رسالة بودابيست: أ.د. مدحت الكاشف*
أتيحت لي فرصة القيام برحلة في قلب التجربة المجرية المسرحية، حيث تلقيت دعوتين في وقت واحد إحداهما من المسرح الوطني المجري والأخرى من جامعة بودابيست للمسرح والسينما لحضور فعاليات الأولمبياد العالمي للمسرح والذي تنظمه دولة المجر هذا العام 2023، على مدى ثلاثة أشهر من أول أبريل 2023 إلى أول يوليو 2023 ، بحضور لفيف من رجال المسرح في العالم وفرق مسرحية من مختلف دول أوروبا، والشرق الأقصى، والأولمبياد المسرحي هو منظمة غير ربحية تعمل على تعزيز التبادل المسرحي، حيث يتم بناء حوار بين مختلف صناع المسرح في العالم بمعزل عن الاختلافات الأيديولوجية والثقافية واللغوية، والناتج النهائي هو مهرجان دولي متعدد الثقافات والتخصصات يحتضن تقاليد المسرح المختلفة ويحترم الثقافات المتنوعة ويشجع على التواصل بين فناني المسرح في جميع أنحاء العالم.
وقد تأسست منظمة الأولمبياد العالمي للمسرح عام 1994 من قبل لجنة دولية قادها مدير المسرح الوطني اليوناني (ثيودوروس تيرزوبولوس)، وكان الغرض من تأسيس تلك المنظمة المسرحية في الأصل هو مواجهة الألفية الجديدة وربط المساعي الثقافية البشرية في الماضي والحاضر والمستقبل من التجربة المجرية المسرحية، وترسيخ أهمية المسرح في الحياة الثقافية للقرن الحادي والعشرين، مع ملاحظة أن هذا الألمبياد تقام كل دورة فيه بإحدى الدول المؤسسة، مع احتفاظ اليونان بوجود المقر الإداري للمنظمة (كممثل للبلدان الأوربية، وفي اليابان كممثل لبلاد الشرق الأقصى).
إقرأ أيضا : د. مدحت الكاشف يكتب : الفنون والقيم الاجتماعية
والجدير بالذكر في التجربة المجرية المسرحية، أن شعار الأولمبياد قام بتصميمه العلامة المسرحي الأمريكي (روبرت ويلسون)، رائد مسرح الصورة في الولايات المتحدة، والذي كان من بين الحضور في دورة بودابيست هذا العام إلى جانب قامات مسرحية أخرى على مستوى العالم مثل (ثيودروس تريزوبولوس) من اليونان، ومعلم التمثيل الياباني ذائع الصيت صاحب المنهج (سوزوكي تاداشي)، ومن أسبانيا (نوريا إيسبرت) ومن إنجلترا (توني هاريسون)، ومن روسيا (جورج لوبوموف)، ومن ألمانيا الصوت المسرحي المهم (هاينرموللر)، ومن البرازيل (أنتونيوس فيلهو)، ومن إيطاليا صاحب المدرسة الدولية لأنثروبولوجيا المسرح (إيوجينيو باربا)، وغيرهم ممن شاركوا بإبداعاتهم المسرحية إلى جانب محاوراتهم الفكرية أثناء فعاليات أولمبياد المجر هذا العام، ومنها الحوار النادر والفريد الذي أقيم في الثامن عشر من أبريل 2023 بمدينة بودابيست تحت عنوان (الفلسفة والتعاون في الألعاب الأولمبية المسرحية) بين المسرحي اليوناني (ثيودروس تريزوبولوس)، والياباني (سوزوكي تاداشي).
التجربة المجرية المسرحية.. حقائق وأساطير
والمحور الفكري الثاني بعنوان (القارات الخمس للمسرح – حقائق وأساطير حول الثقافة المادية للممثل – دليل خاص للمسرح) بين الإيطالي (أوجينيو باربا)،وعضو فرقته فرق (أودن) بالدانمارك (نيكولاسافريزي)، كما تم عقد محور حول البرنامج التمهيدي لقصص (الماهابهارتا) الهندية، وكان عبارة عن عرض إعلامي حول الأسطورة والشعر في مسرح الكاثاكالي الهندي.
كما عقدت على صعيد آخر من الأولمبياد في ظل التجربة المجرية المسرحية، مجموعة من الورش تأتي في مقدمتها ورشة عمل التربية المسرحية والتعليم المسرحي..(دراسة نفسية فسيولوجية للتلقي الفني)، وفيها تم دراسة التلقي لقياس برنامج التشخيص التعبيري المتزامن مع المشاعر الستة الأساسية (الفرح – الخوف – الغضب – الحزن – المفاجأة -الاشمئزاز)، للوصول إلى نسب مئوية افتراضية يمكن القياس عليها، وكذلك التعبير الزمني لأبرز المشاعر من حيث رد الفعل، حيث تسمح اللحظات المتحركة عالية الجودة بإجراء دراسة مباشرة لتأثير المحتوى الذي يتم التلاعب به بشكل منهجي، أي دور الأساليب والتأثيرات الفنية في الأوضاع الفردية والاجتماعية في الوقت نفسه، عندما تكتمل بمقاييس نفسية فيسيولوجية.
وتهدف هذه الدراسة من خلال الورشة التي تستعرض التجربة المجرية المسرحية إلى محاولة استكشاف العلاقة بين التعاطف والتعلق، ومشاعر الوجه استنادا إلى البيانات التي تم جمعها من خلال استبيانات التقرير الذاتي عبر الإنترنت، وتحليل البرامج للاستجابات السلوكية للمحفزات، وكذلك الصوت الناتج بشكل مصطنع، والصوت البشري ونسخته من الصور المتحركة التي تم التقاطها بواسطة الكاميرا، وقد شارك في هذه الورش مجموعة من كبار الأساتذة الأكاديميين في مجال المسرح بالمجر.
وتأتي الورشة الثانية – في ثنايا التجربة المجرية المسرحية – التي يمكن وصفها بالمدهشة بعنوان مسرح (الأنتروسين) أو المدخل إلى مشهدية المسرح، والتي تم من خلالها طرح تساؤلا مؤداه: كيف وإلى متى يمكننا نحن البشر أن نتعايش مع البيئة على كوكب الأرض؟ وكيف يتم دمج كيانات طبيعتها المختلفة في الحياة القانونية والفنية والمسرحية الحالية؟..كيف يمكن للمسرح إلى جانب الفنون الأخرى أن يساهم في إعادة التناغم بين البيئات المختلفة؟، وذلك من خلال عدة محاور لعدد من الباحثين البارزين، من بينهم الألماني (أندرياس انجلهارت) وأطروحته بعنوان (مأساة الأرض – تغير المناخ في المسرح المعاصر)، و(تيبورونيرسين) وأطروحته الطريفة (فن تربية النحل)، متسائلا: ماهو الخطأ الذي ارتكبه الفيسلوف والمنظر الإغريقي (أرسطو) بشأن النحل، والذي كان له تأثير كبير على المجتمع الأوروبي؟ وكيف أبقى الانجليزي (وليام شكسبير) على النحل؟، متعرضا إلى مسئولية الفنانين خلال أزمة عالمية؟.
خطيئة الأنثروبوسين بين الإنسان والطبيعة
وفي معرض الحديث عن التجربة المجرية المسرحية، تحدثت الباحثة (صابره ستوهليبرج) في أطروحتها المثيرة عن النمل، وبالتحديد خطيئة الأنثروبوسين بين الإنسان والطبيعة بما فيها من كائنات أخرى خلقت من أجل التوازن البيولوجي، ويأتي الباحث (إليان بيوفيلز) بأطروحة عنوانها (دعوة الأرضية على خشبة المسرح في عقولنا وأجسادنا)، مناديا فيها بضرورة تنمية ضمير كل من يربطنا ماديا بالعالم وبالآخرين، البشر وغير البشر، إنه يدعو مشاهدي المسرح إلى ضرورة دراسة العلاقات التي تربطهم ببيئاتهم، وتتوج تلك المداخلات البحثية بالباحثة (كاثرين روجلا) بعنوان (العمل في عصر الأزمات المتعددة.. العمل في عصر الإبادة البيئية)، ويشاركها الباحث (سزارفاس جوزيف) بعنوان آخر يضيف لكل ماتم طرحه بعنوان [الممارسة المسرحية تحقيقا للمنطقة]، ويختتم الباحث (لازولو كوباني) متحدثا عن [الأنهار وأهميتها لسكان الأرض] بوصفها كيانات طبيعية وثقافية من منظور أنثروبولوجيا الفن، وذلك على اعتبار الأنهار كمصدر من مصادر الحياة والموت.
فضلا عن المداخلات والمناقشات لبعض الكتب المهمة من أعمال المسرحيين الكبار من أمثال الياباني سوزوكي وكتابه (الثقافة هى الجسد)، وكتاب اليوناني (ثيودروس تريزوبولوس) بعنوان (عودة ديونيسوس).
وقد شاهدت من خلال التجربة المجرية المسرحية في قلب فعاليات الأولمبياد مجموعة من العروض المسرحية قادمة من دول مختلفة نستطيع من خلالها الوقوف على الحالة المسرحية العالمية من خلال نماذج محددة من الإبداعات المسرحية الواردة إلى المجر من بقاع شتي مثل عرض (بيت الدمية) لهنريك إبسن والتي أخرجها اليوناني (ثيودروس تريزوبولوس) والعرض المجري (ريكس) للمخرج (فاليري فوكين) من أعمال المسرح الوطني /بوابيست، وعرض (تقرير إلى الأكاديمية)، عن رواية لفرانزكافكا، للمخرج اليوناني (سافاس سترومبوس) من إنتاج مسرح زيرو بوينت /أثينا، وعرض (ثلاثية الباب المفقود والغرفة المفقودة والأرض المخبأة) للمخرج البلجيكي (جابريللا كاريزر) من إنتاج المسرح الوطني للرقص، بروكسل/بلجيكا، بينما قدم مواطنه (جان فابر) عرض (كاساندرا)، وقدم (إيوجينو باربا) من إخراجه عرضا بعنوان (القيامة) كما قدم المخرج الإيطالي (روميوكاستيلونشى) عرض بعنوان (إخوان)، ومواطنه المخرج (دانتي إيما) عرض بعنوان (تانجو بلاك)، أما الياباني (سوزوكي تاداشي) فقد شارك بإبداعه كمخرج بعرض (نساء طروادة) وعرض (إلكترا)، وفي نفس الوقت يقدم معالجة أخري لنفس النص (نساء طروادة) المخرج البولندي (جان كلاتا)، ومن بلجراد قدم المخرج الصربي (بوريس ليشيبفتيس) رائعة الكاتب الروسي (تولوستوي) الحرب والسلام، كما قدم المخرج الجيورجي (أفاتنيدلي فارسما شفيلي) مسرحيتي شكسبير (ريتشارد الثالث، وعطيل)، أما المخرج الروماني (آريان أندريه) فقد قدم عرض (الأميرة القرمزية) بينما قدم مواطنه المخرج (سلفيو بوركارتي) عرض (الطبيب).
(العاصفة) لشكسبير من المسرح الإيطالي
كما قدم المسرح الإيطالي عرضا لمسرحية (العاصفة) لشكسبير من إخراج (إليساندرو سيرا)، والذي ساهم في نفس الوقت بعرض من تأليفه وإخراجه من خلال ورشة تدريبية حول علم اجتماع المسرح نتج عنها عرض بعنان (أغنية الماعز)، وكان للمكسيك حضور مهم في الأولمبياد بعدة عروض إلى جانب ندوة مهمة حول المسرح المكسيكي المعاصر، إلى جانب عروض (الأصولي) للمخرج أجناسيو جارسيا، وعرض (موسكو) للمخرج (أورو كانو) ، والمخرج (كونشي ليون) الذي قدم عرض (نساء إميليا)، ويقدم المخرج الصيني (ليوليين) معالجة جديدة لمأساة فاوست من تأليف (يانج فرانكون)، أما المخرج الأوكراني (ديميتروبوفومازوف) نص برتولد بريشت (صعود آرتور أوى)، بينما قدم مواطنه الأوكراني المخرج (إيفان يورنفسيزكيج) نص ألبير كامي الشهير (كاليجولا)، كما قدم المخرج الإنجليزي (سيمون ماكبيرني) عرض (قد محراثك فوق عظام الموتى)، ومواطنه المخرج (ديكلان دونيلان) الذي قدم رائعة (كالديرون دي لاباركا) بعنوان (الحياة حلم)، ومواطنه الآخر المخرج (سلافا بولونين) عرض (ثلج سلافا)، والمخرج الألماني (هاينرجوبلز) الذي قدم عرض (كل ماحدث وسيحدث)، والمخرجة البولندية (آنا ستيلر) التي تنتمي إلى معهد جروتوفسكي والتي قدمت عرض (النقل)، بينما قدم مواطنها المخرج (مارسين هيريش) عرض (أربعة) من أعمال فرقة الرقص والحركة البولندية.
ويقدم المخرج الفرنسي (جان بيلوريني) عرض (الانتحارالسوفيتي/ الفودفيل)، ومن المنطقة العربية يقدم العرض الجزائري (صوت الرمال) من إخراج (عمر فطموش)، بينما حافظت التجربة المسرحية المجرية على عروض العام2023 كاملة ودمجها في برنامج الأولمبياد وأهمها (شبح الأوبرا) التي تقدم على مسرح مداش بمدينة بودابيست، وعرض (دقة بدقة) لوليام شكسبير، وغيرها.
وتتوج التجربة المجربة المسرحية الأولمبياد بالعرض المسرحي الذي تشارك فيه إحدى عشر دولة من معاهد المسرح في العالم ومنها مصر، حيث تلقيت الدعوة الثانية من جامعة المسرح والسينما بدولة المجر للمشاركة في الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للكاتب المجري ذائع الصيت (إيمري مداش)، ويأتي الاحتفال في ختام انعقاد أولمبياد المسرح العالمي، وذلك بمصاحبة فريق من طلابي بالمعهد العالي للفنون المسرحية لأداء مشهد باللغة العربية الفصحي، وقد جاءت دعوة الجانب المصري من قبل السيد البروفيسور (زولتان راتوتي) رئيس جامعة المسرح والسينما ببودابيست، تلك الجامعة العريقة التي تأسست في عام 1865م، وهى إحدى خمس جامعات للفنون في دولة المجر والتي لايزيد عدد سكانها عن عشرة ملايين نسمة، وتستند الجامعة في أنشطتها الإبداعية القائمة على البحث العلمي وحرية التعلم في آن واحد، منفتحة على جميع القيم التي تعزز المجتمع المجري، والتي تضمن بقاؤه في سياق الحضارة الإنسانية العالمية.
الالتزام بخلق ثقافة الجودة
وفي سياق حديثه ذكر (راتوتي) فى لقائه معنا مجموعة أساتذة المسرح المرافقين لطلاب معاهد المسرح المشاركة في التجربة المجرية المسرحية، وقد كان في معيتي أستاذي وأستاذ الدراما بالمعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة الأستاذ الدكتور عصام عبد العزيز الذي كان قد درس في المجر لدرجة الدكتوراه قبل ثلاثة وأربعين عاما، لقد ذكر البروفيسور (راتوتي) أن الجامعة في إطار بحثها عن سياسة الجودة في التعليم لكي تصبح جامعة رائدة في منطقتها ومعترف بها وسط الجامعات الأوربية الأخرى في مجال تعليم فنون المسرح والسينما، لتصبح جزءا نشطا من الحياة الأكاديمية الدولية بالتحالف مع الجامعات الرائدة في العالم، ومن ثم أعلن رئيس الجامعة التزامه بخلق ثقافة الجودة بما يتماشى مع معايير التعليم العالي في مجال فنون الإبداع، ومن جانبه فهو يقوم بتطوير المبادئ والمناخ الذي يشجع أعضاء هيئة التدريس والموظفين والطلاب على فهم وقبول مبادئ وأهداف سياسة الجودة الخاصة بالجامعة، وفي إطار البحث عن موارد لتحقيق تلك الغايات أسست الجامعة في العام 2020 مؤسسة المسرح وفنون السينما تحت مسمى (سيزيف) كمؤسسة تابعة للجامعة مباشرة لإدارة أصول المصلحة العامة، والتي تتمثل مهمتها الرئيسية في ممارسة حقوق الجامعة لضمان تنفيذ ظروف تشغيل الخريجين من أبناء الجامعة من المبدعين في المسرح والسينما، ولتحقيق أهداف التطوير المؤسسي من خلال عدد من الاتفاقيات والبروتوكولات طويلة الأجل أو قصيرة الأجل تهدف إلى تمويل الجامعة ذاتيا، ومن ثم توسيع الموارد المتاحة للمؤسسة التي تحتفظ بها، وفي إطار نشاطها الاقتصادي تدير الأصول المخصصة لها .
وفي التجربة المسرحية المجرية، يأتي الاحتفال بالمئوية الثانية للكاتب المسرحي (إيمري مداش) في إطار تحقيق الأهداف سالفة الذكر بدعوة طلاب من جامعات وأكاديميات ومعاهد المسرح في عشر دول من أوروبا وهي تحديدا [كندا، إيطاليا، المملكة المتحدة، بولندا، تركيا، جورجيا، رومانيا، فرنسا، اليونان، إلى جانب البلد العربي الوحيد وهى مصر ممثلة في المعهد العالي للفنون المسرحية التابع لأكاديمية الفنون]، وتم تكليف كل دولة بأداء مشهد من إحدى مسرحيات (مداش) وقد وقع الاختيار على مسرحيته (مأساة الإنسان – The Tragedy of man) قدمت المجر وحدها أربعة مشاهد منها بينما اضطلعت كل دولة بأداء مشهد واحد، وقد بدأت فرق الدول العمل كل على مشهده قبل اللقاء بثلاثة أشهر، ليلتقي أكثر من مائتي وخمسين طالبا من جنسيات مختلفة ليقدموا عرضا واحدا تحت إشراف ورؤية خاصة للمخرج المجري الكبير (أتيلا فيدنيانسكي) الذي استطاع توظيف إبداعات الدول الإحدى عشر في صياغة رؤية معاصرة للنص الذي كتب قبل مائة وستين عاما، يطرح الأسئلة التي أفرزتها الإخراجات المتعددة لمشاهد العرض، متخذا في ذلك مكانا للعرض يقبع في إحدى الجزر الشهيرة في بودابيست وهى جزيرة هاجوجيري – أو جزيرة حوض بناء السفن – في هنجر ملحق بأحد المصانع المهجورة والمطل على نهر الدانوب في الجانب الآخر من مدينة بودابيست، مستخدما تل من الرمال تدور فوقه الأحداث التي تصور لحظة طرد آدم وحواء من الجنة إلى الأرض إثر تناول التفاحة التي حرمها الله عليهما، والمحاولات المستميتة للشيطان (لوسيفر) في إبراز المعاناة التي صاحبتهما في الأرض.
الإنسان ولد من بيئات مختلفة
لقد أراد المخرج (أتيلا فيدنيافسكي) صياغة رؤيته من خلال فكرة مؤداها إن الإنسان ولد من بيئات رغم اختلافها فهي متجانسة، فكل أبناء آدم متشابهون إلا أن تفرد كل جنس ينبع من الخبرات والتقاليد المتفردة والمتنوعة لكل منها، وهو ما يمنح الحياة الإنسانية جمالا ينسيه معاناته، ومن هنا، فقد رأى أن نص (مداش) ليس مجرد عمل أدبي فحسب، بل هو نوع من التحدي الفلسفي، الذي يطرح الأسئلة والمعضلات في الحياة، ومن هنا جاء منطق العمل وفق إدارته لجميع المشاهد المعدة سلفا على تفاعل الأجوبة المتعارضة لهذه المعضلات وتلك الأسئلة، الأمر الذي أحدث نوعا من التحفيز للمشاهدين لطرح المزيد من الأسئلة والبحث بحزم عن الإجابات التي يقبلونها، رغم اختلاف جنسياتهم وثقافاتهم، لقد رأى (أتيلا) في قرائته لنص (مداش)، إن مأساة الإنسان تجبر المتلقي على مواجهة توتر وتردد القرارات والإجابات، الأمر الذي لايعطي إجابات واضحة أو محددة، بل يتطلب نوعا من التفكير أو إعادة التفكير، وعدم اليقين، ومن ثم مواجهة الأفكار والشكوك والآمال، إيمانا منه كمخرج أن الحوار والنهج النقدي ربما يسمحان لنا بفهم أعمق للمسائل المتعلقة بالوجود الإنساني ومعنى الحياة.
ومن ثم كان تركيزه على منح الشباب المشاركين في التجربة المجرية المسرحية من خلال العرض من مختلف الجنسيات فرصة طرح الأسئلة المتعلقة بوجودهم الآني للوصول إلى إجابات لكل الأسئلة الأبدية، الأمر الذي ربما يمنحهم الثقة في قدراتهم على تحقيق التغيير على طريقتهم وليس على ما كان عليه أسلافهم، ومن خلال الإبداعات المتنوعة في هذا العرض نجد أن الجميع اشتركوا دون أى اتفاق مسبق بقيمة الحياة الإنسانية التي لاتقدر بثمن مادي، مما يثبت أن الشباب في كل مكان يفكرون بنفس الكيفية في مشكلاتهم العصرية المشتركة، إن العرض برغم مافيه من زخم فكري وتشكيلي على مدى سبع ساعات هى مدة العرض الذي تخللته ثلاث إستراحات في تجمع ربما يحدث لأول مرة في تاريخ العالم في لحظة فارقة حملت معها ذكريات لن ينساها كل من شارك في هذا العرض من مختلف الدول، والجدير بالذكر إن المشهد الذي أداه الوفد المصري هو مشهد تدور أحداثه المتخيلة في لقاء افتراضي بين فرعون مصري وحواء، مبرزا كيف تعاملت الحضارة المصرية القديمة والتي سبقت كل الحضارات الإنسانية في تعاملها مع معاناة الإنسان حال كونه يبني حضارة متفردة ومتميزة، الأمر الذي استقبلته الوفود الأخرى أثناء البروفات ومن بعدهم جماهير المشاهدين استقبال مبهر صفق له كثيرا جمهور الحاضرين، معربين عن إعجابهم بالقالب المسرحي الموسيقي قريب الشبه بعروض الأوبرا ليصبح المشهد المصري علامة فارقة ومتفردة بين مشاهد الدول الأخرى، والجدير بالذكر إن موسيقى المشهد المصري هى تأليف خالص لأحد أعضاء الوفد وهو الطالب (محمود شعراوي) الذي لاقي استحسان لمؤلفه الموسيقي وسط المشاهد الأخرى التي اعتمدت على إعداد لموسيقات عالمية لمؤلفين مشهورين من أمثال (بيتهوفن، فيفالدي) وغيرهما، وهو ما منح المشهد المصري تفردا خاصا أشاد به الجميع، إلى جانب الملابس والأكسسورات الفرعونية التي صممتها خريجة المعهد الحديثة (أميرة صابر) فضلا عن استعراضات (شيرين حجازي) وأداء تمثيلي وغنائي لحازم القاضي وأميمة حسن، وآشكى يوسف، وإيمان يوسف، ومحمود نوح، وأشرف فرحات، وإبراهيم الزيادي، وأحمد الجوهري، ومينا نبيل، ومحمود شعراوي، وقام على إخراجه حازم القاضي، وعندما نال أحد الممثلين المصريين بأدائه إعجاب مخرج العرض وهو (مينا نبيل) منحه مساحات أكبر في مشاهد الدول الأخرى، فكان له حضوره الخاص والمؤثر طوال العرض.
لقد خرج الجميع من هذه التجربه وفي جعبتهم خبرات ربما تدوم لسنوات وتدفعهم إلى العمل على أنفسهم فكريا وإبداعيا، وإعادة اكتشاف ذواتهم وقدراتهم من جديد، وانتهي الأمر بأن تلقيت رسالة من الدكتورة (هيسار اورسوليا)، مديرة مشروع مداش ورئيس العلاقات الدولية بالجامعة معربة عن إعجابها بالوفد المصري وستعمل على إيجاد طريقة بشكل أو بآخر لعودتهم ثانية إلى المجر، وهو ما يشكل نجاحا لمجموعة من الشباب حملوا معهم علم مصر التي أقسموا أن يمثلوها خير تمثيل وقد حدث، في تظاهرة مسرحية عالمية فريدة وهي الأولمبياد المسرحي العالمي.
*أستاذ بأكاديمية الفنون