سلطة لأنه لو كنت أديبا، وكتبت عن اقتناع ولست بوقا للدعاية لمذهب انتمائي لحزب معين، وبعد سنة اكتشفت أن هذا الحزب أو القائمين عليه ضلوا الطريق إذا تراجعت فسأكون أمام قرائي إنسانا غير مستقر على رأي.
** ورفع نجيب محفوظ حرارة الحوار برده حيث قال: هذا صحيح، وحتى لو كنت قد استقررت وساعدتك الظروف على الاستقرار فسوف تظهر ضيقا والمسولية سوف تجعلك ترى أبعادا وتعرف الصديق من العدو.
نور الشريف: الفن ليس تسلية
** وفتح نور الشريف ملفا هاما في الحوار حينما قال: نقطة أخرى تؤرقني يا أستاذ نجيب، البعض يدعون أنهم تقدميون في الفن والأدب، وبما أنه تقدمي لابد أن يوصل إبداعه للفلاح والعامل قبل المثقف، أفاجأ بهذا المدعي يكتب بلغة المثقف نفسه لا يفهمها، هنا ينتقي الدور الرئيسي للفن، لأن الفن في النهاية ليس تسلية ولا الأدب أيضا تسلية مهما اختلفت المدارس.
** أكمل نجيب محفوظ وهو يزيد من قراءة أوراق اللعب : طبعا الفن أساسا للناس، والتجارب الفنية تختلف سهولة وصعوبة، والفنان يجب ألا يصطنع أو يفتعل الصعوبة، هذا لا يكون فنانا أبدا، إنما إذا كانت التجربة صعبة فعليه أن يصل إليها بأقرب الطرق التى تقربها من السهولة أو اليسر في حدودها فقد تظل صعبة، هنا لا يستطيع الفنان أن يضحي بها فيحاول جهده للتقريب ويبذل جهده بالنسبة لإيصالها للشعب، ولا تنس أن الشعب لا يقرأ، وهناك وسطاء آخرون مهتهم إعادة تسهيلها حتى تصلح للوسائل التعبيرية الأخرى فتصل للرجل العادي بطريق على درجة أو درجتين من المحاولات، ومن المساعدة بدلا من التصحية بتجربة إنسانية ضخمة تضيع بإسم السهولة.
** واستكمل نجيب محفوظ وجهة نطره قائلا: طبعا نحن نود أن نكون مفهومين، ونود أن نكون أسهل، ولكن ماذا نفعل إزاء تجربة أصعب؟!، ولو ضحينا بها نكون قد ضحينا بالفن، إذن يجب أن نكون على درجة من الصعوبة لكن ليست الصعوبة المفتعلة، تلك الصعوبة التى تكون قد بذلت جهدا لتيسيرها، وبعد ذلك هناك من يستطيعون توصيلها للصورة المرئية أو المسموعة بتسهيل جديد.
** ودخل نور الشريف عالم نجيب محفوظ ليضيف: المفروض في رأيي أن تدعم الدولة الكتاب أكثر مما تدعم رغيف العيش، وأنا اقترح أن تحمل نداء لدعم الكتاب، وهذا النداء سوف يكون له وزن وقيمة لأنه من كاتب كبير، فمثلا مكتبتي التى يبلغ عددها ألفي كتاب كونتها وأنا طالب، وكان ثمن الكتاب عشرين قرشا وأغلى كتاب ثمنه جنيه واحد، الآن الكتاب يصل ثمنه إلى عشرة جنيهات.
نور الشريف 15% يريدون الكتاب
** نعم الباز: هناك عامل هام هو أن الأمية في الدولة 75%، أي أن 75% يريدون الرغيف، و25% يريدون الكتاب، بل أن الذين يريدون الكتاب لا يزيدون عن 15%.
** وأطلق نور الشريف سهما وقال: لكن الـ 15% هم الذين يقودون المجتمع.
* نعم الباز: نؤسس مكتبات عامة ونكثر منها ونشجع التردد عليها.
** نجيب محفوظ: هذه المسألة أصبحت ملحة على ذهن كل مسئول والحديث فيها لا ينتهي.
** وتعرج الحوار حينما قال نور الشريف: أنا من رأيي أن نخفض ساعات الإرسال التليفزيوني فهي لا تسبب البعد عن القراءة فقط بل تسبب الارتخاء في عضلات الجسم حيث الجلوس دوما أمامه.
*نعم الباز: هل شاهدت التليفزيون الإنجليزي يا أستاذ نجيب؟
** نجيب محفوظ وهو يبتسم ابتسامة تضم كل السعادة بما يقول: لا لم أره لأنني لم أسافر.
* نعم الباز: أن التليفزيون هناك ينتهي إرساله في الساعة الحادية عشر، وساعات الإرسال أقل من عندنا، وأيام السبت والأحد تتأرجح القناتان بين رياضتي الفروسية، والكرة وهى رياضات مدروسة تناسب جوهم وحياتهم.
** نور الشريف: هذه أشياء تؤثر في الناس سمعنا قديما أن يوسف وهبي وفاطمة رشدي كانا يقدمان مسرحيات باللغة العربية مترجمة عن الإنجليزية والفرنسية، وكان الناس يقبلون عليها، لقد صدمت حينما قدمت مسرحية (بكالوريوس في حكم الشعوب) وكان الناس يخرجون في الفصل الثاني لأن المسرحية كانت لشغل عقول الناس وأذهانهم وهم لا يريدون هذا!.
** ورد نجيب محفوظ: الأصالة في الجمهور يا أستاذ نور، أن الذي كان يدخل المسرح زمان كان هو نفسه قارئا لطه حسين والعقاد والمازني، جمهور أحسنت تربيته، نحن نعمل على تكوين هذا الجمهور من جديد.
* نعم الباز : كيف يكون الجمهور من جديد؟
** نجيب محفوظ: الشباب الذي قرأ زمان لطه حسين والعقاد والمازني أصبح بدلا منه جيل جديد، وتحولت المكتبة في عصره إلى تليفزيون وديسكو وقاعة للفيديو، لهذا لا بد أن يتحول التليفزيون لمكتبة مرئية مليئة بالمعلومات، ونحرص على استضافة كل القمم في كل المجالات حتى تضيئ عقول شبابنا، ونقدم لهم الراقي والمفيد ونبتعد عن الإسفاف والتفاهات ومناقشة قضايا عقيمة، ونقدم أعمال تليفزيونية مهمة وفيها فكر ومليئة بالمتعة، وقتها سنقدم من خلال التليفزيون جيل جديد مثقف.