بقلم : سامر عوض
عرفت نضال سيجري حين التقيت به ثلاث مرات بشكل عرضي بسنوات مختلفة عديدة، منذ سنة 2002 إلى 2008، وترك نضال في نفسي انطباعاً عميقاً، وعندما تابعت (ضيعة ضايعة) أدركت أكثر سبب انجذاب الناس له.
عندما كنت أتابع مشاركة نضال سيجري بضيعة ضايعة، كنت انتبه عند قيامه بمشهد صعب جسدياً، ما إذا كان هذا المشهد المتعب في الجزء الثاني، الذي تم تصويره في غضون إصابته بالسرطان؛ قلقاً عليه.
أسعد هو دور دخل التاريخ الكوميدي العربي إلى انقضاء الدهر. أحترم جهد الجميع الملموس وشغفهم وتعبهم لتقديم الأفضل، لكن نضال يجري غير شكل، ليس ذلك تطلباً لأنه مات؛ بل رد جميل لهذا الانسان المقدام التقدمي الرهيب، الذي قدم طاقة حب للعمل، والعاملين، والذين دار بفلكهم من متفرجين ومنفجرين ضحكاً لروعة مشاركاته وبكاءٍ على فراقه.
دفن جسد نضال سيجري
عند دفن جسد نضال سيجري النحيل المنهك، كان ذلك اليوم الأصعب الأكرب الأقصى الأكثر حزنا في حياتي، وهو الذي أضحك الملايين بحياته، وأبكاهم في مماته، من حق الطبيعة أن تطلبه، ومن حقي ألا أفهم.
مجتمعياً: لو كان هذا البطل بيننا، لما كانت الوطأة كذلك، نضال سيجري أسهم في إطفاء ألهبة، وكانت الهبة واضحة، كم احتاجت سوريا من اجتاحها بحبه كهذا الإنسان، هو خلق ثقافة الحب المجردة، اليوم بعد 7 سنين ونيف صار ما صار داخلاً وخارجاً، لكن عدنا الى مقولته (الحب هو الحل… الحب هو الخلاص).. أشعر بالقحة في الحلق، عندما أبحث عن مثيل لشغفه بيننا.
بلدنا ولّادة لكن لمست نضال سيجري غير، جعله الرب فناناً حقيقياً وهو في رحم أمه؛ ولم يزل مع أنه سكن رحم الأرض منذ تسع سنين، وحتى اليوم عندما أنشر على قناة اليوتيوب عنه أتفاجىء من كم الاهتمام والترجمة بالترحم الصادق على روحه الحلوة.
نضال باقٍ لأعماله وبأعماله. للغياب أهله وهو ليس منهم، وللغرب شارلي شابلن، وللشرق نضال سيجري، وبينهما عدد غير متناهي من التجارب، التي يصل منها إلى بر الأمان يكون ممن رحم ربي.
نضال سيجري هو طاقة حقيقية من الحب الواعي الواعد للوطن وأبنائه.. ذكراه حاضرة في ويليام وآدم شمعتيه، وأعمالٌ راسخة ورسالة راجحة يستحيل أن يذوب ضياؤها؛ لأن الخلود حليفها.
اللاذقية.
نضال سيجري الفذ الساحر
خانه وطنه، فلم يتحمل الممثل السوري نضال سيجري (48 سنة) الفاجعة، لم يتحمّل الممثل الفذ الساحر المعجون بالأمل والفرح، مشهد الموت الوري المتكرر، بح صوته وهو ينادي أبناء وطنه لإنقاذ (أمنا العظيمة سورية) والاتحاد ضد التقاتل وهدم البلاد، لكن النداء راح هباء منثورا كما لم يخيل أحدا.
حلم نضال سيجري في العيد بأن يبدأ جميع السوريين بإعادة البناء، وهدد إن لم تخرج بلاده من وجعها سيذهب إلى الموت، إلى حيث يرقد مئات السوريين الأبرياء الذين أردتهم المدافع والمحاصصات السياسية والجشع والفساد وتقسيم البلاد.
ثلاث سنوات من المعاناة قضاها نضال سيجري مع السرطان، الذي سرق حنجرته الهدارة القوية الصارخة في وجه التقسيم والتهديم وحرق البلاد، لم ييأس فيها ابن اللاذقية وصديق البحر، لكن ازدحام الموت في بلاده أتعبه. عدم استجابة أهل الأرض لنداءاته بالمسامحة والسلام والتحاور وترك السلاح أدخله في نفق العتمة، التي آثرها على شمس الحرب والخطف والاغتصاب والجوع والتشرد.
من سخرية القدر أن يضرب الموت موعده مع نضال سيجري تشارلي شابلن العرب في اليوم الثاني من شهر رمضان، وهو الذي أطل عليهم فيه منذ سنتين في مسلسل (ضيعة ضايعة) برفقة باسم ياخور، ليحول همومهم إلى قهقهات لا تنتهي.
من المؤكد أن صوت نضال سيجري (أسعد) الهادر والمبحوح لن يغيب عن آذان محبيه، ومن المؤكد أن تميزه في أدواره ودقته في تجسيدها وجهده المضاعف في صناعة شخصياته الفذة والقوية والفريدة، لم ترحل معه، بل هى خالدة، فالفنان المبدع الذي أضحك الناس وسلاهم وتناول همومهم ومعاناتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أعماله، لا يليق بفنه الموت، بل هو خالد.
نضال سيجري إبداع باق
تذهب روح نضال سيجري إلى خالقها ويفنى جسده، لكن إبداعاته تبقى في ذاكرتنا الجماعية، وفي أرشيفنا الفني لينهل منها من سيأتي بعده.. بكاه جمهور واسع ومتنوع من مختلف الدول العربية، وغصت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بالجمل الآسفة لرحيل فنان مبدع وفريد من نوعه، وبعبارات ملؤها الحب والاحترام والفقدان، سواء من الفنانين أو من المشاهدين وأصدقاء المسرح.
اللاذقية الغافية على خدّ البحر، الذي كان صديق نضال سيجري الصدوق، ودّعته أمس وداع الأبطال الأوفياء الغيورين على مصلحة بلادهم.
بكاه البحر كاتم أسراره، وحارات المدينة (اللاذقية) التي ترعرع فيها، ومسرحها القومي الذي شهد أولى خطواته المتميّزة، وأصدقاؤه ومحبوه وولداه وليام (8 سنوات) وآدم (6 سنوات)، هناك في أزقة اللاذقية، التي تعلّم فيها كرة القدم، وحلم بأن يكون قبطانا يسافر ويكتشف الحضارات، وحول الملعب إلى خشبة خضراء لصالح المسرح الطلائعي، ووري في الثرى.. رحمة الله على نضال سيجري الفنان والإنسان الذي عشق تراب وطنه.