في ذكرى نور الشريف.. حوار نادر مع نجيب محفوظ (1/2)
كتب: أحمد السماحي
(كل ما عليك هو أن تظهر على وجهك معاني وانفعالات الكلام قبل النطق به) هذه الجملة قالها المخرج حسن الإمام لـ نور الشريف، بعد أن عرف أنها المرة الأولى التى يقف فيها أمام الكاميرا فى فيلم (قصر الشوق)، وطبق الوجه الجديد هذه الجملة فحصد شهادة تقدير من الدولة عن دوره فى هذا الفيلم، وظل يتذكرها طوال مشواره كأول درس تعلمه من مخرج سينمائي أعطاه الفرصة فى السينما لأول مرة.
وانطلق الوجه الجديد نور الشريف الذي نحيي غدا الذكرى الثامنة لرحيله وأصبح نجما سينمائيا وقدم مجموعة من الأدوار الهامة، ومع استمرار المشوار تنوعت أدواره التى عبرت عن أفراح وأوجاع المواطن البسيط ما بين الرومانسية والتراجيدية والكوميديا والأكشن، وحافظ على تألقه الفني فى كل هذه الأدوار
إقرأ أيضا : عبد العزيز السماحي يكتب : نور الشريف .. رجل قاوم إمبراطورية القبح بسلاح الفن والجمال
كان نور الشريف بطلا لعدد من الأفلام المأخوذة عن روايات الأديب العالمي نجيب محفوظ، كان أولها أول أفلامه (قصر الشوق) الذي قدمه عام 1967، بعدها قدم مجموعة كبيرة من الأفلام المأخوذة عن قصص وروايات أديب مصر الكبير منها (المراية، السراب، السكرية، الكرنك، أهل القمة، الشيطان يعظ، أرزاق يا دنيا، دنيا الله، المطارد، وصمة عار، قلب الليل)، جسد نور الشريف أبطال هذه الروايات، وكان هذا يتطلب منه وعيا وإدراكا لأبعاد هذه الشخصيات، ولقد أعجب نور الشريف من سني صباه بنجيب محفوظ وقرأ أعماله، وفي شهر ديسمبر عام 1980 التقى به في دردشة دعته لها الكاتبة نعم الباز في مجلة (آخر ساعة) فماذا دار في هذا اللقاء، هذه مقتطفات من هذا الحوار النادر الذي ننشره اليوم وغدا بمناسبة ذكرى رحيل مبدعنا الغالي نور الشريف.
* في البداية سألت نعم الباز هل الحدث هو الذي يصنع الشخصية أم الشخصية هي التى تصنع الحدث؟
** وأخذ نجيب محفوظ ينقب في السؤال ثم قال: ماذا تعنين في الروايات أم في الحياة؟
* فقالت نعم الباز: الروايات هى الحياة ولا انفصال بينهما، وهذا واضح في أدبك جدا.
** فرد نجيب محفوظ: في الواقع أن بين الحدث والشخصية علاقة جدلية يعني مؤثرة ومتأثرة، وتبعا لأبعاد الشخصية يتحدد الحدث، وحينما يبدأ الحدث قد يغير الشخصية، لذلك فإن التأثير دائما متبادل، نحن حينما نتصور رواية نبدأ بالشخصية لأن أساس العمل الروائي عندي بالذات الشخصية فهى التى تحدد الأحداث، أما حينما أبدأ في الحدث أراه بدأ بدوره يؤثر في الشخصية.
نور الشريف يؤكد على نجيب محفوظ
** وكان رد نور الشريف على نفس السؤال: تأكيدا لرأي أستاذنا نجيب محفوظ أن العلاقة متبادلة بين الحدث والشخصية، ويصعب فصلهم، يعني لو فرضنا أن الأحداث العامة تكون الشخصية، فإن هذه الشخصية يختلف بناؤها وإدراكها للمجتمع والأحداث، ولو كانت مدركة للأمور رافضة للواقع نتيجة الأحداث ستحاول تغيير الأحداث، ولكن من المؤكد أن الأحداث هى التى ستواجه الشخصية أولا إلا في حالة واحدة، لو كان الشخص من الأشخاص الذين يحملون صفات خاصة تحقق تغييرا في التاريخ، مما سوف يغير الأحداث.
** وأرهف نجيب محفوظ السمع ثم قال بحماس شديد: كلام سليم.
* نعم الباز: أين شخصية نور الشريف في رواياتك، بمعنى أن هذا نموذج من نماذج الناس في بلدنا فأين هو في قصصك؟
** قال نجيب محفوظ: نور الشريف حينما يمثل لا يكون نور الشريف، وإنما يكون الشخصية التى رسمتها.
* نعم الباز: هل قدمت هذا النموذج في قصصك خصوصا أنك لم تترك نموذجا في المجتمع إلا أوردته، وقد مثل لك أفلاما كثيرة فهل أحسست أنه شخصيا واحد من هؤلاء؟
** نجيب محفوظ: الحقيقة أنه مثل لي روايات كثيرة ودخل في نسيج العديد من رواياتي، مثل (قصر الشوق، والسكرية، والسراب، والكرنك، وأهل القمة، والشيطان يعظ) وغيرها الكثير، لكن شخصيته الأصلية لا توجد، المهم أنه يتجسد في كل شخصية بقدرة، ولذلك أنا أكون سعيد جدا حينما أعلم أنه سيمثل رواية لي.
وظهر الطفل في داخل نور الشريف وهو يبتسم بسعادة وقال: هذه شهادة أعتز بها جدا.
* نعم الباز: وما رأيك يا نور أنا أعلم أنك قارئ نهم لنجيب محفوظ فهل أحسست بنفسك وبتكوينك وطموحاتك في رواية من رواياته؟
نور الشريف: وجدت نفسي في عملين
** نور الشريف: أنا وجدت نفسي في عملين للأستاذ نجيب محفوظ، وأتمنى تمثيلهما، وهما قصتا (قلب الليل)، و(أمشير)، طبعا ليس بكل جوانبهما، ولكني أعتقد أن تركيبة الشخصيتين غريبة عن مكوناتي، يعني حبي للبحث عن المشاكل وتفاصيلها ومكوناتها وأفكارها والفلسفات المعينة والبحث عن العمل الأمثل، وهذا واضح في (أمشير) لمحاولته رفض التقليد التافه من أجل حياة ثانية، ولكن قبل أن أكون ممثلا محترفا كنت أنا (كمال عبدالجواد) الشاب الحساس الممتلئ بالأمل والرومانسي المثالي، وأعتقد أن كل شباب مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952 كانوا (كمال عبدالجواد).
وأخذ كاتبنا الكبير خيط الحوار وقال: أنا كدت أردد كلامك بالحرف الواحد أنا فعلا رأيتك في شخصية كمال عبدالجواد وأحسست بالتوحد، لكن تعجب جدا حينما رأيتك تمثل روايات ثانية أبعد ما تكون عن شخصية كمال أو الشاب الذي يبحث عن أصله وجذوره، نجاحك في دور (زعتر النوري) في فيلم (أهل القمة) ثم دورك في فيلم (الشيطان يعظ) كان ملفتا لنظري جدا لنها كانت بعيدة عن مكوناتك الأساسية، وحينما أخبروني أنك سوف تمثل (أهل القمة) فرحت وقلقت!.. فرحت لأنك نجم وفنان كبير، وقلقت لأن الدور بعيد عن مكوناتك، لكن نجاحك دل على مرونة فنية وامتحان لقدراتك.
* نعم الباز: هناك نقطة هامة لا يجب إغفالها في المناقشة وهو أن استاذنا سجل ثلاثة عصور، عصر قبلك، وعصر عشته شخصيا، وعصر بعدك، أنا أعتبر هذا تصورا مستقبليا للمجتمع؟
** فعلا في (بين القصرين) جزء سابق لحياتي، وسابق لوعيي، وهى بالنسبة لي كأنها قصة تاريخية، وعلى العموم العلاقة بي المجتمع وبين الأدب علاقة جدلية أيضا، مثل علاقة الشخصية والحدث، فهو يأخذ ويعطي ويعكس وفي نفس الوقت يحاول أن يجد تفسيرات جديدة تنبئ عن مستقبل.
نور الشريف: نجيب محفوظ يخلق أفكارا جديدة
** نور الشريف: تأكيدا لرأي أستاذنا نجيب محفوظ أقول أن أدبه هو تجسيد واستنباط ووجهة نظر لأحداث عاشها باستثناء التجارب السابقة لإدراكه كإنسان، ولكن لي تعليقا بسيطا هو إما نجد أن كثيرا من النقاد والدراسين لأدب نجيب حفوظ اعتبروه مسحا اجتماعيا وتاريخيا لمرحلة من تاريخ مصر، لهذا نستطيع أن نقول أن الأستاذ نجيب محفوظ يؤثر فعلا في المجتمع أو يخلق أفكارا جديدة ذات سلوك جديد لها تصرفات جديدة أيضا، ومواقف مختلفة، نجد أنه فجأة في عصر حديث يكتب شكل (فتوات) وهذه نقطة لابد من إثارتها، لأننا نجده هنا لايعكس تصرفات المجتمع بشكل فوتوغرافي مثل (أميل زولا) أو غيره ولكنه يظل ومن وجهة نظر عامة ضمير الناس.
فالفنان ليس ضمير شخص، وإنما هو ضمير الشعب وأنا أحس أن الإنسان الصادق هو الذي يمثل ضمير الشعب من وجهة نظر هذا الإنسان، فنحن نجد أحيانا أن أدب نجيب محفوظ يتجه فجأة ربما لظروف رقابية أو لعدم ملاءمة الفكر الحديث للفكرة التى يريد أن يناقشها نجده يتجه لشكل قديم مثل الفتوات أو شكل تاريخي فرعوني أو غيره، هذه اليقظة تظل غامضة ونريد أن يجيب عليها أستاذنا بنفسه.
ويجيب الأستاذ نجيب محفوظ: فيما يتعلق بالفتوات فإن الفتوة شخصية عنيفة ممكن استغلالها في التعبير عن أبعاد كثيرة، يمكن القول أن أتفه ما فيها هو الفتوة الحقيقي، ولذلك على كثرة ما كتبت عن الفتوات لم أكتب عن فتوة حقيقي إلا قصة قصيرة لم تجمع في كتاب أظن كان اسمها (الفتوة).
* نعم الباز: أستاذ نور الشريف مثل قصر الشوق وسمعت أنه أول كتاب قرأه أيضا لنجيب محفوظ، والأعمال الأولى مثل الحب الأول تغفر الخطايا، ما رأي أستاذنا نجيب محفوظ في نور الشريف في فيلم (قصر الشوق)؟
نور الشريف يجسد الخيال
** نجيب محفوظ وهو يؤكد كلماته بالنظر إلى نور الشريف: كان أهم ما يعنيني في الأستاذ نور الشريف أن يجسد الخيال كما تخيلته تماما وفعلا جسده أجمل تجسيد.
* نعم الباز: أنت ككاتب أحسست بأن هذا هو كمال عبدالجواد؟ هل جسده مثل شخصية (زعتر النوري) في فيلم (أهل القمة) مثلا هل العطاء واحد؟
** نجيب محفوظ وهو يبتسم: فيلم (أهل القمة) كله كان مفاجأة لي، الموضوع كان غريبا والشخصية غريبة أيضا، ولكن نورالشريف أحسها وكأنها شخصيته رغم التناقض بين الشخصيتين في (قصر الشوق) و(أهل القمة).
*نعم الباز: ما رأيك يا نور في نفسك في فيلم (قصر الشوق) وما هو موقع قصر الشوق في أدب نجيب محفوظ بالنسبة لك؟
………………………………………………………………..
غدا وفي ذكرى رحيل نور الشريف نستكمل الحوار