بقلم : محمد حبوشة
لم أكن أتمنى أن تكون تلك نهاية محمد الجوادي ، صديقي وصديق كل صحفي ومفكري وسياسي ومثقفي مصر، وهو المفكر الموسوعي الذي التقيته كثيرا في مكتبي بمجلة (الأهرام العربي)، وكنا نتحاور كثيرا حول هموم وقضايا هذا الوطن قبل أن ينحرف عن المسار ويسلك سلوك الأرنب البري الذي قفز بنفسه من قمة شاهقة فاصدم بجدار صخري، في تحول عجيب وغريب نحو النظام الإخواني ويكون نجم فضائياته المغرضة، ليلقى نهاية مأساوية بعيدا في غربة المجهول عن وطنه الأم مصر التي كرمته كثيرا في عهد الرئيس الراحل حني مبارك.
نعم كرمت مصر محمد الجوادي، واحتفت به في عديد من المحافل الثقافية لقدره الكبير كأديب وباحث في التاريخ ألف أكثر من 140 كتاب في مختلف القضايا الوطنية والإنسانية والسير الشخصية لرموز الحركة السياسية خلال المائة سنة الأخيرة، وربما أبرزها أن توجت مسيرته بوضعه كعضو في مجمع اللغة العربية لينال خلود عظماء تلك اللغة، ونال عدة جوائز من بينها جائزة الدولة التقديرية عام 2004، وجائزة مجمع اللغة العربية عام 1978، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1985، وكذلك جائزة مجمع اللغة العربية عام 1978 عن كتابه (الدكتور محمد كامل حسين عالما ومفكرا وأديبا)، وجائزة الدولة التشجيعية في أدب التراجم عن كتابه (مشرفة بين الذرة والذروة).
غزارة إنتاج محمد الجوادي
وعلى الرغم من اختياره الخاطئ في حق هذا الوطن فلا ننكر عليه حقه فقد عرف محمد الجوادي بغزارة إنتاجه، وله عشرات الكتب في الأدب والتاريخ، وترأس تحرير مجلة طبية مصرية، وعمل مستشارا للهيئة العامة للاستعلامات لموسوعة الشخصيات المصرية، ومستشارا لدر الشروق المصرية، وأصدر موسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، واهتم محمد الجوادي بسير وتراجم العلماء الأطباء، ومن كتبه (الدكتور نجيب محفوظ رائد أمراض النساء والتوليد، والدكتور سليمان باشا عزمي أول أطبائنا الباطنيين، والحكيم الجراح.. سيرة حياة د. محمد عبد اللطيف)، وكتب محمد الجوادي أيضا عن شيوخ وعلماء القرن الـ 20 مثل محمد عبده وشيخ الأزهر التونسي محمد الخضر حسين، وعن سير القادة العسكريين مثل كتابه عن القائد العسكري المصري عبد المنعم رياض والمشير أحمد إسماعيل وعبد اللطيف البغدادي وغيرهم، وله كذلك كتب في مناهج التعليم والفكر التربوي والأدب والثقافة والصحافة والسياسة.
عرفت الدكتور محمد الجوادي، منذ أكثر من 30 عاما ولمست فيه الإنسان النبيل، والعالم الكبير، والمؤرخ الأمين، واللغوي المبين، والمفكر السياسي النابغة، والأديب الناقد البصير، الذي جمع إلى ذلك أستاذيته في علم الطب تخصص القلب والأوعية الدموية، وكان له اطلاع واسع على الفلسفة والحضارة والفقه والتشريع والقوانين والدساتير والأدب نثرا وشعرا، وبرع من الأواخر في فن التراجم للأعلام، كما برع الإمام الذهبي في الأوائل؛ فكان موسوعة علمية تاريخية حضارية متحركة على الأرض.
ولد محمد محمد الجوادي عام 1958 في مدينة فارسكور التابعة لمحافظة دمياط بجمهورية مصر العربية، وهى مدينة من مدن التاريخ المصري القديم؛ تحوي معالم أثرية، منها جامع الحديدي، وفي عام 1975 حصل الجوادي على شهادة الثانوية العامة من مدرسة المتفوقين الثانوية في عين شمس بالقاهرة، في عام 1985، ثم حصل على درجة ماجستير في أمراض القلب، برسالة عن (مذيبات التخثر كمذيبات للاحتشاء القلبي الحاد)، وفي عام 1990 نال شهادة الدكتوراه في أمراض القلب والأوعية الدموية، برسالة عن (تقييم أبعاد ووظائف القلب في المسنين)، وهو زميل زائر في أمراض القلب والأوعية الدموية، كليفلاند كلينيك، أوهايو بالولايات المتحدة منذ عام 1991؛ حيث تعد مؤسسة كليفلاند كلينيك من أفضل 3 مستشفيات في الولايات المتحدة الأميركية، ويحتل مركز القلب بمؤسسة كليفلاند كلينيك المرتبة الأولى على امتداد 11 سنة متتالية كأفضل مركز لجراحة القلب في المستشفيات الأميركية.
نبوغ محمد الجوادي المبكر
الطالب محمد الجوادى (دفعة 1975)، هو صاحب أشهر تصحيح في تاريخ الثانوية العامة، حيث جاء في امتحان الثانوية سنة 1975 سؤال في النحو على الصيغة التالية: استبدل (كان) بـ (إن) في الجملة التالية، وغير ما يلزم: (كان العاملون مجتهدين)، فكتب الطالب محمد الجوادى في ورقة الإجابة: هذا السؤال خطأ!!، لأن الباء (تدخل على المتروك)، وكان من الواجب أن يكتب السؤال على الصيغة التالية: استبدل (إن) بـ (كان) وغير ما يلزم!، ووجدوا فى الكونترول أن هذا الطالب من مدرسة المتفوقين بعين شمس، فكان الأساتذة في هذه المدرسة يفخرون بذلك!
حاز محمد الجوادي لنبوغه المبكر عضويات في مجامع وجمعيات كثيرة، ومن ذلك:
مجمع اللغة العربية بالقاهرة (مجمع الخالدين)، وهو أصغر من نال عضويته، والمجمع العلمي المصري، واتحاد كتاب مصر، والمجمع المصري للثقافة العلمية، ومجلس الثقافة العلمية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، ولجنة الثقافة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة، وجمعيات تاريخ العلوم، وإحياء التراث العربي الإسلامي، وجمعية أطباء القلب المصرية، وعضو مجلس إدارة المكتب العربي للشباب والبيئة، بالإضافة إلى أن كان عضو مجلس إدارة مؤسس لدار جامعة الزقازيق للنشر (1989-1994)، ومجلس إدارة مطبعة جامعة الزقازيق (1988-1994)، كما شغل منصب مدير مركز الإعلام والنشر الطبي بجمعية الأطباء الشبان (1985-1990).
وأسهم محمد الجوادي، في قيادة القوافل العلاجية لجامعة الزقازيق (1980-1981)، وكان رئيسا مؤسسا لنادي جامعة الزقازيق للشباب والعلوم والبيئة (الزوكي)، ثم تولى الإشراف عليه (1980-1985). بالإضافة إلى عشرات الميداليات والدروع والفخريات التي حصل عليها لنشاطه الدائم والمستمر في مجالات العلم والمعرفة، وحصل الدكتور محمد الجوادي على أنواع من التكريمات والدروع والميداليات والألقاب والكؤوس والعضويات الفخرية بلغت 44 تكريما وجائزة، نذكر منها فقط: جائزة محافظة دمياط 1970-1973، وجائزة محافظة القاهرة 1975 في التفوق في القرآن الكريم 1975، وجائزة جامعة القاهرة للمقال 1977.
محمد الجوادي وحقول المعرفة
استطاع الجوادي أن يسهم في كل هذه الحقول المعرفية التي تمكن من معرفتها، وكأنه متخصص في كل حقل منها، فأسهم في الإشراف على برنامج للتعليم الطبي والتعريب في مؤسسة أكسفورد للموارد التعليمية، وتدريس مقرر الصحافة المدرسية، وتأسيس قسم الإعلام التربوي بكلية الآداب جامعة الزقازيق، وترجمة المقالات الطبية لمجلة “العلوم”: الترجمة العربية لمجلة “ساينتيفك أميركان”. (1988-1996).
كما أسهم في أنشطة علمية دولية من أهمها عضويته في الجمعية الأوروبية لأمراض القلب، وفي لجنة مجلس البيئة البريطاني لصياغة تقرير مستقبل البيئة وفي منتدى سالزبورج، وهو أيضا مقرر لجنة التلوث بالضوضاء في المنظمة الدولية للشباب آي واي إف (IYF)، وله مشاركات واسعة في أعمال علمية ثقيلة الوزن، مثل: موسوعة أعلام الفكر الإسلامي عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (2002-2004)، وموسوعة الشخصيات المصرية عن الهيئة العامة للاستعلامات (1985-1993)، وموسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين، عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وقاموس الأدب العربي عن الجامعة الأميركية، وموسوعة الكويت العلمية للأطفال، ومعجم المصطلحات التاريخية الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 2011، والموسوعة الإسلامية العامة عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وموسوعة الحضارة الإسلامية عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وموسوعة الشروق، وموسوعة المفاهيم الإسلامية، وموسوعة آل البيت عن مؤسسة آل البيت، وموسوعة أعلام المصريين في القرنين 19و20 مع مكتبة الأسكندرية (2004-2011).
كتب الدكتور محمد الجوادي كتبا وبحوثا في مجالات متنوعة، تجاوزت هذه المؤلفات 140 مؤلفا في مجالات وحقول معرفية متنوعة بلغت 10 مجالات: أولا: في تاريخ العلماء وتراجمهم وتاريخ العلم، ألف 13 كتابا، ثانيا: في تاريخ الفكر الإسلامي، ألف 11 كتابا، ثالثا: في تاريخ الحقبة الليبرالية، ألف 19 كتابا، رابعا: في تاريخ العسكرية والأمن وحقبة 1952، ألف 24 كتابا، خامسا: في التاريخ العربي والحوار الإسلامي الغربي، ألف 11 كتابا، سادسا: في تأريخ الحكومة ومناهج المؤرخين، ألف 14 كتابا، سابعا: الربيع العربي والثورة المضادة، ألف 11 كتابا، ثامنا: في تاريخ الأدب واللغة والثقافة والصحافة، ألف 18 كتابا، تاسعا: في الفكر التربوي والتنموي، ألف 15 كتابا، عاشرا: الوجدانيات والرحلات، ألف 6 كتب.
مقالات محمد الجوادي الصحفية
فضلا عن عشرات المقالات التي كتبها محمد الجوادي في الصحف والمواقع والدوريات المختلفة، وكان من أواخر ما أصدر كتابه: (المحققون المتحققون) الذي ضمنه ما كتبه عن أعلام وصفهم بهذا العنوان، ومنهم: محمود الطناحي، السيد أحمد صقر، مصطفى حجازي، محمد شوقي أمين، عبد الكريم العزباوي، عبد الستار فراج، عبد السلام هارون، وآخرون، وكتب إهداء مطبوعا على هذا المؤلف قال فيه: (إلى الصديق الكريم الدكتور وصفي عاشور أبو زيد)، وكان آخر كتاب ألفه في الغربة في قطر عن (المتشابهات فى القرآن الكريم)، وهو موضوع لا يتقن الحديث فيه إلا من عاش مع القرآن بعمق، اختار منه مختارات لمنشورات كان يتابع نشرها على قناته بالتليجرام.
وأصيب الجوادي في آخر حياته بالسرطان، وكانت منشوراته التي يكتبها يطلب فيها الدعاء، ويجأر فيها إلى الله: يطلب العفو والرحمة والمغفرة، ويختمها بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ طمعا في إجابة الأدعية، وكان من آواخر ما كتب على حسابه في موقع تويتر: (أستحلفكم بالله ألا تكفوا عن الدعاء لي بالشفاء بكل ما ترجون من أمل في رحمة الله وفضله وجوده، فقد أضناني الألم، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم صل وسلم على النبي).
رحل هذا العالم الموسوعي وترك غصة في الحلق، وحزنا في القلب، وصمتا مستمرا لذهول قلوبنا ونفوسنا برحيله، لكن عزاءنا أنه ترك تراثه وعلمه وفضله وكتبه التي تحتاج لاهتمام، ودراسة وتأمل، وهو تجربة – على كل حال – فريدة في بابها لما ارتادته من مجالات، وبذلت فيها من جهود، وأعطت فيها من عطاءات، وأنتجت فيها من إنتاج لا يتوفر إلا لأولي العزم من علماء الرجال وقليل ما هم.. رحل وكان يتمنى في آخر مكالمة بيننا أن يعود إلى وطنه وأن يدفن في مصر التي أحباها وعشق ترابها، وأن يغفر له كل خطاياه، ولكن القدر لم يسعفه، ولا نقول إلا: إن لله وإن إليه راجعون.. رحم الله محمد الجوادي وجعل كل كتبه وإبحاثه ومقالاته في ميزان حسناته.. آمين يارب العالمين.