تحية كاريوكا … كل النساء في امرأة واحدة !
بقلم الباحث والناقد السينمائي : محمود قاسم
قد لا تكون تحية كاريوكا هى الأكثر جمالا من الناحية الجسدية بين الراقصات والممثلات في السينما المصرية، وقد لا تكون أكثرهن مهارة في الرقص، لكن لاشك أنها الأكثر قبولا بكل ماتتمتع به من سمات، رغم كل التغيرات التي طرأت عليها كامرأة طوال رحلتها، لكن لاشك أنها الفنانة الأطول تاريخا في هذا الشأن ارتبطت بالأحداث الساخنة المتعاقبة على الوطن، وعرفت أكبر قدر من القصص العاطفية التي انتهت بالطلاق السريع مثلما بدأت، وهى أيضا صاحبة أكثر الابتسامات جاذبية، وقد اكتست هذه الابتسامة علي وجهها وهى تقوم بدور المرأة الشريرة الشهوانية من فيلم الي آخر!.
كما أن تحية كاريوكا هى الراقصة الوحيدة التي كتب عنها هذا العدد من الكتاب الكبار على مدي القرن العشرين سواء من مقالات أو كتب، ورغم ذلك فلا تزال هناك مساحات كثيرة مغلقة لم تنفتح بعد أمام الكتاب، ما سيجعل لدينا مسافات للتعرف أكثر عليها، فقد كتب عنها عباس العقاد في مجلة الكواكب عام 1949: (إنها الراقصة الأهم في تاريخ هذا الفن)، وهذه شهادة عظيمة القدر من كاتب في وزن العقاد، ومن المعاصرين كتب عنها المؤرخ الفلسطيني إدوار سعيد، والروائي صالح مرسي، ومحمد مستجاب، وكم حلم مصطفي محرم أن يكتب عنها مسلسل.
تحية كاريوكا والدكتور فرحات
أما بالنسبة لي فأنا اتابع رحلة تحية كاريوكا في السينما، وقد اكتشفت أن أجمل الأفلام التي رقصت ومثلت فيها لم يشاهدها أبناء الأجيال التي ننتمي إليها، والمقصود بها الأفلام التي قامت ببطولتها في الأربعينيات، باعتبار أن الكثير من هذه الأعمال كانت تائهة قبل زمن اليوتيوب، فتحية كاريوكا التي كانت دوما بطلة منذ الفيلم الأول لها عام 1935 (الدكتور فرحات) وهى تشد الانتباه بكل مالديها من جاذبية.
والمعني هنا بعيد تقريبا عن الجاذبية الجنسية، فبالاضافة إلى تلك الابتسامة التي لم تفارقها قط في كل أحوالها، وأعمارها، وأدوارها فإنها في السنوت الأولي من مسيرتها كانت بالغة الخفة والمرونة والتحفظ، ويدخل في ذلك خفة الظل البلدي التي تتمتع بها، رغم أنها عندما تصير (الإفرانكية) فإنها تطل علينا بشكل آخر ملئ بالقبول، كما أن تحية كاريوكا كنت ممثلة موهوبة ما أبقاها أمام الكاميرات وعلي خشبة المسرح طوال مسيرتها.
في السينما لم تكن الراقصة بل هى العاشقة، والابنة، والأم، والجدة، والثورية، وبنت البلد بكافة أشكالها، كما أنها عملت بشكل مكثف في الأفلام والدراما الاذاعية والتلفزيونية، والمسرح، وفي نهاية مسيرتها أسست مع زوجها فايز حلاوة مسرح باسمها كان بالغ التميز لطابعه السياسي الساخر في فترة ازدحمت حياتنا السياسية بالأحداث.
تحية كاريوكا.. 13 زوجا
من المعروف أن تحية كاريوكا قد تعدد أزواجها، واقترنت بثلاثة عشر رجلا تباعا منهم الفنانين ورجال الأعمال والسياسيين، فإن هؤلاء الرجال كانوا عابرين في حياتها، وهم الذين تمتعوا لفترات قصيرة بجمالها الجسدي، فإننا نحن المتفرجين الفائزين الأكبر بها كلما شاهدنا أفلامها التي أصبح عرضها متاحا في أي وقت وقد أحبتها كاميرا السينما مثلما أحبها الكتاب المذكورة أسمائهم، ويكفي أن تتصفح أي ألبوم صور لتحية كاريوكا كي تتأكد كم عشقت الكاميرا وجهها، وجسدها النموذجي الذي تركت الزمن ليرسم عليه تأثيراته كما يشاء، ورغم أنها حاولت أن ترويضه من وقت لآخر إلا أنها كانت تنهزم أمام الزمن، فصارت هناك فروقا كبيرة بين تحية في كل عقد من عقود القرن العشرين!.
تحية كاريوكا.. محبوبة الكاميرا
وعليه فإن تحية كاريوكا كانت محبوبة للغاية من كاميرا السينما، وفي هذا المجال فإنها بالتقريب عملت مع كل المخرجين السينمائيين الذين يجيدون إدارة الممثل، وكانت معهم في أفضل أحوالها، وكانوا يعودون للتعامل معها دوما مهما مر بها الزمن، وفي الوقت الذي كانت علاقة الكثير من الراقصات الأخريات بالسينما شكل مؤقت، فإن كاريوكا استمرت رغم كل التحولات وفرضت نفسها حتي في الأدوار الصغيرة، وعلي سبيل المثال فإذا كان صلاح أبو سيف هو خير من يدير الممثلين في السينما المصرية يليه كل من يوسف شاهين، وبركات، وكمال الشيخ، وعاطف سالم، وأيضا عز الدين ذو الفقار، فإن الراقصة التي لم تكف عن التمثيل قد عملت أكثر من مرة مع هؤلاء جميعا، بالإضافة إلى كل أبناء الأجيال المتلاحقة طوال عمرها.
تحية كاريوكا.. شباب إمرأة
(شفاعات) هى تحية كاريوكا كما جسدتها في فيلم (شباب امرأة) لصلاح أبو سيف عام 1956، المرأة الشبقة المقتدرة ماليا وجسديا، لها قوة البقرة التي طحنتها، ليست شريرة بالقدر الذي تبحث فيه عن الامتاع، تمتص رحيق الرجال، وهى كريمة مع ذكرها تسعي إلى الاقتران به شرعا حتي إذا امتصته تحولت إلى غيره، وكي نعرف سر السحر الذي يكمن في تحية كاريوكا فإن هناك دورا مشابها جسدته زوزو ماضي قبلها في فيلم (الأسطي حسن) للمخرج نقسه عليه عام 1952، لكن هناك مسافة واسعة بين المرأتين في تجسيد الدور والبقاء في الذاكرة، و(شفاعات) تصطاد الرجل الذي يعجبها بكل الوسائل المتاحة أمام المرأة الشعبية، بالشتيمة وقوة الجسد واتساع الابتسامة.
تحية كاريوكا.. الفتوة
كانت تحية كاريوكا عندما استعان بها صلاح أبو سيف قد بلغت الحلقة الخامسة من عمرها وصارت امرأة ناضجة، ليست شابة كما يبلغنا عنوان الفيلم، ويبدو أننا وقعنا في سحر الكتابة عن (شفاعات) كما جسدتها الممثلة، هكذا أخرج أبو سيف من كاريوكا أجمل وأقوي ماعندها، وسرعان ما استعان بها في دور مختلف تماما في فيلم (الفتوة) عام 1957، وهى هنا الأرملة التي تركها زوجها لتواجه قسوة الحياة في سوق الجملة، لم تكن منكسرة، لكنها بالتقريب لاتعرف السعادة، وتتزوج من هريدي الصعيدي الساذج وتدفعه الي الصعود الاجتماعي السريع، فيبحث هريدي عن زوجة من الطبقة الجديدة التي يطمح في الوصول إليها بعد أن اختطف درجة البكاوية.
تحية كاريوكا.. سمارة
مثلت تحية كاريوكا في خمسة عشر عاما من (1935 إلى 1950) عدد خمسين فيلما، لكن دعونا لانتحدث حسب الترتيب الزمني، ونقول أن كاريوكا في فيلم (سمارة) لحسن الصيفي عام 1955 أيضا تختلف تماما عنها كما رأيناها في فيلم (عفريت سمارة) إخراج حسن رضا بعد 4 سنوات، أنها قدرة المخرج رغم أن الشخصية لم تتغير كثيرا، (سمارة) هى النموذج الشعبي للمرأة الجذابة التي يقع الرجال في هواها لكنها تقع في هوي رجل بعينة هو الضابط الذي تخفي داخل العصابة لتي تنتمي اليها.
و(سمارة) تستخدم سلاح الأنثي الفتاك الموجود في طريق أي رجل، فلايوجد رجل تواجد إلى جوارها إلا وفتن بها ابتداء من أزواجها السابقين – ( كانت هنا متعددة الأزواج كما في الحياة) – وتزوجها المعلم سلطان فخانته، وعشقها البيه مهرب المخدرات، وأيضا أحبها الضابط الذي صار سيد أبو شفة، وعليه فقد يكون هناك تناص بين الممثلة والشخصية التي تجسدها أما في الفيلم الثاني – (عفريت سمارة) – فهي شبح جاء من العالم الآخر كي يستحث الحبيب للذهاب إلى هذا العالم، وكانت بالفعل أقرب إلى الشبح.
تحية كاريوكا.. لعبة الست
معذرة! فمن الصعب أن تكون أمامنا كل هذه الشحصيات التي جسدتها تحية كاريوكا دون أن تدفعنا لأستباق الأحداث، ومن هذه الأدوار الفاتنة فيلم (لعبة الست) الذي أخرجه مهندس الديكور ولي الدين سامح عام 1946، وهى هنا الفتاة الصغيرة المسحوبة من لسانها، التي لاتقبل العريس الأكبر سنا الذي تفرضه أسرتها عليها، وبكل جرأة تقبل أن تنام في شقة العاطل الفقير حسن الذي سكن لتوه في شقة خالتها التي لجأت اليها.
هذا الفيلم يمثل مفتاحا للشخصية الفنية التي تمتعت بها تحية كاريوكا، فعندما تعمل وسط فريق عمل متناسق فإنها تكون في أحسن حالاتها، ترقص، وتمثل، وتلقي بـ (تريقاتها) على خلق الله وتملأ الشاشة بالحياة، وقد حدث هذا مع طاقم فيلم (لعبة الست)، فهل هناك ماهو أكثر متعة من اللقاء الأول بين (لعبة وحسن) في غرفته الحقيرة، يناولها (اللبيسة) كي تأكل الزبادي، وهي بالملاية اللف، وهو رجل متقدم في السن يعيش وحيدا بلا هدف، وهى فتاة تلقائية مليئة بالحيوية، تقبل به زوجا بديلا عن (بلالايكا) الثقيل الظل.
وفي كافة المشاهد التي ظهرت بها بدت كأنها تلاعب زملائها بحثا عن الأحسن والأكثر إتقانا، وهل هناك من هم أكثر جاذبية من أبطال الفيلم (ماري منيب، وعبد الفتاح القصري، وبشارة واكيم، وحسن فايق، وعزيز عثمان، وسليمان نجيب).
أبطال مفضلين مع تحية كاريوكا
لذا فإن تحية كاريوكا التي كانت ترقص وحدها غالبا في الأفلام، كانت تمثل مع الآخرين في أفضل حالاتها، ولذا تكرر ظهورها أمام نجوم بأعينهم وعلي رأسهم فريد الأطرش في (أحلام الشباب) 1942، و(ما أقدرش) عام 1946، وأيضا (أنور وجدي، وإبراهيم حمودة، وبشارة واكيم، ومحمد فوزي)، أما إسماعيل ياسين فكان معها دوما، سواء في أدوار صغيرة في الأربعينيات، أو في أدوار البطولة في الخمسينيات، ومنها مثلا: (المفتش العام، وصاحبة العصمة، والست نواعم) وغيرها، وفي هذه الأعمال الأخيرة كانت هى الشريرة أحيانا أوالفنانة أحيانا أخري، لكن ذلك لم يعني أننا كنا نكره أدوارها مثلما كانت (شفاعات)، وفي مرحلة لاحقة تزوجت من رشدي أباظة بشكل عابر وجسدت أمامه دور الحبيبة وهى أكبر منه سنا، في فيلم (سر الغائب) لكمال عطية عام 1962.
تحية كاريوكا.. أم العروسة
سرعان ماخانها تناسقها الجسدي فانتقلت إلى أدوار الأم منها دور أم رشدي أباظه نفسه في فيلم (الطريق) 1964، كما جسدت في بداية الستينيات دور الأم للعديد من النجوم الأقرب لها في السن ومنهم صلاح ذو الفقار في (حب حتى العبادة) عام 1959، وأم سميرة أحمد في (شاطئ الحب، وأم العروسة) وأم نعيمة عاكف في (خلخال حبيبي)، وأم لأسرة كبيرة العدد في (أم العروسة) لعاطف سالم 1961، وبدأت شحوم السمنة تلف نسقها حول جسدها إلى أن بدت مثل السيد قشطة، وهى ترقص أثناء الغارة الجوية في المخبأ في فيلم (خان الخليلي) لعاطف سالم 1966، إلى أن توجت نفسها بما يمكن تسميته ببرميل من الشحم في (خلي باك من زوزو) لحسن الأمام عام 1972.
كي نعرف كيف صارت فعلينا أن نقرأ النص الأدبي في القصة الأولي من مجموعة (البنات والصيف) لإحسان عبد القدوس، حين ترفض الفتاة حبيبها وتهجره تماما بعد أن تعرف أن منافستها في حبه لها ليست ملكة جمال الشاطئ بل هي إمرأة أشبه ببرميل اللحم فشعرت العاشقة بالاشمئزاز أن الرجل الذي يحبها واقع أيضا في غرام برميل بشري، وقد جسدت تحية كاريوكا هذه الشخصية في فيلم (وسقطت في بحر العسل) عام 1977.
تحية كاريوكا.. عصر الحب
الحقيقة أن الممثلة التي صارت برميلا بشريا في الحجم قد جربت العودة إلى الرشاقة مثلما رأيناها في فيلم (نشاطركم الأفراح) إخراج محمد عبد العزيز 1987، وهى تؤدي دور العجوز التي عليها أن تتجمل كي تتزوج من شاب صغير.
نعم كانت تحية كاريوكا مجموعة كبيرة من النساء قي امرأة واحدة، يعجب بها الرجال والنساء من كافة الطبقات، والثقافات والأعمار وهى تنتقل من دور إلى آخر بمهارة، من الراقصة الرشيقة الملهمة إلى كيس الدهن العتيق، ومن الابنة المتمردة إلى الأم المحافظة صاحبة الماضي الثقيل مثلما رأيناها في أفلامها الأخيرة، ومنها (عصر الحب) و(المطارد) وفي الكثير من أفلامها كانت تميل الي أداء دور الفنانة التي نحس أنها انعكاس لما كانت تمثله تحية كاريوكا.
كتب عنها إدوارد سعيد متغزلا في رقصها الإيقاعي