رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمود حسونة يكتب: أوبنهايمر .. إبهار فني ورسائل سياسية

بقلم: محمود حسونة
كثير من الأعمال الفنية لا يدرك وجودها ولا يحس بانطلاقها سوى صناعها والمحيطين بهم، وقليل منها تنجح في الانتشار داخل الدولة التي ينتمي إليها صناعها، وقليل القليل ينجح في تجاوز الحدود والوصول إلى عالم أوسع، ومعدود على أصابع اليد الواحدة الذي ينتشر عالمياً ويثير حالة من الجدل في جميع أنحاء الكوكب، يختلف حوله الناس، يشيد به البعض وينتقده البعض الآخر، ولكن يستمتع به الكل بصرف النظر عن مواقعهم الجغرافية وانتماءاتهم السياسية وفئاتهم الاجتماعية ومستوياتهم الاقتصادية وتفاوتهم التعليمي والثقافي، وإلى هذا النوع ينتمي الفيلم الأمريكي أوبنهايمر، الذي يعرض حالياً في كل صالات السينما حول العالم، باستثناء الصالات اليابانية والسبب أنه يحيي داخلهم وداخلنا جراح لم تندمل وهى الجراح النفسية التي خلفها إلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي.
الفيلم تجاوز المعقول في الجدل المثار حوله، وتجاوز المعتاد في أرقام إيراداته، وأصبح حديث الأجيال حول العالم، يحرص على مشاهدته الكبار الذين سمعوا عن كارثتي هيروشيما ونجازاكي من ذويهم، والشباب المهتمون بالتاريخ وبالسينما، البعض يشاهده لأسباب تاريخية والبعض يشاهده لأسباب فنية. يختلف الناس حول مضمونه التاريخي وتركيزه على السيرة الذاتية لمخترع القنبلة النووية روبرت أوبنهايمر، وتجاهله لعواقب وآثار التفجير التجريبي في صحراء نيو مكسيكو على الفلاحين والرعاة والسكان الأصليين هناك، وكذلك تجاهله لما حدث في اليابان وخصوصاً في المدينتين المنكوبتين جراء إطلاق القنبلة عليهم، يختلفون أيضاً حول مدته التي تصل إلى ثلاث ساعات، ولكنهم يتفقون حول عبقرية مخرجه (كريستوفر نولان) مبدع التحف السينمائية وصاحب، (انسبشن، دارك نايت، انترستيلر)، صانع السحر والإثارة ومحرك العقول وقاطع أنفاس مشاهديه، والذي أرعب المشاهدين في صالات السينما خلال التفجير التجريبي للقنبلة الذرية الأولى في العالم في صحراء نيو مكسيكو، صمت وتركيز، يقطعه صوت انفجار مدوٍ ونيران تغطي الشاشة وتغطي العالم وشظايا تتطاير وسط النار، وكأنها موجهة إلى الجالس في صالة السينما، وموجهة لكل من لا يرضخ للإرادة الأمريكية، ناهيك عن تغير ملامح الوجوه التي تصبح مسخاً بشرياً.

أوبنهايمر.. ثلاث ساعات مدة طويلة لأي فيلم، ولكن العبرة بالنتائج

أوبنهايمر… 3 ساعات متواصلة
نعم، ثلاث ساعات مدة طويلة لأي فيلم، ولكن العبرة بالنتائج، فخلال الساعات الثلاث والمشاهد مشدود، متحمس مستمتع، لا ملل ولا مط، وهذا هو التحدي الأكبر للمخرج الذي يخرج عن القواعد المألوفة ويؤكد أن القضية ليست في مدة الفيلم ولكن في قدرة مخرجه على الاستحواذ على عقل المشاهد طوال وقت عرضه.
الفيلم سيرة ذاتية عن حياة أبو القنبلة النووية في العالم، يسرد سيرته، طموحاته واحباطاته، كَدّه واجتهاده، نزواته الشخصية وتجاربه العلمية، عثراته وفوراته، أراد مبدعو الفيلم إنصاف أوبنهايمر وتبرئة العلماء من الرعب النووي الذي يعيشه العالم منذ 78 عاماً وحتى اليوم وسيزداد غدا وبعد بعد الغد، أجبر اليابان على الاستسلام في الحرب العالمية الثانية وأرضخ شعبها العنيد وأصاب جيشها القوي باليأس، وفي المقابل شكّل خريطة العالم من جديد ونصّب الولايات المتحدة سيدة للعالم، وأنهى زمن الامبراطوريات الأوروبية.
فيلم أوبنهايمر، حاول تبرئة العالم وتحميل السياسيين المسؤولية وحدهم عن الرعب النووي، ولكنني أعتقده لم ينجح في ذلك، فالعلماء كانوا ولا يزالون أدوات في يد السياسيين والعسكريين وأيضاً المجرمين، يصنعون لهم أسلحة الإبادة وأدوات القتل والدمار، ويطورونها، وبهم يدخل الكبار سباقاً للتسلح، وهم الذين يصنعون لهم الأوبئة والفيروسات القاتلة، وهم الذين يخترعون أجهزة وأدوات وأسلحة الإفساد والتسطيح وغسل العقول وتشويه النفوس.
روبرت أوبنهايمر، أهم علماء الدمار والموت والخراب في العالم، فيزيائي عبقري، معقد، ماجن، حالم بالمجد، مهووس بالشهرة، متقلب المزاج والمشاعر والانتماء السياسي، يهودي أمريكي من أصول ألمانية ذاع صيته واشتهر بقدراته العلمية الخارقة، لجأت إليه الإدارة الأمريكية وكلفته اختراع القنبلة النووية، وبنت له مدينة في قلب الصحراء المكسيكية، وجلبت له علماء مساعدون، ولبت كل طلباته، حتى يتمكن من إرساء قواعد القوة والطغيان الأمريكي، بالقنبلة الانشطارية، نجح وأبدع واخترع، وبعد شهر واحد من تجريبها، تم القاء اثنتين منها على مدينتي هيروشيما ونجازاكي يومي 6 و 9 أغسطس 1945، فقُتل 240 ألف إنسان وتشوه الملايين وبقي في النفس الإنسانية جرح عجز الزمن عن مداواته خصوصاً مع تهديدات السياسيين يوماً بعد يوم بحرب نووية جديدة لا تبقي ولا تذر.

قنبلة أونهايمر قتلت ريع مليون ياباني

قنبلة أوبنهايمر تقتل ربع مليون
أوبنهايمر ندم بعد أن قتلت قنبلته ربع مليون إنسان وأطلق على نفسه (الموت)، ورفض تطوير القنبلة الهيدروجينية، وصرخ بالصوت العالي ضد السياسة الأمريكي وحذر من سباق التسلح الروسي الأمريكي، وتمت محاكمته بسبب مواقفه وآرائه واتهموه بعدم الانتماء، ولكن السؤال: ألم يكن يدرك أنه يخترع أقوى أسلحة القتل والإبادة؟ ألم يكن فخوراً بنفسه وكاميرات الإعلام تلاحقه؟ ألم تسعده هتافات الأمريكيين باسمه (أوبي.. أوبي)؟، ألم يعتز بأنه فعل ما لم يفعله أحد قبله؟ لا شك أنه كان مدركاً وسعيداً وفخوراً ومعتزاً، وبعد أن تحقق حلمه ونال الشهرة والمجد، استيقظ ضميره، وأصابته قنبلته القاتلة بلعنة ظلت تطارده حتى وفاته.
فيلم أوبنهايمر، يحمل الكثير من الرسائل السياسية والفنية، يذكر العالم بأن أمريكا هي القوة التي لا تقهر، وأنها وقت التحدي لا تتورع عن هدم الكوكب على ملياراته الثمانية، وأنها مهد العلم والاختراع والابتكار، وأنها مثلما لا زالت تتسيد سياسياً وعسكرياً، فإنها أيضاً لا زالت تتسيد علمياً وسينمائياً.
لا يعني الاعجاب بالصنعة والحرفية والابداع في الفيلم السينمائي، والإعجاب بمضمونه وأداء الممثلين فيه وموسيقاه ومؤثراته الصوتية والبصرية وكوادره، التسليم بما يحمله من رسائل، ولا يعني الاستمتاع الشديد بفيلم عدم انتقاده وفضح المستهدف من ورائه، وفيلم أوبنهايمر، من نوعية الأعمال التي تصفق لها وتمتعك بصرياً وتستفز عقلك ولكن من دون التسليم به وتبني مضمونه.
mahmoudhassouna2020@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.