بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
كنت أحتاج إلى أي إشارة أو بشارة خير تهدئ من روعى، لتأتيني صادحة من راديو رجل الأمن، و من عشرات الحناجر للكورال خلف المطرب محمد رشدى، مرددين: (يعوض الله.. يعوض الله.. يعوض الله)، كانت اللحظة عصيبة، فهو اختبارى العملى النهائي في الكيمياء بكلية العلوم، والتجربة التي كانت من نصيبى غاية في التعقيد، لم أكن راضيا عن نتائجها بشكل كاف حتى أنى خرجت من المعمل مشحونا بالغضب وبالشك في النجاح.
وفي مراهقتى وحينما شاهدت محمد رشدي بكامل الشاشة الضخمة مبتسما على حافة المركب يغنى:
طاير ياهوا طاير ع المينا
رايح يا هوا تخبر اهالينا
قصة الهوا وتفتن علينا
أمرك يا هوا خبر اهالينا
ليمتلكني الحماس مرددا أنا الآخر لنفسى: صح كدا..خللى الهوا يروح البيت عندنا ويقولهم واللى يحصل يحصل بقى).
إقرأ أيضا : تعرف على الأغنية التى تنازل عنها (الموجي لبليغ حمدي) وغناها محمد رشدي
في عهد الملك فؤاد – يوليو 1925 – ولد محمد رشدى، صاحب يعوض الله، في بيت جده برشيد/ محافظة البحيرة، ليعيش بعد ذلك طفولته في مدينة دسوق في بيت فقير كعامة المصريين في هذا الوقت:
(كان أبويا له قمينة طوب بيشتغل فيها أنفار، وكانت مهمتى اليومية انى أقوم بإيقاظهم في الفجر والبقاء معهم طول اليوم، فكنت أغنى لهم يعوض الله، كانت القمينة في جزيرة وسط ماء النيل وهى رأسمال أبى اللى ضاع في الفيضان، كان عمرى 9 سنوات).
أبو محمد رشدي كان عاشقا للغناء
وبمناسبة أبيه فقد كان عاشقا للغناء، يصطحب ابنه محمد رشدي معه ليسمع المداحين والصييته في دسوق وقراها، وكانت هذه أولى مراحل تكوينه الفني، لتتبعها مرحلة ليلى مراد، حيث سمعها للمرة الأولى تغنى في فيلم في السينما،كان غنائها مختلفا عن الصييتة بدرجة صادمة، حتى أنه بكى لذلك وأصبح حلمه أن يغنى بطريقتها.
في مجالس السهر في دسوق بدأ الطفل محمد رشدى في التغنى بأغانى ليلى مراد، ليتبناه معاون الصحة محمد أفندى الدفراوى (عم الفنان محمد الدفراوى)، ليبدا في تعليمه العزف على العود والمخارج الصحيحة للألفاظ، وكان استخدام الميكروفون في الغناء حديث عهد فدربه عليه الدفراوى بدلا من الاعتماد المطلق على جهورية الصوت.
إقرأ أيضا : فى ذكرى ميلاده .. (محمد رشدي) يطلب (حلمي بكر) فى بيت الطاعة !
وبدأت الأقدار لعبتها المفضلة، فقد جاءت إلى دسوق فرقة موسيقية بقيادة (كامل إبراهيم)، وهى الفرقة المصاحبة للمطرب (محمد عبد الوهاب) في كل حفلاته، وقبل صعود نجمة الحفل المطربة (رجاء عبده) صعد الطفل محمد رشدى إلى المسرح وغنى بعضا من أغاني ليلى مراد ليتلقفه بعد الحفل قائد الفرقة (كامل إبراهيم) ناصحا له أن يأتي للقاهرة لدراسة المزيكا، ولكن قوبل العرض بالرفض من أبيه لخوفه من الفشل وضياع الجهد والمال الشحيح.
ياتى بعد ذلك نجاح (فريد بك زغلول) في انتخابات مجلس النواب وأقام لذلك حفلا ضخما في قصره بدسوق ودعى إليه مطربة العصر (أم كلثوم)، وبين الفقرات الساهرة وأثناء العشاء الذى كانت (أم كلثوم) تشارك فيه النساء في الحرملك، صعد محمد رشدى على المسرح الخالى ومعه طبيب الوحدة (د. لطفى) الذى أخرج من جيبه (مشطا) استعملها كعصاة مايسترو لفرقة غير موجوده سوى في خياله بينما انطلق معه (محمد رشدى) يغنى لأم كلثوم أغنية (أنا في انتظارك).
وصفق الحضور بحماس، ووجهه البعض دفعا إلى حيث تجلس (أم كلثوم) في حجرة انتظار كبيرة لتمسك بيده في إعجاب و تسأله: انت بتغنى فين يا واد؟
محمد رشدى يسافر للقاهرة
هنا في دسوق..في الأفراح.
التفتت (أم كلثوم) إلى (فريد بك زعلوك) الولد دا صوته يجنن، وهيبقى حاجه.. خد بالك منه يا فريد.
ووعد (فريد بك زغلول) أم كلثوم أن يتوسط له ليدرس في معهد الموسيقى بالقاهرة، وهنا لم يستطع الأب رفض تشجيع أم كلثوم ولا وساطة فريد بك زعلوك، الذى سافر إلى القاهرة ودعى محمد رشدى للحاق به إلى هناك.
ولكن في القاهرة أين سيسكن محمد رشدى؟
نصح الأقارب أبيه أن يسكن عند رجل من دسوق وهو (أحمد المنشاوي)، والذى يعمل فراشا في مكتب المطرب (محمد عبد الوهاب)، لتكون هناك فرصة في لفت نظر المطرب الكبير إليه.
في القاهرة أرسله (فريد بك زعلوك) مع توصية إلى معهد الموسيقى، كان المتقدمين أكثر من 500 متقدم وتمت التصفية إلى 7 أصوات فقط كان محمد رشدى من بينهم لتبدا رحلته بالمعهد من جهة.
ولإخلاص (فريد بك زعلوك) قدم محمد رشدى إلى الصحفى محمد حسنين هيكل، وجعله يستمع إليه ليعجب به هو الآخر إعجابا كبيرا، فتفتح الصحافة أبوابها للصوت الجديد، ومشروع الفنان القادم، ولكى يدبر محمد رشدى بعضا من مصاريفه فقد عرف الطريق إلى شارع محمد على فيغنى في الأفراح.
سكن محمد رشدى مع (المنشاوى) في حجرته الفقيرة في باب الشعرية، وحينما كان يذهب إليه في مكتب محمد عبد الوهاب والذى يعمل به فراشا كان يلزمه بعدم الخروج من البوفيه، ولكن كان عبد الوهاب كلما نادى (المنشاوى) أسرع محمد رشدى إليه ليلبى له طلباته من إعداد اليانسون أو الذهاب لشراء كميات هائلة من الطعام يلتهمها محمد عبد الوهاب في سرعة عجيبة.
محمد رشدى في مكتب عبد الوهاب
كان محمد رشدى يلقى بسمعه إلى مكتب محمد رشدى وهو يلحن فالتقط منه لحن (انت انت ولا انتش دارى) فحفظه عن ظهر قلب وغناه في كل مكان، و كان سعيدا بردود الأفعال، حتى جاء اليوم الذى غنى فيه عبد الوهاب لحنه لتنفجر المفاجاة من خلال الصحافة (عبد الوهاب يغنى أغنية خاصة بمطرب ناشئ في الأفراح)، لينفجر عبد الوهاب غاضبا ويبحث عن الجاسوس الموجود في المكتب، ويقوم المنشاوى بطرده من المكتب على الفور، بل وطرده أيضا من حجرته.
أثناء عودة محمد رشدى من إحدى زياراته إلى دسوق، و بينما هو جالس في محطة طنطا ينتظر القطار اذا بصوت يناديه: (يا فنان..با فنان).
محمد رشدي: انت بتنادى عليا ؟
هو فيه فنان غيرك هنا في المحطة؟
بس ايه اللى عرفك انى فنان؟
انت مش معاك عود؟.. تبقى فنان
طب مش نتعرف؟
وكان الاسم الذى سمعه والذى سيصبح له دورا هاما في بقية الرحلة القادمة لمحمد رشدى وللفن المصرى و العربى كاملا.
(البقية في الحلقة القادمة).