كمال الطويل : تساقطت القنابل على القاهرة فولدت (والله زمان يا سلاحي)
كتب : أحمد السماحي
نحيي اليوم الذكرى العشرين لرحيل الموسيقار المجدد كمال الطويل، الذي أمتعنا بالعديد من الروائع الخالدة المحفورة بالوشم في وجدان المستمعين، والإستماع إلى أي من هذه الأعمال تمنح المستمع زادا روحيا يساعده على التأمل واستصفاء صدره، وفرز مشاعره، ومستمع كمال الطويل يدمن ألحانه، ويستمع إليها بشغف، لأنها ألحان متطورة ومجددة، فألحانه ليست نوعا من المخدرات التى قد تنعش متعاطيها للحظات ثم يزول أثرها مخلقة احتياجا ملحا إليها، وإنما يدمنها المستمعين لأنها ألحان أصيلة تنطلق من هموم الذات لتتحول إلى موضوع يلتقي عليه الكثيرون.
ألحان كمال الطويل نوع من مناجاة النفس، نوع من البوح، والمكاشفة، فهمها كان المستمع محدود الثقافة لابد يجد ما يمتعه ويحرك خياله ويستنفر قدراته، ويستفز مداركه، وكلما استمعت إلى ألحان كمال الطويل بعمق أكثر أدركت ما فيها من بساطة مليئة بالعمق، وأحيانا تكون ثورة متأججة، ثورة على الأنماط والنمطية وعلى الأفكار البالية، خاصة الوطنية منها، ومن خلال هذه الألحان تدرك إيمانه القوي بالعدالة الإجتماعية والحرية.
كمال الطويل وأم كلثوم
أول أمس توقفنا معكم عند حدوتة أغنية (والله زمان يا سلاحي) وكيف طلبت سيدة الغناء العربي أم كلثوم أن تراه، بعد أن استمعت إلى ألحانه بأصوات (سعاد مكاوي، محمد قنديل، فايدة كامل، عبدالحليم حافظ، نجاة)، وظروف كتابة وتلحين أغنية (والله زمان يا سلاحي)، واليوم نترك موسيقارنا الكبير كمال الطويل يستكمل باقي قصة الأغنية الوطنية كما قصها للزميل الراحل محمد الدسوقي في مجلة (فن)، حيث يقول: وفى (أندريا رايدر) بوعده وجاءني وذهبنا إلى فيلا أم كلثوم، وجدناها جاهزة مثلنا، وحولها مجموعتها الموسيقية الشهيرة، وعلى الفور بدأنا عملية حفظ اللحن، وفجأة! حدثت غارة على القاهرة، ومن غير صفارات الإنذار، انطلقت القنابل من المدافع صوب الطائرات المغيرة، وأطفئت كل الأنوار وساد الظلام.
ويضيف موسيقارنا المبدع كمال الطويل : أذكر أن (البلكونة) الخاصة بالحجرة الكبيرة حيث كنا نجري البروفات كانت مفتوحة، ففوجئت بالست أم كلثوم تقفز من مكانها وتجري إلى الشرفة، وكلها تحد وإصرار وعزيمة جبارة، لم تخرج للتفرج على المشهد المأسوي، لكن خرجت لتتحدى، فقمت من مكاني وجريت وراءها وأنا أرجوها بقولي: (ادخلي يا ست وأعملي معروف، شظية قنبلة تطير هنا أو هناك تصيبك لا قدر الله)، وبدلا من أن تلبي رجائي وتدخل، فوجئت بها تصيح وهى تلوح بقبضتها: (ياما نفسي أمسك طيارة من هذه الطائرات اللعينة وأحطمها بيدي هاتين)، وأشارت بقبضة يدها إلى الطائرات المغيرة، وهى تحلق في سماء القاهرة بعدما أفرغت حمولتها بالكامل على مناطق متفرقة من القاهرة، وقنابل المدفعية المضادة للطائرات تطاردها.
أم كلثوم شديدة الوطنية
يقول كمال الطويل: كانت أم كلثوم شديدة الوطنية، زعيمة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وعلى ضوء شمعة خافت انتهيت من التحفيظ والبروفة، وأذكر أنه كان مفروضا تسجيل الأغنية بالإذاعة، لكن اتصل بنا مسؤول كبير في الإذاعة وقال: (إن الضربة القادمة ستكون مقر الإذاعة المصرية وستديوهات التسجيل التى تغني فيها الأناشيد الوطنية كما نمى إلينا)، لكن كلام المسؤول زاد أم كلثوم تحديا وإصرارا، وقالت: (سوف أسجل بالإذاعة، ولو تم ضربها فهذا شرف كبير لي ولأعضاء فرقتي الموسيقية) وكان منظرها وهى تقول هذه الكلمات قمة الوطنية والرفعة الإنسانية، ووافقنا جميعا على ما قالته.
ويستكمل كمال الطويل باقي ذكرياته عن (والله زمان يا سلاحي) فيقول: ذهبنا إلى الإذاعة، وفي زمن قياسي جدا، تم تسجيل الأغنية، وأدت الست الأغنية على أحسن ما يكون الأداء وأجمله وأروعه، خصوصا الكوبليه الأخير من الأغنية، والذي قال فيها المرحوم صلاح جاهين:
الشعب بيزحف زي النور
الشعب جبال، الشعب بحور
بركان غضان، بركان بيفور
زلزال بيشلهم من قبور
ويضيف كمال الطويل: أعترف الآن أنني قلت هذه الكلمات بموسيقى صعبة ومرهقة لأي مطرب أو مطربة، حتى أم كلثوم بكل قدرتها سألتني رأيي بعدما انتهت من تأدية الأغنية، فقلت لها بحماسة ضخمة لا حدود لها: (عظيمة وعظيمة يا ست، كنت رائعة، خصوصا الكوبليه الأخير)، فردت بصوت هامس وخافت هذه المرة: (كنت حاموت يا كمال، دي متعبة أوي أوي)، فقلت لها وأنا صادق جدا: (يا سلام يا ست لكنك أديتيها كويس أوي، بشموخ، بعظمة)، فنظرت إلى بطيبة وقالت: (أجهدتني يا كمال)، قالتها بإحساس لا مثيل له على الإطلاق، احساس قوي.
في الحلقة القادمة نتعرف كيف أصبحت (والله زمان يا سلاحي) النشيد القومي المصري.