بقلم الإعلامي : علي عبد الرحمن
ما أن وصلت إلي عمر الستين عاما حتي وجدتني أتحسر علي أزمنة جميلة مضت كان فيها إعلامنا الأكثر ريادة، أو بمعنى أصح كان إعلام الستينيات هو الأجود محتوى والأهم تأثيرا والأروع في خدمة قضايا وطنه والأول في دعم قوي مصر الناعمة، فقد قدم ثورة غنائيه صاحبت سنوات التحرر في مطلع الستينات، وأوضحت لشعب مصر أهداف ثورته ومستقبل وطنه، قدمت سجلا لمراحل بناء السد العالي، ودعمت مسيرة التعليم وأعلت قيم الفلاحة والزراعة آنذاك، وتركت لنا تراثا غنائيا ثوريا باق حتي الآن.
إقرأ أيضا : علي عبد الرحمن يكتب: (كله حصري × الإعلام المصري)!
ثم حث إعلام السينيات وأغانيه الشعب على الجهاد والفدائيه حتي تحرير كامل الأرض وقد كان كما جسد الفن والاعلام انتصارات اكتوبر 1973 بعد مراحل الثورة والبناء والتضحيه، وصاحب كل حدث بعد ذلك في تاريخنا المعاصر رسائل إعلاميه واعيه ومحتوى جيد هادف وبرامج تثقف وتنور وتعلم، حتي أصبح التليفزيون وسيلة هامه للأسر للتنشئة والتعلم والتثقيف والإخبار ودعم الولاء والإنتماء والحفاظ علي قوي مصر الناعمة وريادتها.
إعلام الستينيات في مصر
وساهم إعلام الستينيات في مصر آنذاك في دعم قضايا التعليم والابتعاث والبناء ودعم الزراعة ومؤسسات الدولة، وكذا تقديم صحيح الدين من شيوخه ومختصيه، وكان إعلام الستينات وما تلاها حتي بداية الألفية الثالثة إعلام وطني، مسئول له أهداف، وله خطط، وله خبرائه، وله لجانه المتخصصة، وله مضمون راق،وله ريادة طاغية، حتى أننا وحتى الآن نعتمد على ما أنتجه من أغان وطنيه وأغان تنموية وبرامج تنويريى ودراما متنوعة عالية المستوي، ومواد مناسبات مازلنا نستعين بها في مناسباتنا الدينيه والوطنيه والاجتماعيه مثل مواد رمضان، ومواد ذكرى الثورات وأحداثنا التاريخية، وحتي عيد الام والربيع وعيد الفلاح وغيرها هلا من إنتاج العصر الذهبي للإعلام المصري.
إقرأ أيضا : علي عبد الرحمن يكتب: قلق أهل مصر، وانعزال الإعلام!
وكان إعلام الستينيات في تلك الفترى وسيلة سباقة لنشر اللهجة المصرية في بقاع العالم العربي ودعم الرغبة في التعليم والتداوي والسياحه في مصر، ودشن مع الأزهر والكنيسة والفن والكتاب أذرع قوي مصر الناعمه التي ظلت تاجا علي روؤس من حولنا بفضل الإبداع المصري الرائد حينها، كما قدم إعلام تلك الفتره عمالقة الفكر والفن والأدب والدين في برامج مازالت من كنوز مصر الإعلامية مثل حلقات د. طه حسين ويوسف إدريس ولقاءات عبد الرحمن الشرقاوي وحديث شيوخ الأزهر ولقاءات ثومة وحليم وفريد وعبد الوهاب، كما قدم إعلام تلك الفترة نجوما عربا انطلقوا من مصر مثل صباح وورده وعليا التونسيه والأطرش وبلان، ونشر أصواتا أخرى كالصافي وفيروز وسميره توفيق والدوكالي وغيرهم.
إعلام الستينيات قبلة العرب
وأصبح إعلام الستينيات من تليفزيون واذاعة وسينما مصر هو قبلة كل العرب ليل نهار وأصبح كل من ظهر على شاشاته أو تكلم عبر أثيره نجما يشار إليه بالبنان أينما حل، كل ذلك كان مع فقر الميزانيات وقلة التقنيات وندرة الشاشات وصعوبات التواصل، ولكن كان لدينا إعلاما منتج واعيا، رائد قدم لمصر وأهلها ما وجب عليه تقديمه، أما إعلام هذه السنوات الأخيرة ورغم التشريعات ورغم المجالس والهيئات والنقابات ورغم الخبراء والكليات، ورغم الإسراف في الميزانيات ورغم تفجر تكنولوجيا المعلومات، ورغم الدعم المتنامي له، ورغم عصر التواصل المذهل، ورغم استهداف قوانا الناعمة ورغم مناشدة القيادة والحكومة والشعب ونوابه والخبراء والمختصين.
إقرأ أيضا : علي عبد الرحمن يكتب: صناعة الإعلام بين التدريس والتدريب والممارسة
رغم كل ذلك فإعلامنا على عكس إعلام الستينيات، منعزل، متقوقع، مركزي، مسطح، فارغ، مسرف، مهرول خلف التفاهات، منبطح تحت وسائل إعلام حديثة العهد بالبث، لا ينافس، أو لا يجود ولا يقدم شيئا جيدا لاستعادة قوانا الناعمة، كما انه إعلام أجوف بلا خطط ولا أهداف ولا إراده، ولا تنوع ولا تجويد، إعلام غاب عنه صناع المحتوي واختفي معه التنوع المطلوب والتنافس المنشود، وبعد كثيرا عن صناعة الأحداث من منتديات ولقاءات وندوات ومهرجانات وتبادل خبرات وابتعاث وتدريب وتطور تقني ومحو الأمية المعلوماتيه للقائمين عليه في عصر التحول الرقمي والجمهوريه الجديده!!!
إعلام يخاصم إعلام الستينيات
هذا الاعلام الذي يخاصم إعلام الستينيات، أصبح اللاهث خلف الملاسنات وأخبار الفضائح وأعمال السحر والشعوذة، المنشغل بالطبخ الذي يستفز أهله، والغائب عن إنجازات الوطن وتحدياته، المختفي عن بقاع مصر ومحافظاتها، المنشغل عن ملفات الوطن والصراعات من حوله، الغارق في تجاربه الفاشلة، ومحاولاته الخائبة، ونفقاته غير المعقولة ومحتواه الضعيف الفارغ، ودراماه المسيئة للوطن وأهله، فشعب مصر غير شعب الدراما، ومجتمع مصر يغاير مجتمع الدراما وأخلاق وقيم مصر لاعلاقة لها أبدا بما تقدمه الدراما.
إقرأ أيضا : علي عبد الرحمن يكتب: قلق أهل مصر، وانعزال الإعلام!
هذا الاعلام لم يواكب إنجازات الوطن فما تحقق كثير ومايقدمه الإعلام تقزيم لما تم إنجازه، وهو لم يقم حوارا بين طوائف أهل مصر، ولم يتجول بين ربوعه لينقل هموم وتطلعات أهله، وقد أغفل قرى الوطن وأطرافه، لم يدعم تعليما أو يقدم تطورا أو يشجع سياحة أو يوثق لرموزه، لم ينافس ولايقوي علي ذلك، ولم يعر تراجع قوتنا الناعمة بالا، ولم يقدم محتوي متنوع لكل شرائح الشعب، وأغفل الشباب والدين والثقافة والتكنولوجيا والأسرة والريف وأبنائنا في الخارج، وأغفل دراما التاريخ والدين والمجتمع، وأساء لتاريخنا الإعلامي ولقدراتنا الإعلاميه ولمحتوانا الجيد المتنوع ولبعضا من فئات الشعب، ولم يرضى عنه قائد أو حكومة، ولا نائب ولا شعب، ولا خبراء ولا مختصين.
إعلام قتل الإبداع وهجر التنافس ونسي التجويد وأغلق أذنيه وارتدي نظارة سوداء علي عينيه وتحصن في مكاتبه وأدار ظهره لشعبه ووطنه، ويبدوا أنه نسى الإعلام ومهامه ودوره وتنوعه ومستواه والوطن وأهله، نحن لهذا نبحث عن إعلام تاني خالص – على غرار إعلام الستينيات – ليس مثل إعلام من حولنا بل ويفوقه لأننا نستطيع بما لدينا من خبرات وكوادر وأفكار قتل معظمها إعلام اليوم المتقوقع، المتخاذل، المسرف، والذي يلزمنا إعلام غيره لمصر وأهلها وتحيا دوما مصر.