بقلم الكاتبة والشاعرة : مي منصور
في الحلقة الماضية قلت أن ما أكتبه في سطوري ليس دفاعاً على الإطلاق عن شخص الشاعر الكبير عبد الرحيم منصور، لأنه لا يحتاج مني ولا من غيري هذا، وتعرضت لبعض من سيرته الذاتية حول تاريخه الطويل الملئ بالنجاحات والعلامات والأغنيات التي نرددها ليل نهار، ومواقفه الإنسانية مع كل من حوله، مع من يعرفه ومن لا يعرفه تشهد وتتحدث عنه إلى قيام الساعة، وفي هذه الحلقة أستكمل خواطري عن أغنيات وشعراء ومطربون في حياة الراحل العظيم.
عبد الرحيم منصور وأم الصابرين
تحولت أغنيات عبد الرحيم منصور وبليغ حمدي، أثناء العبور العظيم 1973 إلى أنشايد يرددها الجميع احتفالا بالنصر وكانت أغنية (أم الصابرين) التى غنتها (شادية) نقلة مهمة فى مسيرة عبد الرحيم منصور:
من دهبك لبسني العقد حبيبي
من نيلك سقاني الشهد حبيبي
من قمحك وكلني اللقمة حبيبي
من صبرك علمني الحكمة حبيبي
يا مصر يا امنا، يا مصر يا ارضنا، يا مصر يا حبنا
يا مصر يا عشقنا)
وهذا تماماً ما كان يحلم به عبد الرحيم منصور، أن كلماته تتغنى بها الشعوب وتصبح أيقونات الحب والشوق والحرب والنصر والتفاؤل والسلام، كانت ملامحه كلها تنطق حب وأفعاله لم يكن بحاجة للحديث عن الحب..
الحزن لم يعرف طريق عبد الرحيم، وعبد الرحيم لم يعرف له طريق، (الحياة للحياة)، وتلك كانت أشهر جمل عبد الرحيم منصور، وأنت تتحدث معه ستجده يقول لك وسط الكلام بكل عفوية (الحياة للحياة) على أي شئ، كانت بمثابة رد لأي جملة.
عبد الرحيم منصور وحداد ونجيب
كان معروف عن شاعر العامية العظيم فؤاد حداد عزوفه عن سوق الأغانى التجارى، ولم يكن يسمح لأحد التغنى بأشعاره، وهو ما لم يمنحه – فى ظل تجاهل إعلامى – شهرة الشاعر صلاح جاهين مثلاً، فقبع فؤاد حداد متوارياً عن الأضواء ولم تخرج أشعاره عن دائرة المثقفين من حوله!
هنا كان لنا أن نذكر موقف أورده الشاعر مجدى نجيب فى أحد كتبه قائلا : (أقنعنى عبد الرحيم منصور بأنه لابد لشاعرنا الكبير فؤاد حداد من دخول مجال الأغنية لكى يعبر غيبوبة الإعلام عن مبدعيه، ويومها اخترنا له أقرب موقع للغناء المحترم الذى يراعى ذوق المستمع ويرقى به من خلال صوت المطرب محمد منير، وبألحان أحمد منيب.
قلت لـ عبد الرحيم منصور ونحن نهبط سلالم منزل فؤاد حداد: يا صديقى ما الذى فعلناه؟، إن فؤاد حداد شاعر عملاق .. وكلنا خرجنا من عباءته، فكيف دفعناه للموافقة ونحن نعرف وسط الغناء الملئ بالسوء.
قال: وماذا استفاد هو بخروجنا من عباءته وأنه أستاذنا ها نحن نقرأ أشعاره فى لهفة واستمتاع ، بينما هو قابع فى بيته بعيداً عن الناس .. لا يعرفه غير المثقفين، والحكومة تصادر الأشعار، بينما الأغنية لا يمكن أن تصادر، ومن خلالها يمكننا قول ولو جملة واحدة مفيدة للمستمعين وإسعادهم بدلاً من الأغانى التي تشيع الإحباط وتجعلهم يكرهون حياتهم وقد كان مولد أغنية فؤاد حداد (الليلة يا سمرة)، وهى من الأغانى التى حققت شهرة واسعة فى مجال الأغنية.
وهكذا أقتطف محمد منير وأحمد منيب ومعهم عبد الرحيم منصور بعض الأبيات من قصيدة (الليلة يا سمرا) المنشورة فى ديوان (رقص ومغنى) لفؤاد حداد رغم أن كان معروف عن فؤاد حداد عدم سماحه لأحد بإقتطاف أبيات دون أخرى فى قصائده!، وهكذا ولدت (الليلة يا سمرا) ولازال يذكر من حضر فترة الثمانينات الشهرة الواسعة التى حققتها تلك الأغنية فى مصر وخارجها، وأصبحت ألحان الأغنية التى وضعها الملحن النوبى احمد منيب ووزعها موسيقياً العبقرى يحيي خليل وفرقته تصدح من كل مكان تقريباً وقتها.
هكذا ربح الشاعر عبد الرحيم منصور الرهان، وخرجت كلمات فؤاد حداد من دائرة ضيقة جداً إلى الإنتشار الواسع وأكسبته الأغنية قاعدة جماهيرية عريضة.
عبد الرحيم منصور وفيلم رشدي
في العام 1977 تعاون عبدالرحيم منصور مع الكاتبة (سنية قراعة) والمخرج نور الدمرداش، وقدما المسلسل التليفزيوني (مارد الجبل) الذى يعد أحد كلاسيكيات ماسبيرو وكتب عبد الرحيم منصور الحوار والأشعار للمسلسل، وكان بطولة (نور الشريف، محمود المليجي)، كما قدّم العديد من الأغنيات في فى السينما بدأها في العام 1968 بفيلم (عدوية) للفنان محمد رشدى وكتب له أغنية (ما على العاشق ملام)، وفى عام 1976 قدم عدد من أنجح أغنيات فيلم (مولد يا دنيا) مع الملحن بليغ حمدى والمخرج حسين كمال عن قصه يوسف السباعى .
وفي العام 1985 قدم عبد الرحيم منصور مع المخرج عاطف الطيب، وكتب سيناريو وحوار وأشعار فيلم (الزمار)، وشاركه في كتابة السيناريو السيناريست رفيق الصبان، ووضع الموسيقى التصويرية للفيلم بليغ حمدي، بطولة نور الشريف، صلاح السعدني، بوسي، ومحسنة توفيق.
عبدالرحيم منصور والمطربين
كتب عبد الرحيم منصور أغنيات لمعظم الأصوات المصرية منها (عبد الحليم حافظ، نجاة، فايزة أحمد، محمد قنديل، محمد حمام محمد نوح، عفاف راضى، وشادية) وغيرهم، وكان له الفضل فى تقديم التجارب الأولى لكل من (على الحجار) فى أغنية (على قد ما حبينا) وعمرو دياب الذى قدم له (ياطريق يا طريق) و(قلوع) كما قدم لكل من سميرة سعيد، وأنغام ومدحت صالح، وهانى شاكر، ووليد توفيق، وآخرين.
وكل شئ بينسرق منى
العمر ما الايام
والضى ما الننى
وكل شئ حواليا يندهلى
جوايا بندهلك
ياترى بتسمعنى .. فينك
عبدالرحيم منصور ومنير
تمثل تجربة الشاعر عبد الرحيم منصور مع الفنان محمد منير هى الأبرز فى مسيرة كل منهما فيرجع الفضل لمنصور فى تقديم (منير) ومساندته فى بداياته فكان يجوب به جميع أماكن الصعلكه وفى جلسات المثقفين ويرى فيه الجديد القادم من الجنوب لتجديد دماء الأغنية وخروجها من مأزق التكرار لتكون أقرب للناس وحياتهم اليومية كما ظل يتعامل بروح الأب وقدمه للملحن (أحمد منيب) حيث شكل الثلاثى أهم تجربة خلال منذ الثمانينيات حتى الآن .
قدم هذا الثلاثى عشرات الأغنيات التى حملها صوت منير لتكون مشروعا فنيا مغايرا للسائد ثائرا على النمطية فى مفردات الأغنيات واللحن وطريقة الآداء.
كام عام ومواسم عدوا
وشجر اللمون دبلان على أرضه
فينك .. بينى وبينك
أيام وينقضوا
شجر اللمون دبلان على أرضه
قدم عبدالرحيم منصور مع منير (شجر الليمون، واتكلمى، الحقيقة والميلاد، ، الكون كله بيدور، أمانه يا بحر، برئ، بنتولد، أمانه يا بحر، حاضر يا زهر، حدوتة مصرية، يا ليله عودي تاني، شمس المغيب، ضل الطريق، في عنيكي، قول للغريب، ع المدينة، عروسة النيل، عطشان، علموني عنيكي، عنيكى تحت القمر)، وجميعها تعبر عن حالة الغربة وأوجعاها.
عبد الرحيم منصور.. حدوتة مصرية
كأن الثلاثى عبد الرحيم منصور، أحمد منيب، محمد منير، يجمع بينهم ذات الإحساس بالغربة وربما الوحدة، وتبقى الحدوتة المصرية هى الأروع والأخلد والأعظم من بين كل ما كتب عبد الرحيم منصور ولحن منيب، حيث أوصى المخرج يوسف شاهين بكتابة كلماتها على قبره.
لا يهمني اسمك
لا يهمني عنوانك
لا يهمني لونك
ولا بلادك
مكانك
يهمني الإنسان
ولو ملوش عنوان
ياناس يامكبوتة
هي دي الحدوتة
حدوتة مصرية.
رحيل عبد الرحيم منصور
رحل عبد الرحيم منصور في هدوء وفجأة بعد أن قضى سهرته بمنزل بليغ حمدي، عاد إلى بيته طالباً من زوجته أن تدعه يستريح، وما هى إلا دقائق حتى راحت زوجته تصرخ في التليفون لبليغ حمدي وعبد الرحمن الأبنودي، رثاه الكثيرون من بينهم فؤاد حداد الذي كتب يقول:
عبد الرحيم ما راحش من بالى
الليل عتر فى الشمس قايمه لى
على حيلها لا بتقعد ولا بتمشى
والدمع ما بيسقطش من وشى
ولا خد ميزان الخير على غشى
ولا خداعى
ولا عاتبنى وقال مافيش داعى
والليل عتر فى الشمس بالصدفه
القاهره فى ديل المعزيين
يوم ما الحبايب يشبهوا المعازيم
وعساكر البلديه والتنظيم
بيشيلوا بالقفه
عيونى وعيونك يا عبد الرحيم
حفظنى دور الأوله بتحلم
وآخر ما كتب منصور قبل رحيله بيوم واحد:
سقفة للغريب
سقفة راجع عن قريب
سقفة للحبيبة
سقفة راجعة للحبيب
سقفة للنصيبة معاندة وابتسم النصيب
سقفة للإنسان ابو الإنسانية.
800 أغنية لعبد الرحيم منصور
أثناء جمعى كلمات عبد الرحيم منصور كنت أشتم رائحته تملأ الأرجاء حولى، دائما أشعر أنه يربّت على كتفى بحنان دافق ويضيء خطواتى بالأمل، عبد الرحيم منصور الشاعر الكبير الذي تعاون مع أكثر من 60 ملحن وكتب أكثر من 800 أغنية هذا العدد الذي قدرت على جمعه ولكن هناك أكثر بكثير في الإذاعة والكاسيت، يظل نخلاً عالياً شامخاً مهما حاول أحدهم التشويش بأي حديث يذكر.
بائع القناديل وعاشق البحر ومحب الحياة.. لم ولن يموت.. إنما يظل دائما وأبدا يملأ الدنيا غناء وفرحة، وتظل الإنسانيه ضمير غائب حاضر تقديره عبد الرحيم منصور.