كتب : محمد حبوشة
طالما اعتبر الفن بمختلف أشكاله وأنماطه، أحد أهم أدوات قياس التحضر المجتمعي، كلما كان قادرا على عرض ومناقشة الأفكار دون قيود، وبمساحات من شأنها خلق أنماط جديدة من الفكر الاجتماعي بعيدا عن الدوائر النمطية، كلما اقترب من تحقيق أدوار كاملة يمكنها أن تسهم في ترسيخ قيم الإنسانية وتطويرها، ومثال ذلك مسلسل ماما غنيمة، الذي حقق درجات مثلى من الوعي بما يخدم البشر ويعبر عن قضاياهم الاجتماعية في قالب لايت كوميدي خفيف، دون مبالغة، و(ربما الحرية التي يحصل عليها الفنان حين يقدم عملا ما، ترسخ أنماطا من الوعي والحرية لسنوات طويلة ولمجتمعات متنوعة)، كما يقول الأديب والفنان التشكيلي الفلسطيني جبرا خليل جبرا.
وظني أن الدراما ظلت، منذ نشأتها البدائية في العصر اليوناني، مرورا بمراحل تطور التصقت بتاريخ التطور البشري، ذلك التطور الذي عبرت عنه النصوص الدرامية كأحد أهم آليات التأريخ، ظلت مرآة عاكسة للحياة الاجتماعية إلى حد كبير، معبرة عن درجات التحضر في المجتمع أو الانتكاسات الفكرية والأخلاقية، لذلك صنعت الدراما لنفسها بين بين كل الفنون مساحة دافئة وحميمية في قلوب الجمهور، جعلتها الوجه الأقرب للحياة الاجتماعية اليومية والمعبر الأكثر واقعية عن التفاعلات الإنسانية، كما تجسد ذلك في المسلسل الخليجي ماما غنيمة، الذي تطرق إلى حكاية 3 بنات شقيقيات من ناحية الأب عبر جنسيات مختلفة (مصرية، سعودية كويتية).
إقرأ أيضا : إلهام علي .. أصبحت رقما صعبا في الدراما الخليجية
وبالحديث عن الدراما الخليجية، التي تشهد قفزات ملحوظة، تزامنا مع صحوة فنية غير مسبوقة شهدتها السنوات القليلة الماضية بمختلف الدول بدرجات متفاوتة، نجد أنها قد قطعت شوطا كبيرا نحو التصورات المأمولة منها، وإن لم تصل الدراما الخليجية حتى اللحظة الراهنة لما يأمله القائمون على صناعتها، إلا أنها تسير بخطا ثابتة نحو مكانة أكثر انفتاحا وتحررا في المستقبل القريب، ما يجعلها في قلب المنافسة، ولعل مسلسل ماما غنية الذي انتهت حلقات الثمانية فقط على منصة (شاهد) قبل أيام، هو نموذج يعكس التطورات الحاصلة في الدراما الخليجية خلال السنوات القليلة الماضية، ربما كان يغلب عليها سمة تجاوز (الخطوط الحمراء)، ومحاولة القفز بعيدا عن الأنماط التقليدية، وهو إجراء عادة ما يمثل صداما مع المجتمع الخليجي (المحافظ) ويثير عادة موجات جدل أحيانا تكون في صالح العمل وتجعله في صدارة نسب المشاهدة.
ماما غنيمة غير نمطي
هذا التوجه بدا جليا، في ماما غنيمة، حيث تعد صورة المرأة في الدراما الخليجية أحد أبرز الإشكالات التي يطرحها النقاد، لأنها أقرب للتنميط غير المحمود، رغم أن الأدوار النسائية قد نجحت في حجز مكانتها لدى الجمهور الخليجي، إلا أنها ظلت قاصرة على الثراء الفاحش، وبالتالي المغالاة في الملابس والمظهر الخارجي، أو الفقر المقدع، لتؤكد حقيقة أن (الكتاب الجيد يحرر الإنسان الذي يقرأه، أما التلفزيون الجيد فيعتقل الإنسان الذي يشاهده)، وذلك من خلال الاعتماد على التشويق وتوظيف العناصر الجمالية لتحريك العواطف، تماما كما جاء في مسلسل ماما غنيمة.
إقرأ أيضا : سعد الفرج .. عميد الدراما الخليجية
وفي هذا الإطار شاهدت من عروض (شاهد) الجديدة في الدراما الخليجية، مسلسل ماما غنيمة، الذي رصد مباراة بين ثلاث أخوات من ثلاث جنسيات عربية مختلفة على الفوز بثروة جدتهن (غنيمة) التي وجهت لهن دعوة لتمضية سنة كاملة معها في المنزل لتختار بعدها الشابة التي تستحق الثروة، وذلك ضمن الدراما الاجتماعية الخليجية ماما غنيمة، من تأليف علياء الكاظمي وإخرج عبدالرحمن علي السلمان وإنتاج إيغيل فيلمز، وتتوزع البطولة بين الممثلة القديرة (أسمهان توفيق)، والممثلات الشابات (ليالي دهراب، ريم سامي، في فؤاد، ومعهن ياسة، عبدالعزيز أحمد، أحمد العوضي، فاطمة الدمخي وبمشاركة عبدالله عبد الرضا ومنصور البلوشي.
ماما غنية والمسلسلات القصيرة
ويبدو أن صناع العمل يركبون موجة تنامي ظاهرة تصوير المسلسلات ذات الحلقات القصيرة التي باتت تحقق نسبا عالية من المشاهدة من جيل الشباب خاصة، بعيدا عن المط المربك للحلقات دون موجب في الغالب، إذ يتكون المسلسل من ثماني حلقات تدور أحداثها حول الجدة (غنيمة) تجسد دورها الفنانة اسمهان توفيق تجد نفسها بعد وفاة ابنها مع ثلاث حفيدات، وعام واحد سيحدد من فيهن التي ستنعم بثروتها كاملة.
ترصد أحداث العمل قصة ماما غنيمة المرأة الثرية، التي تعيش وحيدة في بيت أشبه بالقصر، ولديها ثلاث حفيدات من ابنها (فيصل) الذي تزوج خلال حياته من ثلاث زوجات مختلفات إحداهن كويتية، والثانية مصرية، والثالثة سعودية وبعد وفاته، تقرر ماما غنيمة دعوة حفيداتها الثلاث للعيش معها لمدة عام على أن تختار خلال هذه الفترة واحدة منهن لتكتب باسمها هذا البيت الفخم وتمنحها كل ثروتها، وفي هذا البيت تتعرف الجدة على حفيداتها عن قرب في حين تتنافس الحفيدات على كسب ود الجدة ونيل إعجابها والتنافس على الحصول على البيت والثروة ضمن إطار كوميدي خفيف، كما تتعرف الأخوات على بعضهن البعض لأنهن لم يعشن معا في السابق.
ليالي دهراب فاكهة المسلسل
جاءت أحداث حلقات ماما غنيمة، سريعة ومشوقة، ولا سيما بعد الجواب الذي قامت بكتابته الجدة (غنيمة/ الفنانة أسمهان توفيق) ووضعت من خلاله سؤلا خاصا بحفيداتها الثلاثة (لمياء/ ريم سامي)، و(مناهل/ ليالي دهراب)، و (سارة/ في فؤاد)، جاء مضمونه كتالي: (خلال سنة سوف اختار واحدة منكن وسأقوم بكتابة البيت باسمها، وأيضا سأوصي لها لكل ثروتي)، وهنا بدأت تخمينات المشاهدين حول الفتاة سعيدة الحظ التي سوف تحصل على كل هذه الثروة الضخمة، إلا أن (ماما غنيمة) علقت هذا الأمر على شرطين الأول هو قيام هؤلاء الفتيات الثلاثة بالبحث عن وظائف أو عمل، أما عن الشرط الثاني فلم تكشف عنه (ماما غنيمة، الأمر الذي زاد من جرعة التشويق لدى المشاهدين ودفعهم لمتابعة كل حلقات المسلسل الجديدة والتي عرض منها 5 حلقات، ولم تفصح خلالهم (ماما غنيمة) عن أي الشرط الثاني، لكن تقرر أن تفصح عنه من خلال رغبتها في زواج البنات الثلاثة.
من أبرز الملاحظات التي يسلط مسلسل ماما غنيمة الضوء عليها، هو البحث عن العائلة أو كما يقال عن الدفء الأسري، وهو الذي يبجث عنه الكثيرون في المجتمع، للتغلب على الخوف الناتج عن الوحدة، إضافة إلى الشعور بالأمان، هذه الأمور لا تتحقق إلا في وجود العائلة التي تمثل السند والضهر لكل شخص، وهذا ما بحثت عنه الجدة (ماما غنيمة)، حيث وجدت ضالتها في حفيداتها الثلاثة (لمياء وسارة ومناهل)، وهم بنات نجلها (فيصل) الذي توفى وتركها وحيدة، إذ تقرر أن ترسل لكل واحدة خطابا نظراً لتواجدهن في دول عربية مختلفة؛ (مصر والسعودية والكويت)، تطالبهن بضرورة المجئ والعيش معها لمدة عام كامل في منزلها الكبير الذي يكون أشبه بالقصر، وعاشت فيه لسنوات بمفردها، وأمام ذلك حمستهن لكي يكملن المدة التي وضعتها من خلال الشرطين اللذين وضعتهما.
إقرأ أيضا : محمد المنصور يكتب : الدراما التلفزيونية في الكويت .. ذراع القوة الناعمة
أصبح مصير هؤلاء الفتيات هو ما يشغل تفكير متابعي مسلسل ماما غنيمة، وخاصة فيما يتعلق بعلاقتهن العاطفية التي تربطهن بالآخرين، حيث تغيرت النظرة لهن بعد معرفة الكثيرين عن حجم الثروة التي سوف يحصلن عليها، وهنا انقلبت حياتهن 180 درجة، حيث اكتشفت (سارة/ في فؤاد)، خداع (خالد) لها وهو شاب أقنعها بحبه لها لكن اكتشفت في النهاية أنه يكذب عليها ولديه أطماع بداخله وهو الحصول على ثروتها الضخمة، حيث قامت (ماما غنيمة) بوضع اختبار له بعد أن أبلغته بطريقة غير مباشرة، أن (سارة) لم تحصل على شيء من أموالها وثروتها، ليقرر تركها فورا، لتدخل سارة عقب ذلك في صدمة كبيرة بعد معرفة حقيقة الشخص الذي أمامها.
متابعي مسلسل ماما غنيمة
نفس الحال انطبق على (مناهل/ ليالي دهراب)، بعد محاولة (سعود) التقرب منها وإقناعها بالزواج منه، لتأتي مشاهد الفلاش باك لتكشف أمره ونواياه الخبيثة، وهو أن زواجه من (مناهل) بهدف المصلحة فقط، من أجل الحصول على أموالها ثم تركها، أما علاقة (لمياء/ ريم سامي) بالشاب الذي يدعى (أحمد) لم تتضح حقيقتها إلا بعد فترة حين اكتشفت أنه ابن الخادمة (نشمية/ ياسة) التي خططت معه للاستيلاء على الثروة، لكنه كان قد وقع في حب (لمياء) وكشف لها الحقيقة، ما جعلها تتمسك به وتتزوجه بعد أن أثبت لها حبه دون غرض مادي، لتنتهي الأحداث بزواج البنات الثلاثة، وتقرر ماما غنيمة توزيع ثروتها بينهن شرط أن يعيشن معن حفاظا على جدار العائلة.
إجمالا يمكنني القول أنني استعمت كثيرة بمبارة الأداء بين القديرة (أسمهان توفيق)، في قدرتها على التحكم في أعصابها ومزاجها العام بأداء ناعم ومشاعر إنسانية غاية في الأمومة والحنو بحيث كانت طوال الوقت تحتوى ولا تفضل إحدى حفيداتها الثلاث عن الأخرى، وبين الممثلات الثلاثة، الأولى (ريم سامي) بطزاجة مصرية تتسم بالهدوء والرزانة وخفة الدم من خلال المفارقات التي مرت بها، والثانية: (في فؤاد) السعودية المتوقدة أنثوة وحيوية اقترنت بسداجة أوقعتها في المحظور أول مرة لكنها أفاقت على الحقيقة، أما الثالثة: (ليالي دهراب) فكانت فاكهة المسلسل على جناح أداء لايت كوميدي خفيف يؤكد موهبتها المبهرة، ولعل الحبكة الدرامية التي صنعتها المؤلفة علياء الكاظمي، والإخرج لعبدالرحمن علي السلمان، ساهما إلى حد كبيرة في نجاح المسلسل الذي اتسم بالإثارة والتشويق.. فتحية تقدير واحترام لصناع هذا العمل الاجتماعي فائق الجودة.