بقلم : محمد حبوشة
لست أدري لماذا كل هذا الهجوم على فيلم رد قلبي، والذي يعد واحد كلاسيكيات السينما الرومانسية المصرية بالغة العذوبة والرقي على مستوى القصة والإخراج والأداء التمثيلي، ففي شبابي شاهدت هذا الفيلم عدة مرات، وفي كل مرة كنت أخرج من دار السينما أبكي بحرقة من الانفعال الذى تسببت فيه الميلودراما التي وظفها المؤلف والمخرج عز الدين ذو الفقار، لكسب تعاطف الشباب (وغيرهم) مع انطلاق ثورة 23 يوليو 1952.
تدور قصة فيلم رد قلبى، حول (الريس عبد الواحد) الأب الذى يعمل في أرض أحد الأمراء من الإقطاعيين ويربط الحب بين ابنه (علي) والأميرة (إنجي) ابنة الباشا منذ الصغر، يصبح (علي) ضابطا في الجيش كما يصبح شقيقه (حسين) ضابطا في الشرطة، ثم يكتشف ابن الباشا العلاقة بين أخته (إنجي) وابن الريس عبد الواحد ويبلغ والده الباشا الذى يواجه الريس عبد الواحد الذي يطلب يد (إنجي) لابنه (علي) ويرفض الباشا ويطرده من عمله ويتهمه بالجنون، وتتوالى الأحداث وتندلع ثورة يوليو ويتساوى الفقير مع الباشا وتصادر أملاك الباشا ويتولى ابن الريس عبد الواحد لجنة المصادرة.
من ذكريات تصوير هذا الفيلم قال الفنان شكرى سرحان: أنا أعتز جدا بهذا الفيلم ولا يوجد مواطن مصرى ينسى الظروف التي عاشتها مصر قبل عام 1952، وأيضا ما أنجزته ثورة يوليو في 1952، وأرى أن فيلم رد قلبى فيه تجسيد حى لحال المواطن المصرى قبل وبعد الثورة، والفيلم بالنسبة لى محطة هامة فقد أكرمنى الله تعالى بأن جعلنى أعبر عن الشاب المصرى من خلال أسرة بسيطة ورحلة هذه الاسرة في مقابل أسرة إقطاعية.. كرموز للحياة المصرية في ذلك الوقت، وأضاف سرحان: لا أنسى أن هذا الفيلم قد ترك بصمة على السينما وعلى المشاهد المصرى من خلال قصة كتبها فارس الرومانسية يوسف السباعى وأخرجها ملك الرومانسية عز الدين ذو الفقار، ولا أنسى أن هذا الفيلم كان سببا في معرفتى بالفارس أحمد مظهر الذى علمنى ركوب الخيل وصرنا من أعز الأصدقاء.
مريم فخر الدين تهاجم المسلسل
ربما أقبل الانتقاد للمسلسل الذي حمل اسم رد قلبي، حيث هاجمت مريم فخر القائمين على مسلسل رد قلبى، القائم على نفس القصة وبطلته نيرمين الفقى ومحمد رياض، وقالت إنه مسلسل سيئ تمثيلا وإخراجا، وأضافت مريم: عندما عرض عليِ دور إنجي في فيلم رد قلبي، كان إجري وقتها 3 آلاف جنيه، لكن الجهة المنتجة عرضت وقتها ألف جنية فقط، فوافقت رغم أنني اشتريت ملابس بألف ومائتين جنيه من مالي الخاص، ولم أغضب أو احزن ويكفيني أنه ظل يعرض لأكثر من خمسين عاما بنجاح كبير فنحن كنا نشتغل للمجد أما الآن فالممثلات يعملن من أجل الفلوس فقط، وأقول لهم الأموال تذهب ولكن المجد هو الباقي.
وأقول لكل سفهاء هذا الزمان من كتاب الغبرة: قصة رد قلبي جديرة أن تقرأ حقا، وأن تقرأ في أناة ومهل لا في سرعة وعجل، وعسى أن تكون من خير ما أهدى الأستاذ السباعي إلى قرَّائه إن لم تكن خير ما أُهدي إليهم، لولا هنات سيكون الإلمام بها بعد حين، فأنت واجد في هذه القصة حين تقرؤها ألوانا كثيرة مختلفة من تصوير الحياة المصرية في ربع القرن الأخير، تجد فيها السياسة، وتجد فيها الإسراف في البؤس، والإسراف في الثراء، والإسراف في هذا التفاوت، لا بين أبناء الوطن الواحد ولا بين أبناء المدينة الواحدة، بل بين أبناء الحي الواحد أو الجزء الضئيل من هذا الحي، فهذا القصر الضخم الفخم الذي تسرف الأيام على أهله بما تتيح لهم من النعيم، وهذا البيت الصغير الحقير الذي تسرف الأيام على أهله بما تصب عليهم من الفقر والشقاء والحرمان، وبما تذكي في قلوبهم على رغم ذلك من الأمل والطموح، هذا القصر الضخم وهذا المنزل الضئيل متجاوران ليس بينهما إلا خطوات يمكن إحصاؤها.
عذوبة قصة رد قلبي
وأنت واجد أيضا في قصة رد قلبي، إلى جانب التصوير للحياة السياسية والاجتماعية تصويرا آخر أعمق منه عمقا، وأروع منه روعة، وأشد منه إمعانا في الجدة والطرافة والغرابة جميعا، وأريد به الحب الذي يلغي الفروق ويمحو الآماد، ولا يحفل بالسياسة ولا يحفل بالحياة الاجتماعية، وإنما يمضي في طريقه كما تمضي القصة، يهدأ حينا ويعنف حينا آخر، ويستقيم مرة ويلتوي مرة أخرى، حتى ينتهي إلى غاية بعد خطوب أي خطوب، وبعد عبث بالقلوب وتعذيب للنفوس وإرهاق للأعصاب وامتحان لقدرة الإنسان على الصبر والمطاولة، وعلى الجهاد والكفاح، وعلى النفوذ من المشكلات والتغلب على الخطوب حين يركب بعضها بعضا، وحين تجعل حياة الناس جحيمًا لا يطاق.
وحتما أنت في قصة رد قلبي، واجد بعد هذا كله فنونا من تحليل النفس الإنسانية وأهوائها وعواطفها وآلامها وآمالها ودخائلها الملتوية المعقّدة، وأسرارها التي تكاد تخفي حتى الضمير نفسه، والتي تدفع الناس إلى أن يعملوا ويأملوا دون أن يعرفوا لم يأملون ويعملون؟، ثم أنت متنقل أثناء هذه القراءة بين بيئات مختلفة متفاوتة أشد التفاوت، فأنت في هذه القرية بين القصر الشامخ الضخم والبيت المتواضع الفقير، ثم أنت في بيئة أخرى تخالفها أشد المخالفة، بيئة المدرسة الحربية على ما لأساتذتها وطلابها وضباطها من تقاليد وعادات.
وأنت في القاهرة، ثم أنت في الإسكندرية، ثم أنت على ساحل البحر مما يلي الصحراء، ثم أنت في أعماق الصحراء قد بعدت أشد البعد عن النهر والبحر جميعا، وعشت في خيام لا يرى أهلها إلا رمال الصحراء وشمس السماء ونجومها، فقدر أنت ما يكون لاختلاف هذه البيئات وتفاوت الحياة فيها، والمعاشرة لأهلها من الأثر في نفسك حين ينقلك كاتب رد قلبي، بينها في أناة ورفق مرة وفي صرع وعنف مرة أخرى، وليس هذا كل ما تجد في هذه القصة، بل أنت واجد فيها ألوانا من العلم قلما تعرض عليك في كتابٍ؛ فحياة الجند في ثكناتهم منذ يصبحون إلى أن يظلهم الليل، ومنذ يمسون إلى أن يسفر عنهم الصبح، والصلة بينهم وبين الضباط، والصلة بين بعض الضباط وبعض على اختلاف مراتبهم ومنازلهم في نظامهم ذاك العسكري.
التطاول على رد قلبي
والذي أثار حفيظتي شخصيا أن في حين يحتفل المصريون اليوم بذكرى ثورة 23 يوليو، والتى أعادت للمواطن كرامته قبل 71عاما، أن يتطاول أحدهم على فيلم رد قلبي، وخاصة تعرض للفئات المهمشة، حيث قامت السينما بتوثيق هذا الحدث التاريخي، ورصدته من خلال العديد من الأفلام المغلفة بالرومانسية، وعلى رأسها فيلم رد قلبي، والذي لا يستطيع أحد أن ينسى قصة حب الأميرة (إنجي)، ابنة الباشا، والتي جسدت دورها الفنانة الرقيقة مريم فخر الدين، لـ (علي) ابن الفلاح البسيط، والذي جسد دوره الفنان شكري سرحان، والذي أصبح ضابطا في الجيش، وتمر الأيام حتى تندلع الثورة، وبعد ذلك يتمكنان من الزواج.
وأقول لتلك الأقلام الصغيرة التي تتمتع بالجهل وعدم الفهم لطبيعة المرحلة من عمر مصر، أن فيلم رد قلبي، يعد أيقونة الأفلام الوطنية، وأحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية، لدرجة أننا قد لا نشعر بمرور ثورة يوليو إلا من خلال عرض هذا الفيلم الرائع، والذى استطاع تناول موضوع الطبقية، بين الشعب قبل الثورة، من خلال أشهر قصة حب عرفتها السينما المصرية، بين الأميرة إنجى، ابنة الباشا، وعلى ابن الجناينى، الذى يصبح ضابطا في الجيش، والمسئول عن لجنة مصادرة أموال وأملاك أسرة حبيبته، ولهذا لا تقتربوا من فيلم يعد رقم 13 في قائمة أفضل 100 فيلم في السينما المصرية، دعكم في تفاهاتكم وغرقكم في براثن الجهل الواعي.
لقد استفزني قول أحدهم مما يطلقون على أنفسهم نقادا للسينما: (فجأة لقتيني ما بحبش فيلم رد قلبي).. ياسلام!!!، وأقول له من أنت حتى تقول مثل تلك الكلمات التي لاتنم إلا عن جهل؟، وهو الذي استطرد قائلا في أحد البرامج التلفزيونية ببجاحة يحسد عليها: (إن هناك أفلاما تحدثت عن ثورة 23 يوليو بشكل مباشر مثل فيلم رد قلبي، مضيفا أن هناك عدة أفلام تناولت ثورة 23 يوليو و لكن بشكل غير مباشر، مثل فيلم (الأيدي الناعمة)، وأضاف هذا الذي يتمتع بنوع من الجهل المركب: أنه لا يمكن الكتابة وصناعة الأفلام عن ثورة في خلال عامين، يجب أن يمر على الثورة ما لا يقل عن 10 سنوات، حتى يمكن تناولها، وتقيمها كتجربة بشكل سليم، لأنه – على حد قوله – يجب أن تكون النظرة بعيدة في صناعة فيلم عن ثورة، حتى نتمكن من التعبير عن هذه الفترة، والأفلام كان يتم تصويرها قديما في 4 شهور، ولذلك كانت الأغنية أسرع في التعبير عن جميع الأشياء، واعتقادي الشخصي أنه لايفهم ما يقوله في هذا الصدد.
ضجة حول فيلم رد قلبي
لفت نظري وسط هذه الضجة التي أثيرت حول فيلم رد قلبي، في ذكرى ثورة 23 يوليو، قول نورة الكعبي، وزيرة الثقافة الإماراتية، إنها تعشق التراث الأدبي والثقافي المصري، وإنها تعرفت على اللهجة المصرية من خلال الأفلام والمسرحيات التي كانت تشاهدها في الصغر، وعلاقتها بزميلاتها ومعلماتها المصريات في المدرسة، فقد قالت نورة الكعبي، وزيرة الثقافة الإماراتية، إنها تعشق التراث الأدبي والثقافي المصري، وإنها تعرفت على اللهجة المصرية من خلال الأفلام والمسرحيات التي كانت تشاهدها في الصغر، وعلاقتها بزميلاتها ومعلماتها المصريات في المدرسة.
نورة الكعبي قالت: (في عمر 14 عاما) كنت مغرمة بفيلم رد قلبي، لعز الدين ذو الفقار، وكل شوية أكرر مشاهدته، أما المسرحيات فكنت أقدر أشوف كل ويك إند مسرحية (ريا وسكينة) بدون ما أمل، وأشارت وزيرة الثقافة الإماراتية إلى أنها زارت مصر عندما كان عمرها 15 عاما، ودرست في مدرسة كان معظم المعلمين بها من مصر، وتتلمذت على يد معلمين مصريين.
وفي النهاية أقول: كفانا عبثا بأيقونات السينما المصرية، من جانب جهلة وسفهاء، مثل رد قلبي، وهو الذي استطاعت السينما المصرية من خلاله أن تعبر بشكل جيد عن حدث بحجم (يوليو 1952) وتتناول بعمق حجم التأثير الذي صنعته تلك الثورة فى المجتمع المصري والعالم، وقد شهدت صناعة السينما تطورا كبيرا على يد (يوليو) ما اعتبره كثير من المتابعين أن الثورة ساهمت في الإنشاء الثاني للسينما المصرية والتي ظهرت لأول مرة فى عام 1907، وأولت ثورة يوليو اهتماما كبيرا بالثقافة والفنون ومن بينها الفن السابع حيث تمثل مرحلة (الخمسينيات والستينيات) فترة مضيئة فى مسيرتها من حيث عدد الأعمال وجودتها.
لقد أدركت ثورة يوليو مبكرا أهمية السينما كإحدى الأدوات الفنية التي يجب دعمها بقوة خاصة في ظل تبنى (يوليو) لمشروع وطني يسعى لاستعادة دور مصر الإقليمي والعالمي، ومن ثم رأت ضرورة دعم كل مفردات قوتها الناعمة هذا ما دفعها لإنشاء عدد من المؤسسات والمنشآت التي تدعم هذا التوجه من أهمها (المؤسسة العامة لصناعة السينما)، و(أكاديمية الفنون) والتوسع فى إنشاء دور العرض السينمائي فى مختلف مدن مصر، كل هذا صنع بنية تحتية قوية ما زالت تمثل رصيدا وطنيا لمختلف الفنون – رغم التراجع الكبير الذى شهدته فترة ما بعد يوليو، ولعل هذا الأيام سجلت أسوأ فترة في تاريخ السينما المصرية حين جنحت نحو الأكشن الساذج والكوميدي السخيف والإثارة التافهة، وغير من موبقات السينما الحالية التي تعجز عن انتاج فيلم مثل رد قلبي!!!