إبراهيم رجب .. الملحن الذي انحاز للعمال والغلابة!
* كان يرفض تلحين الكلمات التى تعبر عن ضعف الإنسان ويعشق غناء الجماعة
* سيد مكاوي سبب حبه للفن وسيد درويش ألهمه الغناء للعمال
* تعاون مع عبدالحليم حافظ في لحنيين لكنهما لم يلتقيا إنسانيا
* كان يفضل أن يغني ألحانه ممثل من أن يغنيه مطرب!
* تأثر بسيد درويش، محمود الشريف، أحمد صدقي، سيد مكاوي“.
كتب : أحمد السماحي
هذا الأسبوع قررنا في باب (مظاليم الفن) التوقف عند الموسيقار المبدع (إبراهيم رجب) أو (عم إبراهيم)ى كما كنت أناديه، هذا الملحن الذي لون بنغماته حياة أجيال من المصريين والعرب، حتى صارت له مدرسته وبصمته في نوع الغناء الجماعي الذي يغزي الشعور الوطني وينتمي إلى قضايا البسطاء، ولعل ما يميزه عن أقارنه حبه لهذا اللون الذى يعتبره (ضهرالناس الغلابة)
لذا قارب في ألحانه أجواء القرية المصرية، فغازل صباياها برقة تصل إلى حد الذوبان من عذوبة الكلمات والألحان التي صورت عشاقها بدقة وأمانة فى رائعته مع الأبنودي “أنا عايز صبية” غناء محرم فؤاد، وكذلك في أغنيات المسلسل التليفزيوني (الفلاح).
إبراهيم رجب.. وش فقر
نشأ (إبراهيم رجب) وكما ذكر لي بنفسه في حواري معه الذي نشر فى جريدتنا الغراء (الأهرام) في أسرة مصرية بسيطة كثيرة الأولاد ـ أربع أولاد، وخمس بنات لأب يعمل مكوجي، لديه محل في شارع القصر العيني، وأم ربة منزل، وقد ولد يوم 31 مايو عام 1931 في حي (البغالة) بالسيدة زينب، وعندما ولد قالوا عنه إنه (وش فقر)على الأسرة.
وذلك لأن والده كان يعمل في قصر (البرنس يوسف كمال) إبن عم الملك فاروق، ويتقاضى 12 جنيها ذهبيا، وكانت ثروة ضخمة جدا في هذا الوقت، وبعد ولادته مباشرة، مات البرنس (يوسف كمال)، وبالتالي انقطع المرتب، فاضطر والده إلى فتح محل مكوجي.
وفي هذه الفترة كانت القاهرة من أجمل مدن العالم، وكان الناس يحبون التزوار والسهر، وكانت راحة البال والحب والرحمة هى المسيطرة على مشاعر المصريين، وكان والد (إبراهيم رجب) يجتمع بمجموعة من زملائه كل أسبوع في منزلهم، يعزفون ويغنون.
وحكت له والدته إنه في سن الرابعة وفي أثناء تناول والده وأصدقائه وجبة العشاء دخلوا عليه الغرفة بعد انتهائهم من العشاء فوجدوه يحاول أن يمسك العود مسكة صحيحة، فتنبأ أحدهم بأنه سيكون له مستقبل فني كبير.
إبراهيم رجب في مهن متعددة
ونظرا لحالة الأسرة البسيطة لم يكمل (إبراهيم رجب) تعليمه، واضطرر للعمل في أكثر من مهنة، مثل (صبي طرابيش في محل طرابيش، وصبي ميكانيكي)، وفي سن العاشرة اشتغلت (جروم)، وهذه مهنة انقرضت بعد سقوط الملكية، حيث كانت الأسر الملكية تستعين بطفل وسيم، وتجعله يرتدي بدلة سمراء اسموكن وبابيون، ويجلس بجوار السائق، وكل مهمته أن يفتح للأمير أو الأميرة باب السيارة بكل أدب.
ونظرا لوسامته في الصغر اشتغل(إبراهيم رجب) لدي الأميرة (حورية محمود حمدي)، لكنه لم يستمر كثيرا في هذا العمل، وتم طرده! لأن السائق (داس فرملة)شديدة، فوقعت الأميرة من السيارة، فأعتقدوا إنه لم يغلق الباب جيدا فطردوه!.
بعدها وعن طريق أحد الأقارب اشتغل في المطبعة الأميرية يجمع الحروف، وطوال هذه السنوات كان حب الفن يلازمه، حيث كان دائم الاستماع إلى الإذاعة ومن خلالها حفظ كل الأغنيات التى كانت تتردد في فترة الأربعينات.
إبراهيم رجب وسيد مكاوي
كان معرفة (إبراهيم رجب) بالموسيقار الكبير الشيخ (سيد مكاوي) سببا لتحول هام في حياته، حيث تعرف عليه بالمصادفة في نهاية الأربعينات، وكان مراهقا، يحب فتاة اسمها (ليلي)، وكان يجلس على المقهى المقابل لمنزلها، وعلى هذا المقهى تعرف على الصديقين الشقيقين “محمود وكمال عبدالشافي”، وتوطدت علاقته بهما.
وفي أحد الأيام ونظرا لجمال صوته دعاه (كمال عبدالشافي) لحضور(سبوع بنت أخته) وبالفعل ذهب ومعه عوده، وغني مجموعة كبيرة من الأغنيات، وفجأة وجد شخص إسمه (عبدالحميد الجزايري) يصطحب شاب طويل ونحيف وكفيف، وطلب منه الحضور الغناء، فغنى أغنيات سحرت (عم إبراهيم)، حيث لم يسمعها من قبل.
كان هذا الشاب هو الشيخ (سيد مكاوي)، وكانت الأغنيات التى يغنيها لعملاق الموسيقى الشيخ (سيد درويش)، الذى عدل قبلة الغناء العربي ووضع الصوت المصري على البيانو، ويومها قال له صديقه كمال عبدالشافي: (لا تترك الشيخ سيد مكاوي فهو كنز).
إبراهيم رجب وسيد درويش
وبالفعل توطدت علاقتهما، وكان بمثابة ظله، يصطحبه في كل مكان، ومنه عرف وحفظ أغنيات وألحان الشيخ سيد درويش، وارتبط (إبراهيم رجب) بصداقه مع مجموعة من الفنانيين مثل الملحن (رؤوف ذهني) والفنان (عبدالعظيم عبدالحق)، والمخرج (أحمد بدرخان)، والناقد الفني (حسن إمام عمر) وغيرهم.
وفي هذه الفترة كان الشيخ (سيد مكاوي) يغني في الإذاعة أغنيات التراث، بناء على طلب محمد حسن الشجاعي رئيس الإذاعة، وبعد فترة طلبوا منه أن يتجه للتلحين، ونظرا لأنه كفيف طلبوا منه أن يلحن أغنيات وقصائد دينية.
ولأنه ليس معروفا كملحن، فلم يجد من يتعاون معه من الشعراء مجانا، فاستعنا بداووين كبار الشعراء القدامى من كل العصور القديمة، كان (عم إبراهيم) يقرأ له وهو يلحن، وهذه الأشعار علمت (إبراهيم رجب) حب الشعر، وحب الكلمة والتدقيق فيها فيما بعد، وتعلم الكثير في هذه الفترة التى كنت يعمل فيها صباحا في المطبعة الأميرية، ومساءا مع الشيخ سيد مكاوي.
إبراهيم رجب وصلاح جاهين
توطدت علاقة (إبراهيم رجب) بالشيح (سيد مكاوي)، وفي أحد الأيام وبالتحديد نهاية الأربعينات، ذهبا لمشاهدة فيلم في سينما (حديقة الحرية) في ميدان (سعد زغلول) المجاور لقصر النيل، فلفت انتباههما قبل الفيلم إعلان عن منتج من السماد.
وبالتحديد (سماد أبو طاقية) على هيئة فيلم غنائي قصير، إخراج (صلاح أبوسيف)، كتبه شاعر جديد لم يكن معروفا على الإطلاق إسمه (صلاح جاهين)، وتلحين (أحمد صدقي)، كان فيلما غنائيا رائعا استمتعا به جدا، وشعر كلا واحد منهما أن هذا هو الغناء الجماعي الذى يبحثان عنه، وأهم ما لفت انتباههما خفة ظل الكلمات التى مازالت معروفة حتى الآن خاصة الكوبليه الذى يقول:
حلاوة زمان عروسه حصان
وآن الأوان تدوق يا ولد
تعالى لعمك ودوق الحلاوه
وعيط لأمك عشان الحلاوه”
وسألا (إبراهيم رجب والشيخ سيد) عن صلاح جاهين، فعرفا أنه شاعر شاب جديد لم يتجاوز السابعة عشر من عمره، وهذا الأوبريت هو أول عمل يقوم بكتابته، وبعد مرور فترة طويلة وفي عيد ميلاد (الريجسيير)الشهير (قاسم وجدي)، ذهبا للغناء له، وهناك تعرفا على (صلاح جاهين)، وعلما منه أنه صحفي ورسام كاريكاتير في مؤسسة (روزا اليوسف)، ومن يومها وحتى رحيله ظلت علاقتهما وطيدة.
بعد قيام ثورة يوليو عام 1952 قدم في المعهد العالي للموسيقى المسرحية، وكان رئيسه الرائد الموسيقى “محمود أحمد الحفني”، ونجح فعلا في امتحان القبول، لكن نظرا لعدم وجود شهادات دراسية معه، كتبوا: “ناجح لكنه غير مستوفي شروط الدراسة، حيث لا يملك شهادات دراسية”، ونظرا لعشقه للغناء والموسيقى تقدم لمعهد خاص لتعلم الموسيقى، وهو معهد “أحمد شفيق”، وفيه تعلم قراءة “النوتة الموسيقية”، وبعض الأشياء الأخرى.
إبراهيم رجب وجمال عبدالناصر
في عام 1953 قدم مجموعة من زملاء (إبراهيم رجب) الموسيقيين الذين تتشابه ظروفهم التعليمية مع ظروفه، مذكرة للبكباشي (جمال عبدالناصر) للموافقة على دخولهم معهد الموسيقى واستثنائهم من حكاية الشهادة العلمية، خاصة أنهم خاضوا امتحان القبول الموسيقي ونجحوا فيه، وبعضهم لهم أسماء شهيرة، فوافق (عبدالناصر)على المذكرة.
وتقدم (إبراهيم رجب) للمعهد الذى كان يرأسه (محمد ثابت) بعد (الحفني)، وأمام لجنة الاختبار غني لهم أغنية بعنوان (يا جواهر بالمال يا عنب)، وكان الموسيقار (محمد عبدالوهاب)لحنها لصديقه المطرب ــ والملحن فيما بعد ــ رؤوف ذهني، وكان يرددها أمامه بصفة مستمرة، وأعجبهم صوته وثقافته الموسيقية، والتحق فعلا بالمعهد وتخرج منه عام 1958 .
بعد انتهاء موسيقارنا الكبير (إبراهيم رجب) من دراسته، وجد عام 1958 إعلان في الجرائد عن إنشاء (مسرح القاهرة للعرائس)، فأخذ رأي صديقه (صلاح جاهين) في التحاقه بهذا المسرح، فشجعه جدا، وقال له : (يا ريت ده فن عظيم)، وطلب (جاهين) من أصدقائه المخرج (توفيق صالح)، والكاتب (راجي عنايت) تدريبه على مشهد تمثيلي للاختبار، وبالفعل اجتاز الاختبار، والتحق بمسرح القاهرة للعرائس.
وكان أول عمل له كلاعب مسرحية (الشاطر حسن) تأليف (صلاح جاهين)، وألحان (علي إسماعيل)، وبطولته مع (صلاح السقا)، وإخراج (درزينا تنارسكوفا)، وعرض على مسرح معهد (فؤاد) بشارع رمسيس يوم 10 مارس عام 1959، الموافق الأول من شهر رمضان، ويذكر أن القائمين على المسرح يومها لم يتوقعوا نجاح العرض.
خاصة أنه أول عمل عرائس للطفل، وأول عمل يجمعه بصديقه (صلاح جاهين)، فقاموا بتأجير العرض للمطرب (عبدالغني السيد) والموسيقار (على إسماعيل) نظير 15 جنيها في اليوم!، فماذا حدث؟ حقق العرض نجاحا ساحقا، وكانت إيراداته اليومية تترواح ما بين 300 إلى 400 جنيه.
ونظرا لنجاح العرض قاموا بعرضه في عدة محافظات مصرية مثل (السويس، بورسعيد، طنطا) وغيرها، وقام المخرج (توفيق صالح) بعمل فيلم تسجيلي لكواليس هذا العرض وكل ما يتعلق به، وعرض مرة واحدة في افتتاح التليفزيون ولم يعرض بعدها!
إبراهيم رجب عمل كمدرس
بعد (الشاطر حسن) توالت الأعمال، فقام (إبراهيم رجب) بكتابة النوتة الموسيقية لأوبريت (الليلة الكبيرة)، التى كان يرددها في كل سفرياته، وكل جلساته قبل ظهورها للجميع، حيث أذيع هذا العمل أولا في الإذاعة، وكان مدته 8 دقائق فقط، وحقق نجاحا كبيرا.
وذلك لأن ألحانه مصرية صميمة نابعة بالفعل من قلب الموالد التى كان يحرص على حضورها هو وسيد مكاوي وجاهين، وتم تقديمه على مسرح العرائس عام 1958 بعد إضافة عدة لوحات لم تكن موجودة مثل (أنا شجيع السيما) و(يا حضرة الأراجوز).
وأثناء ذلك واجه (إبراهيم رجب) حربا من المشرفين على مسرح العرائس فتركه وعمل كمدرس موسيقي في مدرسة بقرية (مرصفا) في بنها، نظير 8 جنية في الشهر، وهناك وعلى مدى عامين غسل نفسه وروحه، وقابل ناس لا يعلمون أي شيئ عن الغناء الحديث، ولا يغنون إلا تراثهم الذى يردده الجميع، فاستمع منهم لهذا التراث وحفظه.
وعندما تم افتتاح التليفزيون عام 1960 شارك فيه كلاعب عرائس نظير 4 جنيه مقابل عشر دقائق، واستقال من التدريس وتفرغ للتلحين لبرامج العرائس في التليفزيون.
تأثر (إبراهيم رجب) بأربعة ملحنيين كان لهم أكبر الأثر في مشواره الفني وهم (الموسيقار الخالد سيد درويش، والمبدع محمود الشريف، والرائع أحمد صدقي، وصديقه الموهوب سيد مكاوي).
أول أعمال إبراهيم رجب الغنائية
كان أول أعمال الموسيقار (إبراهيم رجب)الغنائية عام 1959 عبارة عن ثلاث منولوجات هم (شنبات شنبات، روبابيكيا، هيلا هوب)، قام بغنائهم شباب الجامعات، أما أول أغنية فكانت مع بداية التليفزيون للمطرب (إبراهيم حمودة) كلمات صلاح جاهين، وكانت بعنوان (آخر غرام أو بحري)، وقام المخرج الإذاعي (فؤاد شافعي)بتصويرها على هيئة فيديو كليب، واختفت فور إذاعتها، كما اختفت أعماله الأخرى مثل (حلم حطاب)، ورائعة يوسف أدريس (النص نص) وغيرها.
وتعد أشهر ألحانه (أنا عايز صبية، تعيشي يا بلدي، يما زقزق الأميري، يا بيوت السويس، يا بلادنا لا تنامي، من قلب المواكب، يلا بينا تعالوا نسيب اليوم بحاله، أنا بيه، والله ليطلع النهار يا خال، الفتاة المثالية”، كما لديه رصيد ضخم من الأعمال الإذاعية والتليفزيونية والمسرحية.
مثل البرنامج الإذاعي (شاعر عباد الله) أشعار فؤاد حداد، وإلقاء صلاح جاهين، الذى يتضمن 30 أغنية، وبرنامج (صور وحكايات) الذي يحوى 68 أغنية، المسرحية الغنائية (حلم ليلة صيف)، مسلسل الأطفال الغنائي (كان يما كان) لصفاء أبوالسعود، هذا غير فوازير (نيللي وشريهان وسمير غانم)وغيرها من الأعمال الدرامية.
أشهر آراء إبراهيم رجب
** أرفض تلحين الكلمات التى تعبر عن ضعف الإنسان، عندما ألحن يجب أن تكون كلمات لا أخجل منها.
** تعاونت مع عبدالحليم حافظ في لحنيين، لكننا لم نلتقي إنسانيا،ولم تربطني به علاقة صداقة، حيث كان ذو طبيعة مختلفة عني تتناسب أكثر مع الشاعر عبدالرحمن الأبنودي!.
** أحب غناء الممثلين جدا، وأفضل أن يغني ألحاني ممثل فى عمل درامي من أن يغنيه مطرب!، لأن الممثل يكون صادقا في إحساسه أكثر من المطرب، لأنه يتقمص الشخصية التى يجسدها، ولايتدخل في اللحن، وبالتالي يخرج اللحن صادقا، عكس معظم المطربين الذين يكذبون عندما يغنون، ولا يمتلكون مبدأ في اختيار أغانيهم.
** أتعاطف مع الطفل بقوة، فهو لا يجد فنا خاصا به ولا من يهتم به، ولا يجد سوى غناء الإعلانات التى تعرض سلعا بعضها لا يجب على الطفل أن يعرفه، وكثير من الملحنيين الكبار لم يقدموا ألحانا للأطفال، لأن الاستعمار منذ أن كان مسيطرا علينا كان يدرك أن طفل اليوم هو شاب الغد ورجل المستقبل، فقام بإصدار قوانين وقرارات من شأنها أن تبخس قدر الغناء والتلحين للأطفال، وللأسف فإن بيروقراطية الموظفين عندنا طبقت القرارات بإحكام شديد.