بقلم الفنان التشكيلي الكبير: حسين نوح
أثلج قلبي أن أجد وسط أعظم عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية فيلما من إخراج المخرج المنسي أنور وجدي، استمتع به دائماً حين يعرض فقد تم انتاجه سنة 1949، أي منذ أكثر من خمسة وسبعون عام، وقال عنه البعض أنه من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية ويعد حدثاً فنياً بكل المقاييس فقد اجتمع فيه نجوم وعمالقة تلك المرحله يوسف وهبي عملاق المسرح ونجيب الريحاني ومحمد عبد الوهاب الموسيقار القدير وليلى مراد وأنور وجدي وعبد الوارث عسر ومحمود المليجي واستفان روستي وسليمان نجيب وفريد شوقي كل هؤلاء في فيلم (غزل البنات)، الذي أشاد به معظم النقاد والمهتمون بالسينما والإبداع وهنا كانت حتمية أن أبحث وأشاهده مرة أخرى بعد أن سيطر اللون الأبيض علي شعر رأسي، الفيلم من إخراج أنور وجدي، الذي أصبح في وقت قصير فتي مصر الأول ونجم نجوم السينما متعدد المواهب.
قام أنور وجدي بالتأليف وكتابة السيناريو والإنتاج والتمثيل والإخراج الذي احترفه حين توفي كمال سليم أثناء تحضير إخراج فيلم (ليلي بنت الفقراء) فأكمل أنور وجدي إخراج الفيلم وانتاجه، وكانت محصلة مشواره الفني أربعة عشر فيلماً منها (ليلي بنت الفقراء، ليلي بنت الأغنياء، قلبي دليلي، عنبر وغزل البنات، ياسمين وفيروز هانم، ليلة الحنة، ليلة العيد، قطر الندى، حبيب الروح).
إقرأ أيضا : حكاية أنور وجدي والمليجي والنابلسي وحسن فايق مع الفقر والجوع !
شاهدت معظم أعمال أنور وجدي، ووجدتني أمام رجل عاشق للفن لابد من إعادة تقييمه، فقد قدم كل تلك الأعمال في مرحلة كانت في بدايات السينما في مصر والعالم والتقنيات بسيطة في كل مناحي العمل الإبداعي، ومع ذلك قدم أنور وجدي أعمالا جذابة بمهنية تتفوق على كثير من أعمال قدمت من بعده، وهنا نكتشف أن الرجل عشق الفن وتفرغ له وأخذ يتعلم من الكبار، فمنذ بداياته مع يوسف بك وهبي في المسرح أخذ يتدرج وانتقل إلى (فرقة عبد الرحمن رشدي) ومنها إلى أدوار البطولة في (الفرقة القومية)، وذاع صيته في بطولة مسرحية البندقية.
شغف أنور وجدي بالسينما
انتقل شغف أنور وجدي بالسينما وانبهر بعوالمها الأخاذة، وكان أيضاً مع يوسف وهبي، وكانت البدايه في أدوار ثانوية كما حدث في في فيلم (أولاد الذوات 1932)، وكذلك فيلم (العزيمة 1939) إخراج كمال سليم، ومن هنا كان العمل مع أكثر من مخرج ومنهم العظماء في تلك المرحلة مثل (أحمد سالم، حسين فوزي، فؤاد الجزايرلي، نيازي مصطفى)، وفي حقبة الأربعينيات أصبح أنور وجدي من أهم نجوم المرحلة وفتي الشاشة الأول، وكان نجاح فيلم (ليلى بنت الفقراء) نجاحاً ساحقاً أن وضع أنور وجدي في مصاف عباقرة الإبداع. لقد تأكدت عبقرية أنور وجدي في فيلم من أهم عشرة أفلام في السينما المصرية (غزل البنات) أحد أيقونات السينما المصرية، فالقصة تأليفه والتمثيل لنجوم المرحله الكبار، أما الإخراج فقد أكد أننا أمام موهبة حقيقية للقدير أنور وجدي، بالإضافة إلى المشاركة في كتابة السيناريو والحوار مع (نجيب الريحاني وبديع خيري)، قدم الاستعراضات في شكل غير مسبوق في تلك الفترة، وكانت كادراته واعية فقد اهتم بالمقدمة في الكادر ثم أيضاً بالحركة بالخلفيات وكيف سيطر علي حركة المجاميع وتنظيم الكادر لكل فنان حسب قيمة ما يقوله، لقد شاهدت مخرجاً مدركاً بوعي لحركة الكاميرا وحجم اللقطات، وظهر ذلك في كثير من المشاهد أتذكر منها مشهد دموع الأستاذ حمام (نجيب الريحاني) الذي لا يغيب صدقه وقدراته لكل من شاهد الفيلم فقد ترقرقت دموعه أثناء سماع أغنية (عاشق الروح) للقدير محمد عبد الوهاب، والتي يسمعها في فيلا يوسف بك وهبي ويردد: (ضحيت هنايا فداه وهعيش علي ذكراه).
أنور وجدي وعبد الوهاب
وقد روى الأستاذ محمد عبد الوهاب في إحدى البرامج أن الدموع حقيقية، وكيف عرض المخرج أنور وجدي عليه فكرة وضع مادة الجلسرين الذي يستخدمه بعض الممثلين ولكنه رفض وأصر على تصوير المشهد، ويقال إنه أخبره أن لديه من الحزن ما يكفي، ويقال أيضاً أن البعض توقع أن يكون السبب هو فقدان شقيقه، وقد برع المبدع أنور وجدي، في تصوير المشهد واضحاً بكادر (كلوز) يكشف مدى صدق التعبير وحركة الدموع في الجفون في مشهد خالد في تاريخ السينما لا يمكن تجاهله، وهنا براعة المخرج في إظهار عبقرية الأداء حين يكون صادقاً، فالمخرج ممثل قبل أن يكون مخرجاً ويدرك قيمة الصدق في الأداء، وهو ما جعل من نجيب الريحاني الضاحك الباكي وجعله أيقونة من أيقونات التمثيل ومن هنا دعوة للانتباه، والتقدير لمخرج أراه سابقاً لعصره ويمتلك مهنية رفيعة المستوى لم ينتبه اليها كثيرون من أساتذة النقد الانطباعي الطيب.
إقرأ أيضا : أنور وجدي والمليجي والنابلسي وحسن فايق وحكايتهم مع (القرش الأبيض) !
لقد برع أنور وجدي في تصوير مشهد في (غزل البنات) أعتقد أنه من أهم المشاهد التي اعتمدت على كوميديا الموقف وسوء الفهم وأراه وبكل موضوعية من أهم إبداعات كل من شارك فيه من ممثلين وإخراج وحركة كاميرا وإضاءة، ففي بهو القصر الكبير حين يدخل الباشا مرتدياً ملابس الجنايني ويرتدي مدرب الكلب ملابس وكأنه باشا ويتهم ظلماً (الأستاذ حمام) المدرس التعيس بسرقة سوار الماس لابنة الباشا، ويتنقل العبقري نجيب الريحاني من التواضع مع مدرب الكلب ومقدم القهوة إلى مشاكساً مع (ليلي) التلميذة التي جاء لتعليمها اللغة العربية، ثم عنيفاً شرساً للباشا بعد اتهامه بالسرقه وكيف يمتهن ثم يقلد الباشا في مقولة مرزوق أفندي (اديله حاجة)، إنه تنوع وتغيير في الأداء للشخصيه يتمكن منها فقط عظماء التمثيل وبحراسة مخرج قادر علي قياده الممثلين وتلك من مميزات وقدرات العظيم أنور وجدي.
مواهب أنور وجدي
وهنا يأتي السؤال الأهم كيف نمتلك كل تلك المواهب والقدرات والإمكانات منذ الأربعينيات ولدينا تاريخ سينمائي حافل بكل المواهب والعبقريات مثل أنور وجدي، ثم والآن تصبح غالبية الأفلام لا تقدم إلا كثيرآً من عنف وبلطجة وكوميديا لتسطيح العقل، وبعض أفلام جيدة لمبدعين حقيقيين يعشقون السينما بصدق ووعي، ولكن تتوه أعمالهم وسط كثير من أفلام طيبة ترتبط بمواسم الأعياد وجمهور الترسو والمهمشين الباحثين عن بطل مغوار قد يكون بلطجي يحقق أحلامهم في أفلام عنيفة ساذجة تنتصر للضحايا والطيبين المظاليم، هل لنا أن ندرك خطورة تلك النوعية علي العقل الجمعي والشباب في وقت أكثر ما نحتاجه هو تفعيل قيم العمل والولاء والانتماء.. يا سادة مصر تستحق فنون بحجم تاريخها.