بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
جلست وسط أسرتى بعد الغداء أمام التليفزيون في كسل شديد يليق بغداء العيد، ومضت أيادي أفراد الأسرة تعبث بريموت التليفزيون لتنتقل في سرعة شديدة بين القنوات، وما أن يستقر على قناة معينة حتى تتصاعد اعتراضات من هنا أو هناك، فلكل منا ذوقه ورغباته في المشاهدة، وتمتد يد أخرى لتعود القنوات إلى المرور السريع أمام عينى حتى كدت أن أصاب بالدوار، حتى توقفت أمام قناة تذيع إحدى مسرحيات العيد الكوميدية القديمة ، فصمتت الاعتراضات وسكتت التعليقات ومضى الكل في مشاهدة المسرحية التي – للأسف الشديد – أصبحت محفوظة من كثرة إذاعتها، فلقد دأبت القنوات التليفزيونية على إذاعة المسرحيات الكوميدية أثناء الأعياد، و خلال السنوات الماضية أعادت نفس المسرحيات في نفس الأعياد.
أمام صمت افراد العائلة مضيت أسأل نفسى ما الذى يدفعنا لمشاهدة ما حفظناه عن ظهر قلب ؟ هل ارتبطت عندنا مسرحيات العيد حتى صارت طقسا من طقوس العيد؟ نفضت هذا الخاطر عن ذهنى بمجرد أن تذكرت (نظرية بافلوف) التي تربط ما بين المثير ونفس الاستجابة بسبب التكرار، ففي اعتقادي أن الفن أرقى من هذا، هل هو حنين إلى الماضى عندما كنا نشاهد نفس هذه المسرحيات في سنوات مضت كانت فيها الحياة أسهل والظروف أفضل وكنا أسعد حالا؟
إقرأ أيضا : ماجد كامل يكتب: خلود المسرح الكوميدي القديم فى وجدان المشاهد
لم أصل الى إجابة و لكنى تنبهت أن مسرحيات العيد المتكررة عابرة للأزمنة وعابرة للأجيال، فبعضها يعود الى فترة الثمانينات والقليل منها يعود الى ما قبل هذا، ومع ذلك تجتمع حولها الأسرة بكافة أجيالها وترضى كل الأذواق، بل الأغرب أن بعضها برغم نجاحه الجماهيرى هاجمته أقلام كثيرة في زمن عرضها على المسرح أو في بداية عرضها على التليفزيون، فمسرحية (مدرسة المشاغبين) على سبيل المثال تم اتهامها بأنها سبب فشل التعليم في مصر وأنها أفسدت أخلاق أجيال بأكملها، ولكن نظام الحكم في عصر الرئيس أنور السادات لجأ إلى إذاعتها أيام حظر التجول في أحداث 18 و 19 يناير المسماة بانتفاضة الخبز عام 1977 .
مدرسة المشاغبين ومسرحيات العيد
نفس الأمر تكرر مع أحد مسرحيات العيد (العيال كبرت)، فلقد هاجمتها أقلام كثيرة تحت دعوى أنها تشجع على التجاوز في حق الأب واستخدام ألفاظ لا يصح التعامل بها داخل الأسرة، ولكن نظام الرئيس حسنى مبارك لم يجد غيرها ليذيعه في التليفزيون أثناء أول حظر تجول يفرضه هذا النظام اثناء أحداث الأمن المركزى عام 1986، وهذا اعتراف بأن هذه المسرحيات قادرة على إلهاء الناس عن الأحداث.
و لكننا اليوم نجلس جميعا لنشاهد المسرحيتين ونضحك ولا أحد من أبنائنا يقلد أبطالها، فهل أخلاقنا تغيرت وصرنا نرى ما يفعله هؤلاء الأبطال عادى وطبيعى؟، بالتأكيد لا، وإلا ما كنا ضحكنا عليها اليوم، هل مواقفنا التي تغيرت تجاه تلك مسرحيات العيد يدل على نضجنا؟، هل أدركنا أن الكوميديا تقوم على المبالغة؟، أم أننا تعلمنا أن الحياة لا تقلد الفن ولكن الفن هو من يقلد الحياة ويضخم عيوبها لندركها؟
إقرأ أيضا : نتفليكس تعبث بتراثنا الدرامي العربي على جناح تغيير الهوية!
انتبهت في الاستراحة ما بين الفصول أن كل مسرحيات العيد من إنتاج القطاع الخاص، هل لأنها تسعى إلى التسلية في المقام الأول ولا تغفل عنصر المتعة؟، وهل كل مسرحيات القطاع العام ليست كذلك؟: أعتقد أن المتعة شرط أساسى لأى فن، فهكذا قال الجميع حتى أصحاب المواقف الأيدلوجية في الفن وأصحاب المسرحيات الحاملة للرسائل السياسية مثل المسرحى والشاعر الألماني (برتولد بريشت) الذى قال: المتعة قبل السياسة، بل إن أستاذا من أساتذة النقد من ذوى الاتجاه اليسارى كالدكتور محمد مندور يعترف بضرورة وجود مسرح من أجل التسلية ولا يرفضه ولا يعتبره من درجة أدنى.
مسرحيات العيد لها وقع خاص
ساءلت نفسى هل مسرحيات العيد لها وقع خاص بما تضم من نجوم أعزاء لايتوفرون لمسارح القطاع العام ولذلك لايمل المشاهد منها ؟، ولكنى تذكرت عشرات المسرحيات التي قدمها القطاع العام والتي تمتلئ بالنجوم وتحمل داخلها كما كبيرا من الضحك – إذا كان هذا مقياس الاختيار – فلماذا الإصرار على تلك المسرحيات فقط؟، حتى أنه في العيد الماضى أذاعت قناتين متنافستين نفس المسرحية في يومين متتالين!، هل السبب في التكرار هو توقف القطاع الخاص عن الإنتاج فلا تجد القنوات سوى تلك المسرحيات؟
ألا تفكر القنوات في إنتاج جديد يأخذ حقه في التدريبات وتسجله بعد فترة عرض طويلة نسبيا ليصبح ذخيرة لها بدلا من التكرار الذى لابد أن يمله الناس يوما؟، قفزت إلى ذهنى تجارب القنوات في الإنتاج المسرحى وكيف كانت تتعجل تسجيله دون عرضه فترة كافية فتظهر المسرحيات وكأنها لبان (شيكلتس) سرعان ما تذوب حلاوته و تضطر إلى تغييره، وهكذا لا يصمد أمام الزمن، ولا أنفى مشاركة معظم الفنانين في ذلك الخطأ، فمثلما كان يتم في الإنتاج المسرحى التليفزيونى في الثمانينات والتسعينات من الارتجال والعشوائية وعدم إجراء بروفات كافية يحدث اليوم، ليس في انتاج المسرح التليفزيونى فقط بل في معظم العروض المسرحية المصدرة للخارج.
فالبعض لا يعرف شيئا عن المسرحية قبل السفر، وعندما يسافر (يحلها ربنا) ويظهر على المسرح ليؤدى بعضا من (النمر) التي يحفظها ولا مانع من استغلال عدم حفظه للنص لمزيد من الإضحاك، وكأننا عدنا إلى العصور الوسطى في زمن الفنانين الجوالين الذين كانوا يقدمون عروضا مرتجلة تقوم على المهارات الفردية، وشخصيات نمطية ومواقف مكررة، و حتى عندما بدأ النص المسرحى في الظهور في عصر النهضة تحدثنا كتب تاريخ المسرح عن نجمة في ذلك الزمان اعتذرت عن العمل لأنهم طلبوا منها إجراء بروفة فاعتبرتها إهانة، أما اليوم فيعتبرون البروفة مضيعة للوقت.
خطر لى خاطر أن أتصل بأحد الأصدقاء في قناة تليفزيونية لأسأله هل لا يوجد لديكم إلا مسرحيات العيد التي تتكرر؟، وجاءت الإجابة صادمة: إنها مسرحيات رخيصة واشترينا حقوق إذاعتها لسنوات طويلة فلماذا نتكلف بشراء غيرها؟، كما أن الجمهور يحبها و لم ينصرف عنها، ولن تجد مسرحيات معاصرة مصنوعة بنفس الجودة، قلت له أنه لو بحث لوجد، فجأة تذكر أن في مكتبة التليفزيون المصرى مئات المسرحيات التي لم تذع أو أذيعت مرة واحدة فقط، قلت: وهل هى مسرحيات كوميدية وبها نجوم؟، قال نعم، فقلت لما لا تذاع؟، قال: تلاقى بس مفيش حد دوّر عليها أو مش على مزاج اللى بيحط خريطة البرامج!
وجدت أننى سأفقد سلامى النفسى ومتعة العيد، فاستعذت من الشيطان وعدت إلى كسلى أتابع نفس المسرحية من مسرحيات العيد للمرة المليون، وأنا أدعو للسابقين الذين اجتهدوا و صبروا و ثابروا فقدموا لنا أعمالا خالدة بالرحمة.. وربنا يرحمنا احنا كمان.