كتب: أحمد السماحي
فريد شوقي هو أسطورة الفن المصري بلا جدال، وصاحب الرصيد الذهبي من الأفلام التى لا تنسى، والمحفورة في ذاكرة الجمهور المصري والعربي من مختلف الأجيال، من يشاهد أفلام فريد شوقي بداية من أول أفلامه (ملائكة في جهنم) عام 1946، وحتى آخر أفلامه (الغاضبون) عام 1996 يجد نفسه أمام صورة مصغرة لمصر، وما حدث فيها على مدى نصف قرن، سواء في الحياة السياسية أو الاتصادية أو الاجتماعية، دخل الملك قلوبنا كزعيم وقدوة، وتربع في أعماق ضمائرنا ومازال حتى الآن، ورغم ظهور أجيال بعده من النجوم والفنانيين، كان فريد شوقي ملء سماء العرب وأرضهم روحا وجسدا وحنانا، امتع الجماهير بفنه، وضحك معهم، وبكى معهم، ورحل، وبقيت أفلامه ليست على الشاشات فقط، ولكن في كل القلوب.
فريد شوقي وموقف لا أنساه
كان وجه فريد شوقي مصريا خالصا، ملامحه معبرة وعيناه قويتان ينبثق منهما إشعاع له طغيانه ويتمتع بقلب أبيض (زي الفل) وروحا مرحة وإنسانية فياضة، لديه إحساس غني جدا بالإنسانية ومليئ بطاقة هائلة من الحنان والدفء الأخوي، أذكر في بداية عملي بالصحافة الفنية في بداية التسعينات، وكنت مازلت طالبا في الجامعة أن حضرت حفلا ولم يكن معي دعوة لحضور هذا الحفل، وكان الحفل في قاعة أحد الفنادق الشهيرة والدخول بالملابس الرسمية، ونظرا لمعرفتي بموعد الحفل على الهواء، ذهبت إليه بملابسي العادية، وأثناء محاولتي الدخول ومعاكستي لحارس القاعة جاء (فريد شوقي) بصحبة النجم فاروق الفيشاوي، وبعد دخوله بخطوات قليلة سمعني وأنا أقول لحارس الأمن حتى أرقق قلبه: (أعمل ايه معنديش بدلة).
إقرأ أيضا : فى الذكرى الـ 23 للملك: أحلام فريد شوقي التى لم تخرج للنور
وفجأة وجدت فريد شوقي بكل عظمته يترك يده من يد فاروق الفيشاوي ويعود إلى الحارس ويطلب منه بحزم السماح لي بالدخول، فيقول له الحارس : (يا ملك مش معاه دعوة، ولا لابس بدلة)، فإذا به يعطيني الدعوة الخاصة به، ويقول للحارس: (تحب أقلع البدلة بتاعتي واديهاله كمان، ولا تسمح له بالدخول) فيخجل الحارس ويقول لي وهو يشتاط غيظا مني: اتفضل!، ويصحبني الملك إلى (الترابيزة) الخاصة به مع النجوم ويجلسني معهم.
فريد شوقي فنان الشعب
في بداية التسعينات تقدم بعض الأشخاص إلى السيد رئيس الوزراء السابق عاطف صدقي، طالبين من الحكومة منح فريد شوقي لقب (فنان الشعب)، وقد فرح الملك بهذه المبادرة، ولكن للأسف منعت التعقيدات الإدراية الروتينية – كما ذكر المخرج مدحت السباعي – ملك الترسو من الحصول على لقب (فنان الشعب)، وذات مرة سأل فريد شوقي زوج ابنته مدحت السباعي قائلا: تفتكر ليه الحكومة حتى الآن يا مدحت مش عايزة تديني لقب فنان الشعب؟! فقال له السباعي: (لأن الشعب نفسه أعطاك اللقب ده قبل الحكومة يا ملك!)، وأسعدته هذه الإجابة، وضحك ضحكته الطفولية الصافية وهو يقول للسباعي: (فعلا يا حياتي صح).
فريد شوقي و25 عاما على الرحيل
غدا الخميس نحيي الذكرى الـ 25 لرحيل الملك فريد شوقي الذي قدم للفن المصري ما لم يقدمه فنانا آخر، وجسد شخصيات كثيرة ومتنوعة لم يجسدها أحدا غيره حتى الآن، ودافع عن البسطاء وأولاد الشوارع، وأولاد البلد، وزرع قيم جميلة في ضمائر وقلوب مئات الملايين، اليوم سنسمع صوت فريد شوقي وهو يحكي جزء بسيط عن بداية مشواره كما جاء في مجلة (الكواكب) عام 1954 تحت عنوان (قصة حياتي) يقول الملك: (في سبيل الفن سرت على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، اشتريت ضمائر المتفرجين الصغار، وسرقت حذاء أمي وملابسها، واختلست التذاكر من مكتب الأستاذ زكي طليمات، وأصبحت بعد ذلك مجرما على الشاشة!).
فريد شوقي.. تعلم (الحداقة) من الحي
في البداية يقول فريد شوقي: (ولدت عام 1920 في حي (البغالة) بالسيدة زينب، وكان أبي موظفا بمصلحة الأملاك، واختار لي والدي اسم فريد تيمنا باسم الزعيم الخالد (محمد فريد) الذي نفاه الأعداء خارج الوطن، وكانت أسرتنا تستوطن حي (البغالة) وقد تعلمت (الحداقة) من أهل هذا الحي، ودخلت مدرسة (الناصرية) عام 1927، وكانت تلك المدرسة مقصورة على أولاد الذوات ولهذا دخلتها بالواسطة، ولم تكن المدارس الابتدائية في ذلك الوقت تعرف فرق التمثيل، وإذا حدث وعرفته فإن هذه المدرسة بالذات لم تعرفه، لأن التمثيل عند الذوات هواية لا تليق بأولادهم، ولكني ابتعدت عن أرستقراطية المدرسة، وبحثت عن إشباع هوايتي في ديمقراطية البغالة.
فريد شوقي ووالده
يقول فريد شوقي: جمعت أولاد الحي في حديقة منزلنا، وكنت أقف على دكة أمامهم لألقي ما أحفظه من محفوظات المدرسة، ولكن المحفوظات كانت من النوع الدرامي الذي (يطفش) المستمعين، وكانت الطريقة الوحيدة لشراء ضمائر المستمعين وإجبارهم على الوقوف لسماعي حتى انتهي من أدائي هو أن أوزع مصروفي البالغ قدره قرش صاغ على عشرة منهم.
إقرأ أيضا : أم كلثوم تكتب نهاية حب وزواج فريد شوقي من هدى سلطان
رأى أبي ذلك، وعرف أنني أنفق القرش الذي يعطيه لي كل يوم على المتفرجين، وكان أديبا يحب الفن ويهوى التمثيل، ولهذا التحق بمعهد التمثيل الذي افتتح عام 1930، وكان يحب في ميلي للفن ويشجعني عليه ويأخذني معه كل أسبوع إلى فرقة رمسيس أو فرقة فاطمة رشدي، وحين نعود إلى البيت يروح يسألني عما شاهدت لأبدي رأيي، فإذا أبديت رأيا لا يروق له حرمني من الذهاب في الأسبوع التالي، كان هذا حافزا على ألا أدع مشهدا يفوتني أو عبارة أو حركة من حركات الممثلين تفلت مني.
فريد شوقي يسرق ثياب والدته
يضيف فريد شوقي: واصلت نشاطي الفني في الحارة، وانتقلنا إلى حي (الحلمية) فعرفت أبناء الذوات هناك، ولكن أهلهم كانوا يمنعونهم من السير معي أو مصادقتي لأنني (مشخصاتي)، ولكن (بحداقتي) استطعت أن أكون فرقة من الطلبة، وكنا نلجأ إلى بيت (السادات) وفيه فناء كبير ونقدم بعض مشاهد من مسرحيات يوسف وهبي، وكانت تظهر في إحدى المجلات فأنقلها وأقول لأعضاء الفرقة إنني مؤلفها.
واستلزمت إحدى المسرحيات دورا نسائيا ولم نستطع العثور على فتاة تقوم بالدور فعهدت به إلى زميل مليح الوجه، ولم نجد الملابس اللازمة فسرقت ثياب أمي وحذاء له، وحين لبس الزميل ملابس أمي بدا كما لو كان فتاة، ولبس الحذاء، وهنا انكشف أنه رجل، لأنه لم يستطع أن يسير به إلا خطوات انكسر بعدها كعب الحذاء، وعدت بالملابس والحذاء إلى البيت وكانت أمي قد اكتشفت سرقتها وعرفت أنني الفاعل فانتظرتني وفين يوجعك!
فريد شوقي وعزيز عيد ويوسف وهبي
في عام 1934 التحقت بمدرسة (الصنائع) وكونا فرقة تمثيلية كان أستاذنا فيها المرحوم (عزيز عيد) الذي أخرج لنا مسرحية (الاستعباد)، وأعجب بي أيما إعجاب فأشار علي أن أهتم بالتمثيل أكثر من اهتمامي بالمدرسة، وبعد تخرجي من مدرسة (الصنائع) التحقت بمدرسة (الفنون والصنائع)، وكنت أحب الملاكمة إلى جانب التمثيل، وقد استطعت أن أفوز في بطولات المدارس، وبطولات الأندية المفتوحية، ثم جاء الاستعداد لدورة الألعاب الأولمبية التى أقيمت في ألمانيا عام 1936، وكان أمامي أن أقهر منافسا واحدا وأسافر، ولكن سوء الحظ لازمني في المباريات الأخيرة فهزمت بنقطة واحدة.
إقرأ أيضا : قصة حب فريد شوقي كما رواتها (هدى سلطان) (1/2)
وسببت لي الهزيمة عقدة نفسية فتركت الرياضة إلى الأبد، وأعلن الأستاذ يوسف وهبي عن حاجة الفرقة القومية لهواة فأرسلت له خطابا فاستدعاني على الأثر وامتحنني وحزت إعجابه فألحقني كهاو بالفرقة، وكان معي الزميل كامل الحفناوي، وحين تخرجت من المدرسة عرض على الأستاذ يوسف أن أعمل في الفرقة بمرتب شهري قدره ستة جنيهات، ولكني وجدت وظيفة في مصلحة الأملاك بمرتب قدره ثمانية جنيهات، وأقول الحقيقة إنني كنت جبانا طماعا لأنني اخترت مصلحة الأملاك.
فريد شوقي والريحاني
وجدت زملائي في مصلحة الأملاك – يقول فريد شوقي – بعض من مجانين الفن مثلي، من هؤلاء عبدالرحيم الزرقاني، وشقيقه علي الزرقاني، وأحمد الجزيري، فكونا فرقة تمثيلية باسم (الرابطة القومية للتمثيل) وكنا نستأجر مسرح (بريتانيا) لنؤدي عليه إحدى المسرحيات مرة في كل شهر، وكنا نستعد لهذه الليلة تسع وعشرين ليلة متوالية، وأذكر أننا كنا نقدم إحدى الروايات على مسرح (ريتس) وتأخرنا حتى اقترب موعد رفع الستار عن فرقة الريحاني فجاء الأستاذ طلعت حسن غاضبا يقول لي: (يا سي فريد خلصنا)، وهنا وقف من بين المتفرجين المرحوم الأستاذ نجيب الريحاني وقال له: (سيبهم)، وفي تلك الليلة تأخر موعد رفع الستار لفرقة الريحاني حوالي نصف ساعة، ولن أنسى أبدا عبارات التشجيع التى قالها لي المرحوم الريحاني.
إقرأ أيضا : ليلة القبض على فريد شوقي بأمر الرئيس عبدالناصر
ويضيف فريد شوقي: التحقنا بالمعهد البريطاني الذي كان يعلم الهواة بعض الفنون، وكون المعهد فرقة (العشرين) وكنا نمثل فيها باللغتين العربية والإنجليزية، وكان معنا في ذلك المعهد (محمود السباع، السيد بدير، محمد توفيق) وطالبات من كلية الآداب، وقد تطوع يوسف وهبي بإعطائنا دروسا في الإلقاء، والأستاذ مظهر سعيد دروس في علم النفس، والسيدة بهيجة حافظ دروس في الموسيقى.
فريد شوقي ومعهد التمثيل
أثناء ذلك افتتحت وزارة المعارف معهد التمثيل مرة ثانية عام 1945 فتركنا المعهد البريطاني على الفور، والتحقنا بمعهد التمثيل وكانت الدفعة الأولى من معهد التمثيل مكونة من 15 طالبا منهم تسعة من فرقة (العشرين)، وكنت أقسم وقتي بين المعهد والعمل في دائرة الأميرة السابقة نعمت مختار، أعمل نهارا، وأدرس في المعهد بعد الظهر، وأستذكر ما أدرس في الليل، وظللت على هذا الكفاح ثلاثة أعوام متتالية حتى أستطيع أن أعيش، وفي ذات الوقت أشبع هوايتي، وفي السنة النهائية حصلت على أكبر درجة في مادة التمثيل، وكان الأستاذ حسن الإمام ضمن الحاضرين فطلب عنواني لاستدعائي وقت اللزوم.
فريد شوقي وملائكة في جهنم
أرسل حسن الإمام في طلبي بعد مدة وعرض علي القيام بالدور الأول في فيلم (ملائكة في جهنم) فكان دوري الأول، وعندما تخرجت في معهد التمثيل عام 1947 التحقت بالفرقة المصرية وغدوت ممثلا ناجحا، ولا أقول هذا عن غرور بل أقوله لأنني أحب المسرح وأتمنى أن أعود إليه إذا سنحت لي الفرصة).
بعد فيلم (ملائكة في جهنم) توالت أفلام فريد شوقي حتى وصلت لأكثر من 300 فيلما سينمائيا، وعشرات من المسلسلات التليفزيونية، وأيضا عشرات من المسرحيات، هذا بخلاف العديد من الروائع الدرامية الإذاعية سواء كمسلسلات أو تمثيليات.
فريد شوقي لم يمت
يوم السابع عشر من يونيو انتشرت شائعة رخيصة عن وفاة الملك، وللأسف الشديد أذاع التليفزيون المصري هذه الشائعة دون أن يتحقق من صحتها، وبعد أربعين يوما فقط من شائعة وفاته الكاذبة هذه رحل فريد شوقي يوم 27 يوليو عام 1998 ليكتب نهاية حياة عريضة من الفن، عاشها بالطول والعرض، لكن من قال أن فريد شوقي قد مات؟!.. لا يموت من يبقى في ضمائرنا، وفريد شوقي بقى ذكري مضيئة في قلوبنا وعقولنا.
