بودشار.. موسيقار مغربي يستعيد عبد الحليم حافظ مع الغناء الجميل
كتب: محمد حبوشة
أثبتت أغنية عبد الحليم حافظ (جانا الهوى) مكانتها في استعادة ما يسمى بالزمن الجميل، مكانتها الذوقية والفنية على مر العقود التي مضت، بدلالة أن هذا الجيل الحديث يتغى بها ويحفظ كلماتها عن ظهر قلب، وما تزال ثقافة أغنية (الزمن الجميل) تنافس الأعمال الحديثة، بدليل أن الأغنية التي قاد فيها الموسيقار المغربي (علي أمين بودشار) الجمهور لمدة 8 دقائق أثبتت أن الجمهور مازال يتذوق الأغنية الرومانسية الكلاسيكية في حالة من النشوة والشجن، كما ظهر من ردود فعل غير متوقعة شغلت مواقع التواصل الاجتماعي على مدار الأيام القلية الماضية، محدثة نوع من الجدل حول تذوق أغاني الزمن الجميل.
أغاني عبد الحليم حافظ مايزال صداها راسخة في دائرة حياتنا ومع مرور الوقت، ومع الالتقاء ببعض الأصدقاء القدامى وتذكر بعض المواقف والذكريات الماضية، ومع متابعة بعض أحاديث الأمس الجميل من خلال بعض البرامج، أو مع أغنية قديمة من أغاني الماضي يعيد سماعها لآذاننا في لحظة ذكريات الأمس الجميلة، نجد أنفسنا ونحن نردد كثيرا عنها أيضا بأنها أيام الزمن الجميل.. وما أروع أيام الزمن الجميل التي ذهبت ولن تعود.
إقرأ أيضا : د. ثروت الخرباوي يكتب : عبد الحليم حافظ حرامٌ أم حلال ؟
كنت منشغلا بالكتابة لموقعي (شهريار النجوم)، وأقلب في بعض الأوراق، حين توقفت لوهلة أمام مقطع فيديو لا يتعدى 8 دقائق، ظهرت خلاله فرقة موسيقية تعزف أغنية (جانا الهوى) للفنان عبدالحليم حافظ، وموسيقى بليغ حمدي وكلمات محمد حمزة، فيما يدندن ويتراقص الجمهور الذي يتعدى الآلاف على الموسيقى التي تم انتاجها قبل ما يزيد عن خمس عقود أو أكثر، ساعات قليلة وتحول مقطع الفيديو إلى أيقونة خاصة وشهد احتفاء من نوع خاص، إذ نجح المايسترو المغربي الشاب أمين بودشار، قائد فرقة Boudchart الموسيقية في إبهار الجمهور العربي والمغربي، بقدرته على إحياء الموسيقى الشرقية من جديد، وأن يجعلنا جميعا نلتف من جديد حول موسيقى عربية خالصة.
عبد الحليم حافظ يحدث دويا
وكانت كشفت أميرة سيد مكاوي، ابنة الموسيقار الراحل سيد مكاوي قائلة: فكرة مختلفة يعتمد عليها الموسيقار المغربي (أمين بودشار) في الحفلات التي يحييها، حيث كتبت في منشور لها عبر حسابها الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) وقالت فيه: (المايسترو المغربي الجميل أمين بودشار، بيقدم فكرة وهي أن الجمهور، بيتوزع عليهم كلمات الأغاني، ويغنوا مع الفرقة، هي دي الفكرة إللي تستدعي الاحتفاء الحقيقي).
وتابعت في منشورها عن أغنية (جانا الهوى) للراحل الجميل عبد الحليم حافظ: (وعنده على قناة اليوتيوب فيديوز كتير بيغني الجمهور فيها أغاني مصري ولبناني ومغربي، يعني هتلاقيهم بيغنوا تلات دقات ويا مسهرني وألف ليلة، ومشاعر وأغاني لفيروز وأغاني تراثية مغربية إلخ إلخ)، واستكملت مكاوي: (وكلها فيديوز رائعة لأن الفكرة هى المبهجة والجميلة، ومع كامل احترامي لإعجاب الناس بالفيديو بتاع (جانا الهوى).. بس الأفورة أنه دليل على أي حاجة مش أكتر من إحساس بالرغبة في إثبات شيء هو بالفعل ثابت)، واختتمت أميرة مكاوي منشورها: (الفن الصادق والجميل والأصيل هيعيش فوق عمره أعمار مهما كانت لهجته، فعادي يعني المصريين يغنوا لفيروز والمغاربة يغنوا لأم كلثوم، وأي شعب يغني لأي فن، ما دام الفن صادق وجميل وحقيقي).
الحقيقة أن فيديو (جانا الهوى) للمطرب الكبير عبد الحليم حافظ يستدعي سؤالا جوهريا في هذه اللحظة الفاصلة في تاريخ الغناء العربي: هل أننا عندما نردد ونتمنى عودة ذلك الزمن الجميل لأننا نريد أن نعيشه بحذافيره، أم أننا نعني بذلك أشياء أخرى؟
لا شك أننا عندما ننعته بزمن عبد الحليم حافظ الجميل، فنحن في الواقع لا نعني العودة للعيش في نفس بيوتنا القديمة، أو استخدامنا لبعض أدواتنا القديمة آنذاك، فلا شك أن الوقت وازدهار الحياة جعلنا نعيش الأفضل والأنسب لحياتنا اليوم، وإن كانت نظرتنا لتلك البيوت وتلك الحياة نظرة فخر واعتزاز كجزء لا يتجزأ من ماضينا، لكننا لو خيرنا بأن نعيش في نفس ظروف بيوتنا القديمة والعودة لحياة فيها كثير من المشقة، لما اخترنا ذلك، لكنه في الواقع هو الحنين إلى روح الإنسان في تلك الأيام، وبساطة نفسه، ورقي ذوقه.
عبد الحليم حافظ والزمن الجميل
إن ما فقدناه هي أشياء جميلة كثيرة ومنها عبد الحليم حافظ، ارتبطت بذلك الزمن، فكثيرا ما تستعرض ذاكرتي بعض المواقف لبساطة ذلك الوقت حين كان الجيران يجودون بالقليل من القليل الذي لديهم كي يشاركوا بعضهم البعض، ولا أنسى جارتنا العجوز التي كانت تقول: (إن الحب في الجود بالقليل من كل شيء لدينا، نشارك به من نحبهم)، وليس الكثير دليل الحب أبدا، كان جمال المشاعر في تلك الأيام يختلف تماما عن اليوم، فهناك اليوم من يجود بالكثير الكثير الخالي من مشاعر الحب والمليء بالرياء والاهتمام بالمظهر.
وكانت رسائل الزمن الجميل مع عبد الحليم حافظ، مختلفة تماما عن رسائل اليوم فقد كنت وأنا صغير أكتب لجارتنا العربية رسائل كثيرة لترسلها لأهلها، ما زلت أذكر الكثير من كلمات الحب والشوق المعبرة فيها، والمختلطة بدموع حارة صادقة وهى تملي علي ما تود كتابته، فقد كانت كلمات الشوق والحب عميقة وغالية ونابعة من القلب، وأصبحت اليوم كثيرة ورخيصة ومشاعة للجميع وبعيدة كثيرا عن صدق المشاعر.
إقرأ أيضا : سر غضب وحزن أحمد زكي من أسرة عبدالحليم حافظ!
وأما نفوس زمن عبد الحليم حافظ الجميل، فقد كانت مختلفة تماما في نقائها وعفويتها وصدقها، وقد كان اجتماع الأصدقاء والجيران آنذاك علاجا لأي نفس متعبة حين لا يترددون في إلقاء همومهم وأحزانهم، ومواساتهم بعضهم لبعض، مجردين من الكثير من أساليب المجاملات، أما اليوم فما أكثر النفوس البلاستيكية التي لا تفقه من أمر المشاركة وصدق المشاعر شيئا، حتى أذواق الناس وإحساسهم بالكلمة كان جميلا، ومختلفا، في وقت كان الناس يتذوقون فيه الفن أكثر مما ينظرون إلى الشكل والمظهر، حين اشتهرت الكفيفة لأنهم نظروا إلى فنها وعطائها وموهبتها، بينما اليوم فقد اختلفت كثيرا مقاييس الفن والموهبة والعطاء!
عبد الحليم حافظ .. صوت الصباح
أثبت فيديو (جانا الهوى) بصوت عبد الحليم حافظ أنه مازال يطل برأسه من تحت التراب.. صوت الصباح مع نسيم الفجرية يهفهف حواليه، ولغة النجاح (وحياة قلبي وأفراحه) زمن الماضي الجميل، ولغة العشق لبنت الجيران بمريولها الأخضر وقبتها المنشية (أول مرة تحب يا قلبي).. فعلا أول حب وأول حقيقة وشجن ودموع وسهر (على ضي القناديل، والحلوة الحلوة برموشها السودا الحلوة وشعرها الحرير ع الخدود يهفهف).. الله نغمات من جيتار وعود وهمس زهور.. يغني تتفتح الأقاحي ويرقص نهر النيل ويسافر النغم على جناح كمان وليل حزين وابتسامة داخلها ألم، يغني يصفق يبكي يضحك يلعب ويسأل: (أى دمعة حزن لا لا، توبة، زى الهوا)
صوت عبد الحليم يأخذنا لحلم ومجرة وأقمار القمر خدنا القمر لجزيرة أبعد من الخيال وينزلنا إلى بحر الحزن الصادق فأغوص (رسالة من تحت الماء/ إن كنت أعز عليك فخذ بيدي!)، نعم زمن الغناء الجميل وفتاة جميلة كاملة الأوصاف بلا رتوش ولا مكياج وبلا حقن بوتكس.. زمن (قولولي من زيك والله ما لك زي، وجانا الهوى) مصر المحروسة بفنها وثقافتها، وقواها الناعمة التي تتمثل في (بهية أم طرحة وجلابية) وموال بلدي على ترعة مصرية في ريف مصر الغض الندي في ومن الشجن والروقان.
عبدالحليم علمنا كيف يكون الحب؟، وكيف يموت الشعر وتنتحر الأشواق.. ذلك الشاب النحيل (بليغ حمدي) لم يكن عاقلا بالكامل، كان يصنع اللحن من الكلمات من نزار والأبنودي ومحمد حمزة ومحمد الموجى، يزهو على حافة جدول (فى الصعيد) ليغمس الناى فى فمه فيرقص النخل والنحل، كلما صعد عبدالحليم الى المسرح صعدت الفراشات (أهواك) وصعد معه حب الوطن (خلي السلاح صاحي، يا أهلا بالمعارك، فدائي، أحلف بسماها وترابها، كان عبد الحليم يغنى لجمهوره وللوطن والحب وهو يتمزق من الألم الذى استوطن كبده.. آهة مجروحة غرست فينا أحزان الأرض ورحلت (وانا كلما اقول التوبة يابوي/ ترميني المقادير يا عين، و(أتاريني ماسك الهوا بايدي!، والتي ما زلنا نردد أغانية هو وباقي فناني الزمن الجميل .
بودشار.. فكرة غير مسبوقة
وتبقى فكرة غير مسبوقة تلك التي جادت بها قريحة الفنان المغربي (أمين بودشار)، المايسترو الموسيقي، الذي ترك كل شيء ليهب حياته لهوايته المفضلة (الموسيقى)، وسطع نجمه على خشبات المسارح ودور العرض في المغرب وفرنسا، بفضل تقديمه مع فرقته عرضا غريبا من نوعه، حيث لا يحتاج إلى مطرب لأداء معزوفاته، لأن الجمهور هو من يتطوع بذلك، حيث ترتفع أصوات الجماهير داخل صالات العرض تحت تلويحات المايسترو، لتمتزج بنغمات الآلات، فهم لم يأتوا فقط لكي يرخوا آذانهم لنوتات الموسيقى، بل لكي يسهموا في إبداع لوحات غنائية متنوعة، مطلقين العنان لمواهبهم.
مقولة كونفوشيوس: (اختر وظيفة تحبها ولن تضطر إلى العمل يوما واحدا طيلة حياتك) تنطبق على (بودشار)، الذي قطع مساره المهني مهندسا للإحصائيات، للتفرغ لإدارة مشروعه الفني الذي يحمل عنوان La chorale ..c’est vous .. بمعنى (الكورال هو أنتم)، وعن خروجه عن سكة الأرقام لدخول عالم الأنغام، كشف المايسترو: أنه هاجر من مدينة المحمدية غربي المغرب إلى باريس لمتابعة دراسته في الأقسام التحضيرية، بعد حصوله على بكالوريا في العلوم الرياضية.
وفور تخرجه، دخل الشاب الطموح الحياة العملية سنة 2014 من خلال مجال المال والأعمال، لكن ثنايا القدر كانت تحمل له مآرب أخرى، بحكم شغفه بالموسيقى وعزفه على آلة الأورغ بين الفينة والأخرى، وقال خلال مداخلة ببرنامج (من مصر)، الذى يقدمه الإعلامى عمرو خليل، على قناة cbc: شكرا للشعب المصري عن الإشادات ولم نتوقع التجاوب الكبير والرسائل والتفاعل الكبير من الشعب المصري”.
وواصل قائلا: (تقدمت بالمعزوفة الموسيقية والفقرة لاقت تجاوب كبير من الجمهور، ونعتز بالأغاني المصرية وأغاني الزمن الجميل، وكانت لحظات رائعة)، وتابع: (أغاني الزمن الجميل وعبد الحليم حافظ، أغان خالدة سمعناها مع الآباء والجيل الجديد سمعها وحفظها، وموجودة في حفلاتنا وأعرافنا، ولم يكن الحفل والتفاعل مفاجيء لنا، وأحلم بالعزف في دار الأوبرا في مصر).. تحية تقدير واحترام للموسيقار المغربي (علي أمين بودشار)، الذي يعد بمزيد من المفاجآت، من بينها دعوة فنانين كبار لإمتاع الجمهور بأحدث الأغاني، ونتمنى تحقيق رغبته في العزف على مسرح دار الأوبرا المصرية، ومن ثم أوجه نداءا للموسيقار الكبير خالد داغر، رئيس دار الأوبرا المصرية، بضمة لقائمة المدعوين للمشاركة في مهرجان الموسيقي القادم تحقيقا لما يسمى (وحدة عربية موسيقية على أرض القاهرة).