بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
أمضيت نهارى كله وجزءا من الليل أكتب ما أراه خللا في البيت الفني للمسرح في نقاط محددة و مختصرة ، كما طلب منى الأستاذ سامى خشبة في أول مكالمة بيننا بعد تعيينه رئيسا للبيت الفني للمسرح، تناولت فيما كتبت أسلوب الإنتاج ونوعيته، وطريقة الدعاية وضرورتها بحيث يستطيع مسرح الدولة منافسة القطاع الخاص الذى سحب البساط من تحت قدميه أو كاد، وركزت في ملاحظاتى على المسارح التي أعتبرها مسارح مواجهة: (القومى والحديث والكوميدى)، أى المسارح الثلاث الكبرى من حيث عدد المشاهدين، وفي الحقيقة استفدت كثيرا من أسلوب و طريقة تفكير الأستاذ محمود ياسين أثناء إدارته القصيرة للمسرح القومى والتى حقق فيها معادلة تمزج بين المستوى الفني الراقى والإقبال الجماهيرى، وأنتج مسرحيتين بنفس تلك المواصفات هما: (البهلوان) من تأليف الكاتب الكبير يوسف إدريس – بعد انقطاع طويل عن الكتابة للمسرح – ومن إخراج الدكتور عادل هاشم، وبطولة النجم يحيي الفخرانى، والتي استمرت لمدة ستة أشهر كاملة ، ثم تلاها بـ (أهلا يا بكوات) التي قدمت لمدة عامين متصلين ثم أعيد عرضها عام 93 بعد استقالة الأستاذ محمود ياسين.
إقرأ أيضا : عصام السيد يكتب : مبادرة إحياء المسرح المدرسى
في المساء هاتفت الأستاذ سامى خشبة (لم تكن الموبايلات قد ظهرت بعد)، ولكن تليفونه ظل مشغولا حتى منتصف الليل فتحرجت أن أكلمه مرة أخرى، وبعد يومين فوجئت بنفس الصوت العريض مرة أخرى يسألنى: عندك استعداد تتعاون معايا؟، قلت: يا أستاذ سامى حضرتك سألتنى قبل كده وقلت لحضرتك أيوه، قال: لكن انت ماكلمتنيش يا ابن الحلال، قلت له: والله كلمتك لكن تليفونك ظل مشغولا طول الليل، قال: معلش ابقى كلمنى متأخر.
تحدثت مع الأستاذ سامي خشبة بعد منتصف الليل بقليل وعرضت عليه ما كتبته من ملاحظات، وبعد أن استمع لكل ما قلت قال: أنا عاوزك تقولى من وجهة نظرك كل مسرح يقدم ايه؟، قلت له: حضرتك عاوز ترجع تانى لموضوع هويات المسارح؟، قال: نعم: كل المسارح تتشابه حاليا فيما تقدمه ولازم نعمل فصل ما بينهم عشان كل جمهور يبقى عارف النوعية اللى بيحبها فين ويروح لها على طول ويرتبط بالمكان اللى بيقدمها، ثم مضينا في حوار طويل استمع لى فيه أكثر مما تكلم، ولم أكتشف السبب إلا بعدها بعدة أيام عندما إتصل بى قائلا: فيه قرار وزارى هيطلع دلوقت بمديرين مسارح جدد وانت هتمسك المسرح الكوميدى، قابلنى بالليل في مسرح محمد فريد عشان تستلم وظيفتك.
تكتم سامى خشبة
لم أكن أتوقع على الإطلاق هذا المنصب، و لم يصارحنى الأستاذ سامى خشبة أو حتى يلمّح لى بأننى مرشح، كان ذلك أسلوبه الذى عرفته عنه: التكتم الشديد على قراراته، و في البداية أرجعت هذا لعلاقته السابقة بالتنظيمات السرية والتي أعتقل بسببها في عام 1959 وهو ابن عشرين عاما، وأعتقد أنه كان أصغر المعتقلين سنا، ولكنى تأكدت فيما بعد أنه بطبعه صموت، قليل الكلام، يفكر أكثر مما يتكلم، ويسمع لكافة الآراء ولكل الأطراف والاتجاهات دون أن يعرف أحد ماذا في رأسه! ثم يصدر قراره بشكل مفاجئ، ولكن هذا لم يمنع دهشتى من إصراره على الاستعانة بى برغم ملفى المليئ بالصدامات.
إقرأ أيضا : عصام السيد يكتب: الأسطورة .. سميحة أيوب
وخلال رحلة أربع سنوات قضاها الأستاذ سامى خشبة رئيسا للبيت الفني، كان بحق خير مسئول عن هذا المكان، بل إنى أشهد أنه وقف بجوارى يساندنى ويؤازرنى كى أنجح في إدارة هذا المسرح، وكان يدافع عنى أمام المسئولين في كل موقف أو مشكلة يبدو أننى السبب فيها، حتى أحسست أننى سببت له صداعا مزمنا، وبرغم هذا لم يضغط علىَّ كى أغير قناعاتى أو أنحنى للعواصف برغم أنه كانت لديه القدرة والقوة لفعل هذا، الأمثلة كثيرة لا أستطيع ذكرها كلها في مقال.
في بداية اختيار الأستاذ سامي خشبة لى في المنصب تقدمت له بمشروع متكامل عن كيفية عمل المسرح الكوميدى كان عنوانه: ( المسرح الكوميدى.. المعنى والمبنى) لأنى رأيت أرتباطا بين الاثنين، وخلصنا إلى اتفاق من عدة بنود أساسية لعل أهمها:
أولا: ألا يكون المسرح الكوميدى دارا للعرض فقط وإنما مركزا للإشعاع الثقافى، يقيم الندوات والأمسيات ومعارض للفنون ويصدر المطبوعات على أن تنتمى كلها لفنون الكوميديا، فقدمنا – مثلا – في الندوات: ندوة عن (كتاب النكتة السياسية) للكاتب الكبير عادل حمودة وأمسيات شعرية شارك فيها كبار شعراء العامية، وتخصصنا في إقامة معارض لفن الكاريكاتير لأول مرة بمصر، وأصدرنا كتبا عن قدامى فناني الكوميديا ومسرحيات مجهولة لم تنشر من قبل، ولولا الأستاذ سامى خشبة لما تم كل هذا ، فلقد تحرر من البيروقراطية و اتخذ قرارات جريئة على مسئوليته الشخصية .
سامى خشبة والمسرح الكوميدى
ثانيا: أن المسرح الكوميدى لكى ينافس المسارح الأخرى وخاصة القطاع الخاص عليه أن يستعين بكبار النجوم وأن يجازيهم بأجور مناسبة، و لقد حقق لى الأستاذ سامى خشبة هذا المطلب برغم ضيق الميزانيات، بل استطعت إقناعه بأن تتميز مكافآت المشاركين في عروض المسرح عن باقى المسارح بسبب الإيرادات الضخمة التي حققها المسرح.
ثالثا: طالبته بالموافقة على تقديم موضوعات تمتلئ بالنقد الاجتماعى والسياسى، ولخصت طلبى بأن يكون المسرح الكوميدى (روزاليوسف) المسارح، فلقد اشتهرت مجلة (روزاليوسف) فى ذلك الوقت بإثارتها لموضوعات شائكة وباتخاذها جانب المعارضة في أمور كثيرة، وبالفعل قررت تقديم عرض ماتينيه بأسلوب الجريدة الحية ينقد الأوضاع ويكشف العيوب ويتغير باستمرار مع تغير الأحداث، ويصبح مناقضا لما كان يقدمه برنامج (صباح الخير يا مصر) في التليفزيون المصرى، والذى يمتلئ بالإنجازات فقط – ومن هنا جاءت تسمية العرض (مساء الخير يا مصر) – و اتصلت بمجموعة من المؤلفين عارضا عليهم الفكرة ولم يستجب منهم إلا صديقى الدكتور محسن مصيلحى، ولظروف خاصة تحول العرض من عرض ماتينيه إلى العرض الرئيسى للمسرح من اخراج المخرج الكبير ناصر عبد المنعم، وبطولة (الكينج محمد منير، والنجوم محمد عوض، سوسن بدر، والوجوه الجديدة أحمد رزق وأحمد صيام و عادل أنور و آخرين) ليستمر هذا العرض لمدة سنتين.
إقرأ أيضا : عصام السيد يكتب: البكاء على (القوى الناعمة المصرية)
وذلك برغم أن السيد وزير الثقافة غادره بعد الفصل الأول معلنا استياءه من النقد اللاذع، لكن العرض استمر، بل وتجددت مشاهده كلما ظهرت أحداث جديدة، بل إن التجديد قد طال اسمه في بداية كل موسم فأصبح مساء الخير يا مصر تانى ، ثم (مساء الخير يا مصر 3)، وكنت أحيانا أتلقى مكالمة من الأستاذ سامى خشبة يبلغنى فيها بطلب جهة ما بإغلاق العرض بسبب تجاوز الممثلين أو خروجهم على النص لزيادة جرعة النقد، فكنت أطمئنه بمنع التجاوز وبعدها يوافق على استمرار العرض ويوقع ميزانية تجديده شهرا جديدا، واستمر العرض لمدة عامين تقريبا دون أدنى مشكلة بينى و بين الأستاذ سامى خشبة، ولكنى كنت أعلم حجم ما يتعرض له من حرج و ما يواجه من ضغوط.
رحم الله أستاذى وصديقى سامى خشبة، وأثابه بقدر ما أثرى حياتنا الفكرية والمسرحية وبقدر شجاعته وحُسن إدارته.