بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
في العاشر من شهر يوليو الحالي، أقامت فرقة الرحالة الأردنية بقيادة الفنان المخرج حكيم حرب الدورة الثانية من مهرجانها للفضاءات المفتوحة في العاصمة عمان، وعلى مدى ستة أيام شاهد الجمهور و ضيوف المهرجان عروضاً أردنية و عربية تم تقديمها خارج أبنية المسرح التقليدية، منطلقة نحو فضاءات غير محدودة سواء في مدرج رومانى أو ساحة أو مقهى أو شارع، وهى سمة تميز هذا المهرجان عن بقية المهرجانات المسرحية، وهذا التمايز نابع من شعار الفرقة أن (المسرح للناس) فهى تسعى لأن تخلق قاعدة جماهيرية عريضة لفن المسرح، لا يتعالى على الناس فكريا، بل يسعى للتواصل معهم بالذهاب اليهم في أماكن قريبة لكسر عزلة المسرح و حتى لا يكون حكرا على فئة دون أخرى، فالفرقة تؤمن منذ نشأتها عام 1991 أن مسرحا بلا جمهور هو رقص في العتمة ، لذا تسعى لخلق (مسرح جماهيرى) دون تقديم تنازلات فنية و فكرية.
وفي لفتة وفاء رائعة، أطلقت الفرقة على هذه الدورة اسم الفنان المصرى الراحل الدكتور (عبد الرحمن عرنوس) تقديرا لدوره الرائد في المسرح الأردني ، حيث ساهم في تكوين جيل كامل من المسرحيين أثناء إقامته القصيرة هناك في صورة جلية من صور القوى الناعمة المصرية والتي لا ندرى عمق تأثيرها وعظيم جدواها، وعلى مدى جلسات الندوة التي خصصت للحديث عن الدكتور عرنوس تشارك تلاميذه ومحبوه و معاصروه من الفنانين الأردنيين في تقديم شهاداتهم عنه إلى جانب ضيوف المهرجان الذين قدموا أوراقاً عن الفنان الراحل تراوحت بين الذكريات الشخصية والدراسات العملية بدأت منذ ميلاده بالأسكندرية عام 1934، ثم انتقاله إلى بورسعيد التى عاش بها فترة طويلة حتى أنه اكتسب منها لكنة لم تفارقه طوال حياته، و أثر بأحداثها التاريخية كالعدوان الثلاثى وحتى تخرجه و عمله مدرسا بالمرحلة الابتدائية، ثم تركه للوظيفة والتحاقه بالمعهد العالى للفنون المسرحية الذى عمل به معيدا بعد تخرجه عام 1965.
عرنوس موهبة متوهجة
وضمت أوراق الندوة كيف كان عبد الرحمن عرنوس دائم الحركة في المسرح، شديد النشاط بسبب موهبته المتوهجة، فلقد أنشأ فرقة شباب البحر الجامعية التي طافت بعروضها معظم المدن المصرية واستحدث مسرح الصيادين على شواطئ بحيرة المنزلة بمدينة المطرية بمحافظة الدقهلية، و قدم عروضا في حديقة دار الأدباء بالقاهرة، وقدم أيضا مسرح الفنان وسط جمهور (مقهى أسترا) بميدان التحرير، غير عشرات التجارب الأخرى مثل (مسرح العربة و مسرح المناقشة)، إذن لا عجب أن يقيم تلاميذه و محبوه مهرجانهم في الأردن بعيدا عن الصالات المغلقة وأن يتبعوا خطاه في التحرر من القيود والذهاب إلى الجمهور.
الغريب في سيرة عبد الرحمن عرنوس – الذى لا يعرفه الكثيرون في مصر أنه لم يكن فنانا في المسرح فقط بل هو أيضا مؤلف أغانى تلقائي كتب ما يقرب من 200 أغنية ، لعل أشهرها أنشودة الوداع لجمال عبد الناصر التي رددتها الملايين في جنازته (الوداع يا جمال يا حبيب الملايين.. ثورتك ثورة كفاح عيشتها طول السنين)، لكن الناس تذكر الأغنية ولا تتذكر صاحبها!
وعندما سافر الدكتور عرنوس الى الأردن في عام 1983 ليدرّس بجامعة اليرموك لم يكتف بمحاضراته و دروسه بل أنشأ مختبر اليرموك المسرحي وفتح أبوابه لكل هواة فن المسرح من مختلف كليات الجامعة، وهناك بلور منهجا لتدريب الممثل كان قد بدأه اثناء وجوده بالقاهرة، ليطير سيطه وسط طلاب الجامعة حتى صار وجوده و نشاطه مزعجا لإدارتها – كما كشف أحد معاصريه في الندوة – بل لم يقتصر تواصله مع الطلاب داخل قاعات الدرس فقط ، بل فتح بيته أيضا لهم – كما كان يفعل بالقاهرة – ثم يعود الى القاهرة عام 1987 بعد أن ألقى بذورا مازالت ثمارها تطرح حتى الآن، و لذا كرمته الأردن عام 1990 بمنحه ميدالية الملك الحسين بن طلال.
عرنوس والمسرحيون الأردنيون
إن احتفاء و احتفال المسرحيون الأردنيون بالدكتور عرنوس تعبيرا عن عظيم حبهم له و تقديرهم لصنيعه في المسرح الأردني يدفعنا للتساؤل عن سبب عدم ذكرنا لهذا الرجل وعدم تقديرنا لأعماله و مجهوداته ، وأعتقد أننا نحتاج الى إجابة تحلل عدم تقديرنا للكثيرين الذين يلمعون فور تواجدهم بالخارج!، ولكن في حالة الدكتور عرنوس نجده هو نفسه أحد الأسباب، فلقد كان هذا الفنان يؤخذ على محمل الاستخفاف – برغم إخلاصه لفنه و برغم تعدد مواهبه – بسبب استخدامه الدائم لمصطلحات خاصة به تكاد أن تكون لغة “عرنوسية ” تحمل السخرية الدائمة من أى شيئ ومن كل شيئ، ولا يمكن أن تفرق بين جدها وهزلها أو بين صدقها وادعائها، يضاف إلى ذلك صراحته الشديدة التي سببت له صدامات ومعارك خلقت له كثير من العداوات التي حاولت النيل منه و من طرقه في التدريس و التدريب.
وفي مواجهة كل الاحباطات كانت نفسه الأبية ترفض الخضوع، و تسمى الأشياء بمسمياتها وإن كان قد تطرف أحيانا حتى أنه – فيما نعلم – المصرى الوحيد الذى جرؤ على تسمية منهجه بالتدريب في المسرح باسمه، فكل الذين قادوا مختبرات أو ورش تدريبية منذ (عزيز عيد) أول مخرج بالمفهوم العلمى في مصر والذى يعتبر أيضا أول مدرب للتمثيل، مرورا بالدكتور (نبيل منيب)، أول من أقام ورشة تدريبية طويلة لفن الممثل، وحتى يومنا هذا لم يجرؤ أحد على مافعله الدكتور عرنوس، وأعتقد أن هذا كان أحد أسباب العداء له و محاولة النيل منه حيا وميتا.
وإذا كان الدكتور عرنوس قد دون منهجه في التدريب في كتابه (المختبرات المسرحية ونظائرها في تدريب الممثل) الصادر عن إدارة المسرح بالهيئة العامة لقصور الثقافة إلا أننى أظن أن ما دونه غير كاف ولا يغطى منهجه كله أو طرائقه في تدريب الممثل، وأعتقد أن الاحتفال الأمثل بهذا الرجل أن يقوم تلاميذه بإعادة صياغة منهجه بشكل أكثر إحكاما وشمولا، من حيث الروافد التي ساهمت في تكوين هذا المنهج سواء العالمية أو العربية، فلقد ذكر بعضها أثنى على بعض التجارب العربية و المصرية في كتابه، فماذا أخذ منها وماذا أعطى لها؟ كما أن تلك الصياغة تحتاج لضبط المصطلحات، وإعادة ترتيب التدريبات وبيان ما يعالجه كل تدريب.
فليس عيبا في أي فنان ألا يكون قادرا على صياغة منهجه بنفسه بشكل واضح في المسرح، فتلك ملكة أخرى لا تنقصه حق قدره في التدريب، وليس كل صاحب منهج هو شاعر وكاتب مثل المسرحى الألماني الشهير (برتولد بريخت)، قادر على صياغة منهجه بوضوح و سلاسة، و لنا أسوة في تلاميذ (ميشيل تشيكوف) ذلك الممثل الروسى العبقرى الذى هاجر الى أمريكا و أصدر كتابه (إلى الممثل)، لكن تلاميذه توسعوا في شرح منهجه بعد وفاته وأصدروا عنه عدة كتب تفسر المنهج و تطوره، لذا نتمنى أن تضيف الدراسات الجادة لمنهج الدكتور عرنوس أو أن تسجل لنا منابعه وتطوراته
فهل نجد من يتصدى لتلك المهمة؟