بقلم: كرمة سامي
من الذي لا يحب فيروز؟!
…
مَن مِنا لم يقطف من عناقيد كرْم فيروز؟ وتعلم الشعر من صوتها لبنانيًا رحبانيًا وفلسطينيًا ومصريًا وعربيًا؟
مَن مِنا لم ترفعه موجة شجن فيروزية ثم هوت به على شواطئها لاجئًا إليها؟
…
آخر أيام عيد الأضحى، تنبعث أغنيات فيروز من جهاز كومبيوتر بعيد بلا توقف، استمرت ساعات ولا تفنى العناقيد الفيروزية، استسلم للغزو الفيروزي فتحملني كل أغنية إلى عالمها الصغير فصحى كانت أو لهجة لبنانية أو عامية مصرية. كل هذا الجمال، وهذا الحنين يأتي من صوت الست فيروز!
إقرأ أيضا : في ذكرى ميلاد فيروز : نتعرف على أغنيتها المصرية التى غنتها قبلها 4 مطربات
فيروز والرحبانية ‘حكاية غزلتها شمس المحبة’ بدأت القصة في صيف أو شتاء مضى، حدثت منذ سنوات وأنا صغيرة، كنا نسمع أغانيها في الراديو، لكن حضورها نادر، فهي لم تأخذ شهادة نجومية من هوليود الشرق مثل صباح ونورالهدى، ولم تمثل مع عبدالوهاب أو فريد الأطرش أو محمد فوزي أو عبدالحليم. ورغم ذلك ظل اسمها يتردد )مثل التفاح قبل الانفتاح السداح مداح الذي لا نراه إلا عند عودة الحجاج والمعتمرين(. أغانيها عزيزة يرددها والدي أو والدتي في المناسبات السعيدة واللحظات الأسرية الهادئة. فالأغنية الفيروزية لها طقوسها الأنيقة مثلما كنا نرى في طفولتنا طقوس القهوة التركي أو تدخين رجال الأسرة للسيجار بعد وليمة العيد.
فيروز والحدث
وعندما انتشر خبر حفلتها المرتقبة في حديقة الأندلس عام 1976 كان الحدث، فيروز في مصر! أخيرًا سأراها على شاشة التليفزيون، تتحرك وتغني على عكس صورة قديمة بائسة في جريدة! سأراها مثلما رأيت وردة وفايزة ونجاة في الحفلات.. جلسنا مجتمعين، مثلما كنا نتأهب لحفل عبدالحليم في شم النسيم، نتفحص ديكورات المسرح، وشَعر عبدالحليم، وبدلته، وتموجات حركات يديه المتباهية التي كان يوهمنا بها أنه يقود الفرقة الماسية، وأغنيته الجديدة التي نظل نغنيها بعد الحفل بأسابيع.
انتظار فيروز
لكن انتظار فيروز كان مختلفًا مثلها، ماذا ستغني؟ كيف ستبدو؟ بدا الترقب واضحًا على والدي ووالدتي فترقبت مثلهما، وفاقت فيروز توقعاتنا: مسرح كبير، أوركسترا ضخم يقودها بحماس مايسترو عرفنا فيما بعد أنه عاصي الرحباني شخصيا، الرجل الذي سحرنا بزهور موسيقاه وأشعاره، كورال وراقصون بملابس بعلبكية جميلة. تحفزنا للقاء فيروز مقدمة موسيقية جميلة، ثم تظهر فيروز لجمهور مصر بمكياج مسرحي كأنها كاهنة في مأساة إغريقية، أناقة فستانها الكلاسيكي، وصرامة جمالها المحايد، تراجع خصلات شعرها الطويل خلف كتفها الأيمن فيما تستكين خصلاتها أمام كتفها الأيسر على جانب من عنقها.
إقرا أيضا : في ذكرى محمد عبدالوهاب: نكشف الكلمات الأولى لأغنية (ضي القناديل) وسر رفض فيروز لها !
تغني بحماس وجدية بوجه خال من التعبير، بل تكاد لا تبتسم، ولكن تنفلت من كتفيها انتفاضة مع وقفات معينة في أي أغنية لتعلم أن هذا الوجه يخفي فيضًا من المشاعر مكمورًا في وجدانها احترامًا لجمهورها لأنها تغني بحساب، وكأنها تصلي.
كان غناء فيروز ‘على اسم مصر’. لأن أول ما نطقت به في تلك الحفلة التاريخية كان اسم (مصر) وتحديدًا: (مصر عادت شمسك الذهب). راقبت استحسان والدي ووالدتي لاختيار فيروز وأخوان رحباني للأغنية، وفهمت التحية مثل والديّ رغم سنوات عمري القليلة. دخلت فيروز قلبي، أصبحت لها مكانة في عالمي الغنائي، ورغم محبتي لليلى مراد وأسمهان وسعاد مكاوي وحورية حسن وشادية وهدى سلطان، كان لفيروز مكانة فيروزية خاصة.
تألقت فيروز لأنها أطاعت في تبتل الأخوين رحباني (والطريق عَ بيتُن مزروع بالحكايات)، لاحظت ذلك بعد أن دخلت المرحلة الفيروزية في حياتي التي كان عرَّابها الناقد الفني الكبير سامي السلاموني رحمه الله. علمني السلاموني كيف أستمع إلى فيروز: فن الانصات إلى فيروز والرحبانية. لم أكن أفهم كثيرًا مما تغنيه، وقام السلاموني بالترجمة الكاملة في أحد مقالاته في مجلة الإذاعة والتليفزيون، وضع لكل كلمة ما يناظرها بالعامية المصرية، وتفتحت الأبواب على عالم الرحبانية وفيروزتهما.
في مرحلة تالية تعلمت الاستماع إلى تسجيلات مختلفة لأغانيها، تبين لي أنها تلتزم نفس الوقفات والحليات والآهات واللزمات والقفلات، نفس التصميم الأدائي الصوتي، كوريوجرافيا موسيقية تؤديها بالتزام التلميذة لتعاليم ‘مايسترو صوتها’، فلا تخرج عن الروتين مهما كان، وهذا سر نجاحها ببساطة، موهبة صوتية تمتثل امتثالًا تامًا لموهبة موسيقية عالمية تجسدت في عاصي ومنصور رحباني. كان صوتها الآلة الموسيقية التي منحها الله للإدارة الرحبانية لتصبح لغة تواصل الخطاب الرحباني الشعري والموسيقي.. علماها، فتعلمنا منها.
فيروز.. دروب الحكي
غنت فيروز دروب الحكي، للطفل في المغارة وأمه مريم، وتراتيل عيد الميلاد، وشوارع القدس العتيقة، ولمكة، ولبيروت، وشط اسكندرية، والسيوف القواطع، وثلاثة فدائيين من جنوب لبنان، والهواء الذي نسم علينا، وبرج الحمام المسور العالي، وزهر البيلسان، وزنبق نيسان، وكرم العلالي، وسكون الليل، وعيون عليا، والسيارة التي (مش عم تمشي) لأنها (بدها حدا يدفشها دفشة)!!
ولكن حيرتني فيروز.. توقفت كثيرا أمام المواقف الإنسانية في أغانيها، والمآزق اللغوية! كيف تصبح (عيونك الصيف وعيوني الشتي)؟، وكيف بحرف واحد من اسم حبيبها (تكدس الليلك في الدروب)؟ وإذا غنت فيروز: (يخرب بيت عيونك) فهذا يعني الإذن باستخدام التعبير، وإذا قالت (لياليك بعينيّ شبابيك مضوية) فهي مدخلنا إلى نوع جديد من الرومانسية الشعرية، وإذا اشتكت أنها بأيام الصحو لم ينتظرها أحد ننتظرها نحن جميعنا، وإذا أحبت في الصيف وفي الشتاء فهذا حقها، أو انتظرت حبيبها على الطريق بلا جدوى تفهمنا، بل وتعاطفنا معها، وربما انتظرنا معها رغم اختلافنا في الرأي.
إقرأ أيضا : في ذكرى رحيله الـ 45 سر تكريم يوسف السباعي لفيروز في جريدة (الأهرام)
مشكلتي اليوم مع فيروز أني صدقتها، في كل كلمة غنتها كتبها الرحبانية أو غيرهما من كبار شعراء الوطن العربي، وما تحمله كلمات الأغاني من مشاعر إنسانية، وما عبرت عنه من مواقف بكل شاعريتها وصدقها، فأضافت إلى قاموس اللغة العربية كلمتين تدل كل منهما على معايير فنية أصيلة: الرحبانية والفيروزية.
لكن أقوى تأثير للمؤسسة الرحبانية الفيروزية عليّ شخصيًا أنها صاغت قوميتي منذ طفولتي، علمتني كيف أحب فلسطين، وجسدت فيروز تلك المحبة لي بصوتها في سياق راسخ ثقة في العودة بمفهومها القدسي المقدسي، وإصرارًا مني، كلما غنيت معها أو مع طلابي، أن يغسل نهر الأردن وجهي بمياه قدسية ويمحو آثار القدم الهمجية.
…
مع خفوت صوتي الداخلي عبر السنين زالت خصوصيته وزادت فيه نبرات صوت فيروز ليختلط الصوتان في نبرة مقاومة تتجاوز أبواب القدس الحقيقة والرمز، هكذا أصبح شعاري في الحياة، وفي أي حياة:
سأدق على الأبواب.. وسأفتحها الأبواب!