كتب: محمد حبوشة
منذ ظهور النشاط القوي لمنتجات الذكاء الاصطناعي وخدماته المقدمة على الإنترنت للجميع، ارتفع حجم المخاوف بين الناس عن مدى تأثرهم بهذه الخدمات، وهو ما دفع لطرح سؤال في تحليل لوكالة فرانس برس، عن مدى دقة مقولة أن الذكاء الاصطناعي يهدد البشرية بـ (الفناء)، ولو صحت هذه المقولة فعلا، فهل هذه المخاوف تلوح في الأفق البعيد؟
إقرأ أيضا : حنان أبو الضياء تكتب : توم هانكس ورحلته من الأرض إلى القمر (19)
يبدأ كابوس الذكاء الاصطناعي، المستوحى من عدد لا يحصى من أفلام الخيال العلمي، عندما تتفوق الآلة بقدراتها على البشر وتخرج عن نطاق السيطرة، وقال الباحث الكندي يوشوا بنجيو، أحد عرابي التعلم الآلي: (منذ اللحظة التي ستكون لدينا آلات مصممة لكي تستمر، سنواجه مشاكل)، وبحسب متغير تخيله الفيلسوف السويدي (نيك بوستروم)، ستأتي اللحظة الحاسمة عندما تعرف الآلات كيف تصنع آلات أخرى بنفسها، ما يتسبب في (انفجار في الذكاء).
ترمنيتور والذكاء الاصطناعي
صورة المقاتل الآلي ذي العينين الحمراوين من فيلم (ترمينيتور – Terminator)، والذي أرسله الذكاء الاصطناعي المستقبلي لوضع حد لكل مقاومة بشرية، أثرت على اللاوعي الجماعي بصورة كبيرة، لكن وفق خبراء حملة (أوقفوا الروبوتات القاتلة)، فإن هذا ليس الشكل الذي ستسود به الأسلحة المستقلة في السنوات المقبلة، وفق ما كتبوا في تقرير صادر عام 2021.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل هناك مخاطر على الفنون من الذكاء الاصطناعي، خاصة أن العديد من الدول تتطلع لقيادة العالم في تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ووضع موطئ قدم لها في عالم هذه التقنية التي باتت لا تقدر بثمن، خاصة بعد ظهور الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي، أو ما يعرف بـ (التوليدي) في نهاية 2022، ما فتح الباب على مصراعيه أمام احتدام المنافسة في هذا المجال، الذي سيقود إلى ثورة في مجالات الحياة المختلفة؟.
إقرأ أيضا : “جيمس كاميرون” الذي جمع 5 مليار دولار من فيلمين فقط
ظني أن هذا الخطر قائم بالفعل حيث دخل الاصطناعي في الفن التشكيلي، فقد شهد المعرض الدولي الخامس للأعمال الفنية والعلمية ببكين خلال العام الماضي عرض أكثر من 120 عملا فنيا، أبدعها نحو 200 فنان من أكثر من 20 دولة، وأظهرت تلك الأعمال استكشافات الفنانين المتعددة لمجال الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك موضوعات مثل حدود الإدراك البشري، والنموذج الفني للابتكار التكنولوجي والابتكار التعاوني للتكنولوجيا والفن، وهو ما تجلى في مجموعة الخطوط، والألوان، والتناسق والتجانس، وحتى الأشياء الكامنة في داخل الإنسان: كالإحساس، والرقة، والهيبة، والجمال.
أم كلثوم والذكاء الاصطناعي
وفي مجال الفنون البصرية والسمعية نحن أمام مازق حقيقي في مواجهة الذكاء الاصطناعي، حيث بدأ يغزو عالم الموسيقى، لكن بمجرد ما بدأت تظهر هنا وهناك برامج آلية جاهزة تعمل على إنتاج أنماط موسيقية وتأليف ألحان غنائية تضاهي أصوات الفنانين العالميين الأحياء منهم والأموات، حتى بدأ الجدل يقتحم المشهد العالمي حول مصير الصناعة الموسيقية على رغم أن هذا الجدل لم يأخذ صبغة جدية في العالم العربي ولم ينتج أي خطاب فكري – احتجاجي قادر على مساءلة هذه التكنولوجيات ودورها من عدمه في تنمية الصناعتين الموسيقية والغنائية.
والحقيقة أن الأمر لايتعلق هنا بأداة تكنولوجية ستسهم في تنمية التجربة الفنية، بل لا تعدو كونها مجرد تحنيط وتنميط لقدرات الإبداع البشري وتعويضه بأصوات إلكترونية، وبغض النظر عن النقد اللاذع الذي وجه إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، فإن كثيرين من الفنانين قبلوا بالتلاعب بأصواتهم طالما أن هناك عائدات مادية وراء ذلك، وفي هذا الصدد تقول الكاتبة المتخصصة في الاتصال عبير خالد: أكثر من 14 مليون أغنية أنتجت عن طريق الذكاء الاصطناعي من دون توظيف كاتب لكلماتها، أو ملحن، أو موزع أو منتج وحتى من دون شراء حقوق ملكيتها، بفضل هذه التقنية يمكنك اختيار أي أغنية، أي لحن، أي مطرب، ويصنع لك الذكاء الاصطناعي أغنيتك في دقائق، فمثلا تستطيع سماع أم كلثوم في أغنية (حب إيه) بصوت مايكل جاكسون، أو يمكنك سماع أغنية (الأماكن) لمحمد عبده بصوت أديل البريطانية أو ريانا الأميركية، كل ذلك من دون تصريح أو إذن.
جرايمز والذكاء الاصطناعي
وفي وقت يحمي عشرات الفنانين أغانيهم من خلال ضبط الأمور القانونية ضد الذكاء الاصطناعي، ترتمي فيه أصوات واعدة صوب شركات برامج الذكاء الاصطناعي من أجل خلق شهرة مصطنعة لها ولأعمالها، وهذا الأمر عايناه قبل أسابيع قليلة مع المغنية الكندية (جرايمز) بعدما قبلت باستخدام صوتها في أغنيات خاصة ببرامج الذكاء الاصطناعي واتفقت مع الشركة للحصول على نصف عائدات الأغنية، وعلى رغم أن عملية الـ (توليد) ربما تصبح في حد ذاتها إبداعا يوازي في تشكلاته الفنية قدرات صوت الفنان، هكذا أصبحت هناك مجموعة من البرامج الخاصة بتحويل النصوص إلى أغان، تتحكم فيها برامج مثل (أوديور، وجارفيس، تشات جي بي تي) حتى برزت أخرى ذات علاقة بالصورة السينمائية والتلفزيونية والفوتوغرافية، ومن ثم ينبغي على صانعي الأفلام البحث عن طرق لدمج تقنيات مثل التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، ويعد التسارع الدراماتيكي في تطور تجارب الذكاء الاصطناعي وإمكاناته بثورة حقيقية في السينما والتلفزيون من شأنها أن تغير وجه صناعة الترفيه في العالم.
ويأتي هذا في وقت أن تلك التجارب اليوم تشمل قيام الذكاء الاصطناعي بكتابة النصوص الدرامية للأفلام وإسناد عدد كبير من المهمات البشرية في مرحلة الإنتاج إلى أجهزة الكمبيوتر والروبوتات، بما فيها محاكاة مظهر الممثلين وسلوكهم وصوتهم، فضلا عن تمكين شركات الإنتاج من فهم جمهور أفلامهم والقدرة على استقطابهم بشكل أكثر فاعلية وتمكين الجمهور نفسه من التحكم بشكل المادة الترفيهية بين يديه وفقا لمزاجه، وصولا إلى قدرته على تغيير مسارات الحكايات في الأفلام.
الموسيقى الالكترونية والذكاء الاصطناعي
والحقيقة أن هذا الجدل حول علاقة الذكاء الاصطناعي بالإبداع البشري أعادنا مباشرة إلى اللحظات الأولى التي تعرفنا فيها إلى الموسيقى الإلكترونية والجدل الذي أحدثه هذا الاكتشاف، إذ على الرغم ممما عرفته من معارضة ونقد، فإن الموسيقى الإلكترونية أصبحت مجالا تؤسس عليه الموسيقى المعاصرة، وظهرت تجارب عدة في هذا الصدد مزجت بين فتنة الآلة وأصالة الصوت وأنتجت تجارب موسيقية مميزة لا يقوى المرء على نسيانها، وظلت فرق أخرى ملتصقة بالموسيقى الإلكترونية، منطلقا وصوتا وتوليفا وتفكيرا، وعلى رغم أنها تحق نجاحا كاسحا، فإنها غير قادرة على استحداث أي جديد يعول عليه موسيقيا.
منذ بداية عام 2023، ودخول تقنية الذكاء الاصطناعي حيز أكبر للتنفيذ بمقترحات وأشكال كثيرة بين الناس، بدأ البعض يستخدمه في تغيير أشكالهم تماما، عن طريق وضع صورة قديمة لهم بهيئتهم الطبيعية، ثم إدخال أوامر للذكاء الاصطناعي، من أجل تغيير الشكل من خلال تصغير العمر أو تخسيس الجسم، أو وضع الشخص في أماكن مختلفة عن التي يعيش بها، وسرعان ما دخلت الفنانات على الخط مع الذكاء الاصطناعي، وشهدت الآونة الأخيرة صور عديدة نشرونها بها تغيير جذري لهن، ولعل آخرهن الفنانة شيماء سيف.
فقد نشرت شيماء سيف صورا جديدة لها، بجسد نحيف للغاية على غير هيئتها المعروفة لدى محبيها، على موقع إنستجرام، باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، لتلقى إشادات كبيرة من متابعيها، (كنتي قمر وبقيتي قمرين)،
ومن قبل شيماء سيف، نشرت النجمة القديرة سوسن بدر صورة جديدة لها مستخدمة خاصية الذكاء الاصطناعى، وذلك عبر صفحتها الشخصية على إنستجرام، ظهرت خلالها بهيئة أصغر سنا، وعلقت: الذكاء الاصطناعي وعمايله، كما نشرت الفنانة سماح أنور صورا جديدة لها، بجسد نحيف للغاية وفي عمر أصغر مما هى عليه، على صفحتها الرسمية عبر فيسبوك، باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، لتلقى إشادات كبيرة من متابعيها.
نور الشريف والذكاء الاصطناعي
ومع دخول التكنولوجيا في جميع المجالات جعلت من الحياة إيقاع سريع، بل ويمكن تحويل أي شيء من صورته الطبيعية لنراه بشكل مختلف تماما، حتى الشخصيات الشهيرة التي تعلقت بها أذهاننا، فيمكن بضغطة زر وبعض المهارات التكنولوجية تحويل وجوه معروفة إلى شخصيات كارتونية بالذكاء الاصطناعي هذا ما فعله (على الطويل) صاحب الـ 28 عاما، بعد تحويله لأشهر الشخصيات في الدراما المصرية أبطال مسلسل (لن أعيش في جلباب أبي)، بداية من نور الشريف (عبد الغفور البرعي) وعبد الرحمن أبو زهرة (المعلم سردينة)، حتى سنية وفاطمة كشري إلى رسومات ديجيتال.
للأسف يرى بعض قادة صناعة السينما والدراما العالمية، أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر على سوق العمل، فمع الاستخدام المتزايد لأدواته، هناك مخاوف متزايدة من أنها قد تشكل تهديدا لوظائف مخرجي الأفلام، إلا أن آخرون يرون أن قدرته على إنجاز مهام معينة، لا يعني بالضرورة أن يحل محل كبار المخرجين، هذا الجدل أثاره الممثل الأميركي توم هانكس، من خلال سرده لفكرة استمرار مسيرته المهنية حتى بعد وفاته، عبر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث قال إنه يمكن استخدام التكنولوجيا لإعادة إنتاج صوره، ما يضمن استمرار ظهوره في الأفلام (من الآن وحتى قيام الساعة)
فهم دور الذكاء الاصطناعي في صناعة السينما والفن لا يزال متأخرا، إذ حاليا يتم استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق مختلفة، من إنشاء تجارب الواقع الافتراضي إلى كتابة سيناريوهات الأفلام القصيرة، فيما تتمثل إحدى أهم الطرق التي يتم بها استخدام الذكاء الاصطناعي في السينما هى خلق ممثلين رقميين، ولعل الممثل الأميركي توم هانكس اعترف أيضا بأن تطور التكنولوجيا خلق تحديات فنية وقانونية جديدة، حيث جاءت تصريحاته في الوقت الذي قال فيه المغني والمؤلف نيل تينانت، من فرقة (بيت شوب ويز)، إنه يمكن للموسيقيين استخدام الذكاء الاصطناعي لإكمال تأليف أغانيهم.
وفقا لتصريحات الممثل العالمي توم هانكس، فإنه يمكن لأي شخص الآن إعادة تكوين نفسه رقميا، بحيث يظهر في أي عمر يريد، وكل هذا يتم عن طريق الذكاء الاصطناعي أو تكنولوجيا التزييف العميق، حسب وصفه، مضيفا: أنا يمكن أن تصدمني حافلة غدا وأموت، لكن هذه التكنولوجيا ستعرض أعمالي بجودة واقعية حتى بعد وفاتي، بالتأكيد هناك تحديات فنية وقانونية، لكن الجميع سيستمتع بأعمالي لوقت طويل.
هاريسون فورد والذكاء الاصطناعي
وظهرت تقنية مماثلة في أحدث أفلام سلسلة (إنديانا جونز) استخدمت بالفعل، حيث ظهر الممثل الكبير (هاريسون فورد) الذي يبلغ من العمر 80 عاما، بمظهر شبابي في افتتاحية الفيلم؛ بعد أن قام المختصون في صناعة الأفلام بمطابقة صور فورد القديمة مع صوره الجديدة وخلق صورة وهمية تُظهر فورد كما وكأنه جاء من عام 1944، في مثال آخر، وبعد 45 عاما من تسجيل أصوات واحدة من أكثر الشخصيات شهرة في تاريخ السينما، ودع (جيمس إيرل جونز) شخصية الشرير (دارث فيدر)، حين أخبر الممثل الأسطوري البالغ من العمر 91 عاما (ديزني) مؤخرا أنه يفكر في إنهاء هذه الشخصية الخاصة.
أجبر ذلك الشركة على إيجاد بديل لجونز، وكانت الإجابة التي استقرت عليها (ديزني) في النهاية، مع موافقة الممثل، بإعادة إنشاء صوته عبر برنامج للذكاء الاصطناعي بمساعدة شركة أوكرانية ناشئة تستخدم التسجيلات الأرشيفية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، ويبدو ملحوظا أنه تم تصميم أدوات الذكاء الاصطناعي لأتمتة المهام المتكررة وتقديم رؤى قائمة على البيانات، وفي حين أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد مخرجي السينما والدراما على اتخاذ قرارات أفضل من خلال تزويدهم بمعلومات أكثر دقة وفي الوقت المناسب، إلا أنه وفي الوقت الحالي لا يمكن أن يحل محل العنصر البشري المطلوب بهذه الصناعة لاتخاذ القرارات الاستراتيجية،
ومع إرخاء العولمة بظلالها على الثقافة سواء أغان وأفلام وأدب وعروض أزياء وعادات ولغات وغير ذلك، وإحداثها تغييرا في الأغنية والسينما على مستوى الأسلوب والموسيقى والكلمات والسيناريو، إلا أنها بنظر البعض لن تشكل مع أدوات الذكاء الاصطناعي تهديدا لوظائف المخرجين وصناع السينما والدراما في الوقت الحالي، بل ستحتاج إلى وقت أكبر، لكن الخطر داهم لا محالة ويهدد الإبداع الفن الحقيقي عندما تسود هذه الصناعة التي تشكل القوى الناعمة في الوقت القريب جدا، وهو ما يشكل أكبر خطر على الفنون.. تلك هى المعضلة الحالية عندما يتم مزج الإنسان بالآلة ليطرق مجالات الإبداع الفني.