بقلم الإعلامي : أسامة كامل
في الحلقة الأولى من (قصة في ورقة)، والتي تصلح كمسلسل درامي رومانسي بامتياز نابع من قلب الريف المصري، تحدثنا عن بداية العلاقة بين (نبوية) ومحمد حافظ، وتوقفنا عند: وظل محمد حافظ يعمل ويجتهد حتي حدث حدثا غريبا وفوجئ الناس أن محمد حافظ استطاع أن يجلب عربة ثالثة يجرها جوز خيل معتبر، وتستمر الأحداث في الحلقة الثانية على النحو التالي: ويمضي بها إلى السوق تحت منزل نبوية ويشد بيده اللجام وباليد الأخري عجل لباني ثقيل ويبعث إلى منصور الجزار الذي حضر سريعا ومعه صبيانه وأدواته وسكاكينه، وأخد العجل الفتي على حين غرة وأسقطه علي الأرض ملفوفًا بحبال عفية وصبيانه يمسكون اللباني من أطرافه: بسم الله الله أكبر ويجتمع أهل البلد والصبيان والبنات، ويوزع محمد حافظ عليهم اللحم في أوراق صفراء خشنة.
تنظر (نبوية) في دهشة إلى هذا الحدث الغريب وإلى محمد حافظ نظرة أخرى وهو مشدودا مرتبكا تفضحه عينيه ونظراته مبهورا مأخوذًا بهذه الشمس الساطعة التي تطل عليه، وكأنه يشاهد (نبوية) للمرة الأولى، وكأنه يحادث نفسه: وأين كانت عيني وروحي تتعلق فوق رأسي؟، ما هذا الجمال يا الله.. توقف محمد حافظ عن التوزيع والسلام والتحية والمباركة بعضها من القلب والكثير منها حقدا وحسدا، وطلب من إخوته أن يستكملوا التوزيع علي الناس بالعدل واحتجز فخدة كاملة و طلب عدم الاقتراب منها.
واختفي محمد حافظ وذهب إلى منزله وقابلته أمه بالأحضان والقبلات والمباركة والتحيات والدعوات، ودخل إلى الحمام وطلب من أمه أن تسخن له ماء كثير ونظيف، وأن تخرج له غيارا جديدا، كان قد اشتراه لاقتراب العيد الكبير والجلباب الصوف الأسمر المعتبر الذي لم يرتديه بعد، والبالطو الذي اشتراه من المعلم نصر في الشتاء الماضي، وهو بالطو صوف معتبر مهرب من القناة، وحاولت أن تثنيه عن حكاية البالطو خاصة أننا في آخر مايو والصيف بدأ يطل، ولكنه أصر على البالطو والحذاء البني الغالي الذي اشتراه من السوق من فترة ودفع فيه جنيهان بالكامل، وانصاعت الست (أم محمد) لطلبات ابنها ولا تجد سببًا وجيها، ولكنها تقول في نفسها تقول: خليه يفرح.. ده تعب وشقي واشتغل وبني بيتا لي أنا وأخواته، وظلت تدعي وتسمي حتي انتهي محمد حافظ من الدش الذي استخدم فيها زعف نخيل حار وصابون سائل وارد طنطا، و نظر إلى المرأة المكسورة وقرر أن يذهب إلى شعبان المزين ويقص شعره وذقنه ويهذب شاربه.
إقرأ أيضا : أسامة كامل يكتب: أمي وأفلام الأبيض والأسود !
وعند (شعبان) يجتمع الخلان ووكالة أنباء البلد والضواحي، وحكايات من قريب ومن بعيد والعمدة الذي تزوج بعد وفاة زوجته (أم عيد)، والعروس أصغر منه بعشرات السنين من بلد اسمها (النسايمة) وأبوها كان شيخ الصيادين، ويقال إنها طويلة ممشوقة سمراء عفية وشعرها أسود طويل وملامحها مثل نجوم السيما وأسنانها بيضاء ناصعة (خلقة ربنا)، وترتدي ملابس ضيقة تبرز مفاتنها بدون خشى ولا حياء، وأن العمدة قد جلب من الخارج حقن وبرشام له مفعول السحر حتي تحمل منه (أسماء) ويكذب كل (الإشعاعات) التي تنال من ابنه (عيد)، والتي تقول: إنه يعاكس زوجة أبيه حتى لا تكون فضيحة مثل فضيحة (متولي) الذي صرح لبعض الصبيان أنه تعرض للتحرش وهو نائم من عمته (رتيبة) التي مات زوجها من (عمنول)، وطبعا كبرت القضية، فقد صرحت رتيبة أن (متولي) هو الذي اغتصبها وهى نائمة، ثم تركت البلد وسافرت إلى أقارب لها في الأسكندرية، وهناك أقاويل: أنها تعمل في كباريه على البحر وحققت ثروة ضخمة واختفت أخبارها، وظل (متولي) يهيم علي وجهه ويعيش في الدار وحيدا بعد أن تركته وأخواته وتزوجت بعيدا عن البلد ولا يزال يعاني في التعليم، حيث ظل في الإعدادية خمس سنوات، و حواديت لا تنتهي.
لقاء نبوية ومحمد حافظ
محمد حافظ الذي استقبله شعبان الحلاق بترحاب كبير وأزاح الزبون الذي كان يجلس بين يديه والرجل بنصف شعر وشكله عجيب، وصرفه قائلا له: له تعالي بعد المغرب ومجانا، وقفز الزبون فرحا مادام مجانا ونظف الكرسي العتيق، وأجلس محمد حافظ مرتبًا مهندما، وأخرج عدة جديدة جلبها من العتبة خصيصا لأسياد البلد والعمدة وشيخ البلد وشيخ الخفر (الحاج قلشة)، ومبروك ومبارك العربة الجديدة والخيل المعتبر واللحمة كانت شوية من إخواتك يا معلم، إنما الطلة دي يا سي محمد فيها حاجة والنية لله: أنت داخل على باب حلو هههههههه، وابتسم محمد حافظ وامتنع عن الرد، ويستمر (شعبان) في البحث والتحري: يمكن تكون (سامية بنت الحاج برهان).. ناس محترمين والبنت حلوة وصغار ومفيش كلام، ولا يمكن (حبيبة بنت البغدادي).. أبوها وارث قرشين وعنده فدانين شرك مع أخوه بتاع الجاز.
عند إذن استمع محمد حافظ ولا تعليق: يلا يا جماعة اتكلوا على الله، فيه كلمتين مع (سي حافظ)، وخلى المكان سريعا واختلى (شعبان) بالرجل: انت رايد (نبوية بنت الحاج زاهر) يا سي محمد، والله خير ما اخترت، وسيبك من حكاية الحول دي.. هو فيه بني آدم كامل، اتقدم لها ناس كتير من البلد ومن بره البلد ورفضتهم، فهى الحيلة للحاج زاهر ومقدرش يرفض لها طلب، إوعي تعمل حاجة إلا بموافقتها، وهمه هايلقوا أحسن منك فين، وشوية عطر مخصوص وبودرة تلك مكلفاني عشر قروش، هو احنا لنا بركة إلا أنت.
أم محمد حافظ
والله ده كتير.. ربنا يبارك وأي خدمة، وانطلق محمد حافظ إلى الساحة حيث تراصت عربيات والخيل خلع عنها اللجام، وانتهي توزيع العجل إلا ما يخص الأهل والعائلة والأصدقاء والأحباب، وبقيت الفخدة التي أمر بإبقائها وحدها، وخرجت (نبوية) من البلكون تشاهد الساحة ووقعت عينيها على محمد حافظ وهو يرتدي الجلباب والبالطو والحذاء الأجلسيه البني الغالي، وابتسمت ابتسامة ذات مغزى حتي كادت أن تقهقه من الضحك، ودارت وجهها بشال حرير نبيتي قطيفة، ونظر إليها محمد حافظ وهو منتشي وفرح وهائم في خيال خصب، وفي هذه المناسبة لم يكن هناك حجاب ولانقاب، وكانت العلاقة بين الرجال والنساء طبيعية وبلا محاذير ولا حساسية مثل خلق الله في كل مكان.
إقرأ أيضا : أسامة كامل يكتب: محمد جلال عبد القوي .. السيناريست العظيم وأمي!
لم تكن الأفكار السوداء الرجعية قد دخلت الريف وأفسدته وأصبحت كل الأفعال الشنيعة تتم في الظلام الحالك، وسأل محمد حافظ (نبوية) لأول مرة بعد كل هذه السنوات التي أصبح محمد حافظ أمرا واقعيا مثل القهوة وخناقات الشيالين والعربجية الشهيرة ومولد (الشيخ نعيم) الشهير، وصاح محمد حافظ بصوت محشرج مخنوق محرجا: هو الحاج موجود ولم تلتفت نبوية أول الأمر حتي صاح بصوت أوضح: ياست (نبوية)، فنظرت إليه مليا وردت أيوه موجود بس مريح شوية أبعتوه لك؟، قال لايصح أما يفوق عايز أطلع له شوية وردت بحياء: أهلا و سهلا، وفتحت ثغرها المنير والشال الحرير و ثوبها المجسم على جسدها الوردي ودخلت وهى تطيل النظر إلى محمد حافظ الذي نسي الدنيا والناس وسرح بعيدا، وبعد برهة خرج الحاج زاهر أيوه يا سي محمد اتفضل.
في الحلقة القادمة نستمكل باقي تفاصيل (قصة في ورقة) التي تحكي حكاية محمد حافظ ونبوية!