بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
الكتب هى خيال المثقفين.. أما الدراما فهى خيال الأمة بأكملها.. الخيال هو تدريب مستمر للعقل على تصور ما سيحدث والاستعداد لاحتمالاته المختلفة، وإذا عقم خيال الأمة فقدت التصور حول المستقبل وترددت خطواتها المرتعشة على الطريق لتجلس فجأة منهارة في مكانها على الأسفلت الساخن بينما تمر بجوارها سيارات دول الخيال مسرعة نحو المستقبل.. عاقدة من خلفها سحب الغبار لتتراكم هوانا ومهانة حضارية على الوجوه.
والدراما هى مصنع الأحلام للأمة.. وقد تحققت لمن امتلكوا الخيال أحلامهم، ولم يتسن لنا حتى دور مفسري الأحلام، ففي عام 1901 ظهرت في السينما الصامتة آلة ضخمة لصناعة السجق في فيلم يحمل اسم (ماكينة السجق) بعدها بدأت بالفعل صناعة السجق وانتشرت مصانعها.
خيال السينما يرسم المستقبل
وفي أفلام شارلى شابلن توالى ظهور آلات ضخمة ومتنوعة الأغراض لتصبح هذه الآلات ذاتها بعد ذلك نواة للثورة الصناعية.. كلمة (روبوت) ظهرت لأول مرة في مسرحية للكاتب التشيكى كارل تشابك، والغواصة، وهكذا ظهر الخيال لأول مرة في فيلم (20 ألف فرسخ تحت البحر) قبل ان تظهر في البحار بعشرات السنين، والاتصال بالكائنات الفضائية التي تتواتر فيديوهاتها اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي ظهرت من قبل في عدة أفلام وأشهرها E.T.
إقرأ أيضا : حنان أبو الضياء تكتب: (توم هانكس) الذى أعاد النظام بالخيال (13)
الأطباق الفضائية زارت الأرض في العديد من أفلام الخيال قبل أن تنتشر الآن في سماء العالم في طلعات تجسسية على عالمنا حتى أطلق عليها لكثرتها الآن (دواب السماء)، حتى الصراع بين البشر والروبوت وخروجه عن إرادتنا قد تجلى فيما شاهدناه في فيلم (الغريب) حيث العقل الإلكتروني المركزي المسيطر على سفينة فضاء، والذي كان يلتقط إشارات تحذير من الكون المحيط فيتكتم عليها ولا يبلغ بها الطاقم.
بل وعندما علموا بهذه المخاطر عن غير طريق الروبوت وواجهوها فقد أخفى عنهم الروبوت حلولها التي كان يعرفها.. لنتفاجأ أن ما وراء تصرفات الروبوت هو توقعه بأنه إذا عاد الطاقم بسلام إلى الأرض فسيعود هو أيضا الى ربقة العبودية للبشر.. وسيعود بكل امكانياته العقلية كمجرد تابع لهم.. لذا قرر ان لا يعود بهم الى الأرض وان يستمروا في الفضاء الخارجي حيث تكون كامل السيطرة له عليهم وإلى الأبد.
الخيال في السينما المصرية
أما بالنسبة للـ الخيال في السينما المصرية فقد تناولنا في المقال السابق مرحلة الحبو والسير على الأيدى والأرجل.. وقد امتدت مرحلة الحبو من الأربعينات وحتى الثمانينات لتبدأ مرحلة مشى لخطوات محدودها يتبعها العودة إلى الحبو مرة أخرى مما يوحى بأن هذا الطفل مصاب بعجز حركى ناتج عن بلاهة فكرية.. فقد اقتصرت كل هذه المرحلة على عفاريت (ألف ليلة وليلة)، وعلى ترياق تشربه لتختفى أو طاقية تلبسها لنفس الغرض.
والغريب انه سواء في هذه المرحلة أو ما تلاها من مراحل نجد أن أفلام الخيال والخيال العلمى أغلبها – إن لم تكن كلها – كوميدية الطابع.. لأنه بالكوميديا أسدلت غلالة على الهدف الرئيسى، وأصبح الشغل الشاغل للمتفرج هو الضحك الذى يحققه لك إسماعيل ياسين بعيدا عن اضمحلال الفكرة الأساسية.. وركاكة التنفيذ بحجة انه الخيال الكوميدى.. (الموضوع هزار يا جماعة)
من الأمثلة على أفلام مراحل الحبو المستمرة: فيلم (السبع أفندى) لـ (سعيد أبو بكر/ شادية).. وبطله (سكر عبود الذي يعاني من اضطهاد رئيسه له في العمل والذي يقف أيضا حائلا بينه وبين الارتباط بحبيبته.. ينام سكر ليصحو فيجد نفسه ذو قوة خارقة يستطيع بها اختراق الجدران وحمل الأثقال فيبدأ في الانتقام من كل من أهانوه لنكتشف في نهاية الفيلم (إن لم يكن من بدايته) أن سكر كان نائما يحلم.
إقرأ أيضا : الحضارة الفرعونية والأشورية مصدرا لدراما الخيال العلمي !
استمرت وظيفة الخيال هنا كبقية أفلام المرحلة صماما ينفث منه البخار المجتمعى المضغوط من فقر وظلم طبقى.. كما أن الخيال هنا كان مجرد حلم.. فلم يكلف المؤلف نفسه عفريتا ولا عقارا.. أما المنتج فدائما ما يجد في تيمة الحلم مساحة لتقليل التكلفة و عدم الالتزام بأى مواصفات لمكان أو تقنيات.. فالحلم مباح فيه كل الهلوسات..(حاجه ببلاش كده).
نفس تيمة الخيال السابقة كانت العمود الفقرى لأفلام تالية: فيلم (العالم) لـ (حسن يوسف/ سهير رمزى)، حيث يداهم البطل شعوره بالانكسار بعد فشله من الزواج من حبيبته التي يجبرها أبوها على الزواج من شاب ثرى.. يلجأ البطل إلى أخيه صاحب الخبرات العلمية فيحوله أخيه إلى عقلة إصبع (نلاحظ أن الحل هنا مصدره الخيال من خلال قصة مقررة على الصف السادس الابتدائي وهى قصة (عقلة الأصبع)، حيث أن العقل المنوط به زيادة أفق الأمة لم تتجاوز ثقافته قصة قرأها في السادس الابتدائي!)، والبطل في حجمه الصغير يستطيع التسلل إلى كل مكان فيه حبيبته ويقوم ببعض المقالب ليفرق بينها وبين زوجها، وحينما يعود إلى حجمه الطبيعى يتمكن الزوج من الانتقام منه فلا يجد ملتجئا للهروب إلى أن يتحول هو وحبيبته معا إلى عقلتى إصبع.
الخيال والإطار الكوميدى
نفس الإطار الكوميدى للأسباب المفصلة سابقا.. ونفس وظيفة الصمام.. وتقديم مسكنات خيالية للفقراء والضعفاء والحقن الدورى للعقل الباطن بأن دائما هناك أملا في التغيير عن طريق عفريت أو عقار.. المهم لا داعي للغضب.. الخيال هنا غاز مسيل للأمل ينتشر بين الطبقات الدنيا للمجتمع ليخمد أى دوافع لديهم للثورة على الواقع.
وإذا كان هناك مشكلة في تكاليف الزواج وما يؤدى إليه ذلك من كبت فالحل هنا أيضا في الخيال المصرى لتخرج علينا أفيشات لفيلم (آدم و النساء) لـ (حسن يوسف/ نبيلة عبيد/ نجوى فؤاد)، والفيلم رغم أنه مقتبس عن قصة للكاتب الأمريكى بات فرانك إلا أنه بالفهلوة والسعي وراء السبوبة تم إفراغ الفيلم من محتواه العلمى تماما والتركيز على هدف الإثارة.. حيث أن قنبلة ذرية انفجرت ليفقد على إثرها رجال العالم خصوبتهم عدا حارس منجم رصاص كسول كان نائما داخل المنجم في ذلك الوقت، وقد حملت منه زوجته فأثار انتباه العالم إليه، وقد أصبح هو مصدر الخصوبة الوحيد في العالم.. تتحفظ عليه الدولة وتتخاطفه الدول (لنا أن نتخيل سعادة المنتج بهذا الشلال من الإثارة وكم أرباحه من جيوب المراهقين الذين اكتظت بهم دور السينما).
إقرأ أيضا : عبد العزيز السكري .. صانع الخيال الراقي في الدراما التليفزيونية المصرية
و من هلوسات ما هو مفترض انه خيال علمى في هذا الوقت فيلم (رحلة إلى القمر) لإسماعيل ياسين!.. نلاحظ في الفيلم أن المخرج هو نفسه المؤلف (حمادة عبد الوهاب) لأن الخيال العلمى في الفكر السينمائى المصرى هو درجة من درجات الهلوسة.. وقرص مخدر يكفي بالغرض.. كما أن الطابع كوميدي كالعادة (تم تفسير الأسباب من قبل).
عام 1961 نشاهد فيلما بعنوان (هاء 3) ومخرجه هو مؤلفه لنفس التفسير السابق.. وهو عن عقار يعيد المعلم عباس (عمره 80 عاما) إلى شبابه فيرتكب الكثير من الكوارث حتى أنه يوشك على الزواج من خطيبة ابنه فيقرر العودة إلى عمره الحقيقى
مفاتيح الخيال والسينما المصرية
نلاحظ في أفلام الخيال أن المخرج غالبا هو نفسه المؤلف.. بينما في الأفلام الاجتماعية والعاطفية يدخل كبار الكتاب من نجيب محفوظ أو إحسان عبد القدوس وغيرهم، هذا و إن دل فإنما على تصنيف هذا النوع من أفلام الخيال في السينما المصرية.. إنها اقرب إلى الهلوسات وأنها في الدرجة الأدنى من التصنيف الدرامى، وإلى الآن لا يوجد في مصر كاتب سيناريو أو مخرج واحد متخصص في سينما الخيال العلمى، بينما على الطرف الآخر وفي دول الخيال نجد كتيبة من المتخصصين أمثال ستانلى كيوبريك (فيلم البرتقالة الآلية – أوديسا الفضاء) أو ستيفن سبيلبرج (الفك المفترس، أي تى، حديقة الديناصورات ، الذكاء الاصطناعى ، و فيلم الأطباق الطائرة، لقاءات مع النوع الثالث، حرب العوالم) أو المخرج جيمس كاميرون (تيتانيك، أفاتار.. إلخ)
إقرأ أيضا : جزيرة غمام .. واقع بين الرمز والخيال
والمخرج ستيفن سبيلبرج قبل عمله بفيلم (لقاءات مع النوع الثالث) لم يكتف بالمؤلف المتخصص وإما استعان بالدكتور (هاتبك) أكبر خبراء الفضاء في العالم ليكشف له عن آخر ما توصلوا إليه عن مواصفات هذه الأطباق والمخلوقات ذوى البشرة الزرقاء اللذين يقودونها.. وهم من نصادفهم الآن في الواقع وبنفس المواصفات التي قدمتها السينما العلمية العالمية.
بينما على الطرف الآخر وعندما أخرج لدينا مخرج كبير مثل كمال الشيخ فيلم (قاهر الزمن) لرائد كتابة الخيال العلمى المصرى (نهاد شريف) مستعينا بعدد كبير من النجوم (نور الشريف، جميل راتب، حسين الشربينى، آثار الحكيم، خالد زكى)، حيث نتابع (دكتور حليم) وهو يجمد أجساد المرضى الميؤوس من شفائهم إلى حين اكتشاف أدوية يمكنها معالجتهم بعد عشرات السنين حيث يتم تفكيكهم عند ذلك وإعادة تشغيل أعضائهم الحيوية، ولكن تبدأ الصراعات.. فمساعد الدكتور يعتبر ذلك نوعا من التدخل في مشيئة الله وأنه يصل به إلى الكفر، وفي نهاية الفيلم يقتل المساعد الدكتور ويحطم المعمل.. لنجد بعد ذلك انتشار مركز تجميد الأجساد في كل مستشفيات العالم المتقدم.
ورغم النيات الحسنة لتقديم فيلم الخيال العلمى إلا أن كمال الشيخ لم يستعن بأى من العلماء والمتخصصين، فقد رأينا (الدكتور حليم) – والمفترض فيه أنه عالم يقوم بأبحاث متقدمه – إلا أنه في معمله يستخدم مجهر ضوئى من النوعية المستخدمة في معامل مدارسنا الثانوى القديمة، وأيضا يستعين بكمبيوتر بدائي وبصناديق هيكيلية خالية.
الخيال في الدراما المصرية
ومشروع الخيال والخيال العلمى في الدراما المصرية لابد أن يكون مشروعا قوميا.. لا أن يترك للاجتهادات الشخصية.. بل تفتتح فيه الأكاديميات المتخصصة في الخيال الدرامى والعلمى، ويكون من شروط المتقدمين اليها حصولهم على دراسات علمية مختلفة.. ووجود أقسام متخصصة لتعليم الإخراج بالتخصص لهذا النوع من الأفلام.. وأن يكون لمتخصصوا الجرافيك والذكاء الاصطناعى أدوارهم المطوعة لخدمة مثل هذا النوع من الأفلام، بالإضافة إلى تخصيص مكافآت ضخمة لطلاب وأساتذة الكليات العلمية لأفضل معالجات لأفلام خيال علمى.
في دول الخيال، يمتد الاهتمام بالخيال العلمى من التلميذ في المدرسة الابتدائية وحتى رئيس الدولة، في عام 1962 أقام جون كنيدى حفلا على شرف الفتاة الخارقة (بطلة مسلسلات الفتاة الخارقة والتي انقذت الرجل الوطواط من سجنه ودمرت شهابا كان في طريقه للاصطدام بالأرض – وحولت اتجاه عاصفة محملة بالأمطار السامة – وأذابت جزءا من القطب الجنوبى ليتحول إلى منطقة خصبة).. و قد رحب بها (جون كنيدى) في الحفل مخاطبا الخيال عندها بقوله (سوبر جيرل .. أنا واثق من أنك سوف تستغلين كل قواك الخارقة لمكافحة الجريمة على الأرض وحفظ السلام فيها).
وللموضوع بقية..