بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
كنت أعد نفسى لكتابة مقال تأخر كثيرا عن الفيلم الوثائقى كليوباترا الذى بثته منصة نتفيلكس بعد أن شاهدت جزأه الأول ، تلك الملكة المصرية قلبا وروحا التي حاولوا اختطافها ونسبتها لحضارة أخرى، ولكن مواطنا مصريا عاديا فرض نفسه على الأحداث، فانشغلت طوال الأيام الماضية ككل المصريين بواقعة استشهاد الجندي محمد صلاح ، التي تمت يوم 3 يونيو، بعد أن قتل ثلاثة عسكريين إسرائيليين، وأصاب آخر حسب الأخبار الأولى التي صدرت عن وكالات الأنباء الأجنبية والتي اعتمدت على الرواية الإسرائيلية التي تقول أن شرطيًا مصريًا تسلل متجاوزًا خط الحدود في فجر السبت 3 يونيو 2023، وباغت الشرطي جندي ومجندة في موقع للحراسة وأطلق عليهما النار من مسافة قريبة ببندقية هجومية فأرداهما قتيلين، ويبدو أنهما فوجئا بالهجوم فلم يتمكنا من إطلاق النار ويرجح أن هذا الاشتباك وقع بين الساعة السادسة والسابعة صباحاً، وذكرت بعض المصادر أنه عندما لم يستجيبا للنداء على أجهزة اللاسلكي بعد بضع ساعات، ذهب ضابط إلى الموقع في الساعة التاسعة صباحاً ووجدهما مصابين بطلقات نارية.
عندئذ بدأت عمليات تمشيط للمكان وحددت طائرة مُسيّرة موقع المهاجم، وتوجهت نحو محمد صلاح قوة عسكرية فوقع تبادل كثيف لإطلاق النار مع المهاجم انتهى بمقتله وإصابة جندي إسرائيلي بجروح خطيرة، نُقل على إثرها إلى المستشفى حيث توفي متأثراً بجراحه، كما أصيب جندي إسرائيلي آخر بجروح طفيفة، وقد نشرت السلطات الإسرائيلية أسماء القتلى، في حين تأخر إعلان هوية المجند المصري.
إقرأ أيضا : محمود حسونة يكتب : فيلم عربي .. حيلة إسرائيلية مكشوفة
فور علمى بخبر محمد صلاح مضيت أبحث عن تفاصيل أكثر و انتظرت من الإعلام المصرى تغطية شاملة، فالعالم كله – أو على الأقل العالم العربى – قد حبس الأنفاس في انتظار المزيد وكانت فرصة للإعلام المصرى لتحقيق انفرادات ولكنه خيب أملى وأملنا جميعا، فلقد صمت إعلامنا صمتا مطبقا ولم ينقل لنا سوى البيان الرسمي المصرى الذى ذكر فيه المتحدث العسكري المصري رواية مغايرة، حيث قال إن أحد عناصر الأمن المصري اجتاز خط الحدود الدولية أثناء مطاردة عناصر تهريب للمخدرات، وأثناء المطاردة تبادل إطلاق النيران مما نجم عن مقتله ومقتل ثلاثة جنود إسرائيليين وإصابة اثنين.
هوية محمد صلاح
كان الكل ينتظر الكشف عن هوية الجندى المصرى محمد صلاح الذى أصبح موضوع الساعة، ولكن طال صمت إعلامنا بعد نشر البيان الرسمي وكأنه أصيب بالخرس، فلم يكن أمامى سوى اللجوء للإعلام الأجنبي سواء كان صادقا أم كاذبا، وسواء كان محايدا أو متحيزا، وبعد قليل بدأ كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعى يدلون بدلوهم في الموضوع، و انتشر كم رهيب من الفيديوهات يدعى أصحابها أنها لهذا الجندى، و لكن ظلت وسائل الإعلام الإسرائيلية هى صاحبة السبق في الكشف عن المعلومات التي نتجت عن التحقيق في الحادث ومنها أن المجند المصري الذى يدعى محمد صلاح إبراهيم (22 سنة) لم يجتز الحدود متسللاً، بل دخل عبر معبر للطوارئ وأنه خطط لهذا الهجوم بعدما غادر معسكره ليلاً مسلحاًا ببندقية كلانيشكوف وست مخازن للذخيرة وعدة سكاكين وقطع 5 كيلومترات متوجهاً نحو الحدود، و برغم أن ليس لديه انتماءات سياسية إلا أنه عبّر مراراً عن حبه لفلسطين قائلاً (الله مع فلسطين)، وكان الجندي يعمل قبل تجنيده (فني ألوميتال ونجاراً) للإنفاق على أسرته بعد وفاة والده، ويقيم مع والدته وشقيقين في منطقة عين شمس بشرق القاهرة.
إقرأ أيضا : حسين نوح يكتب : الرعب من شيرين أبو عاقلة !
وبعد كل هذه المعلومات ظل الإعلام المصرى على صمته في حين احتفى العديد من رواد التواصل الاجتماعي بالشهيد محمد صلاح، وأطلق البعض عليه اسم (سليمان خاطر الجديد) في إشارة إلى الجندي سليمان خاطر الذي أطلق النار على مجموعة من الإسرائيليين على الحدود وقتل منهم 7 في عام 1985، واعتبر البعض ما قام به الشهيد هو رسالة ضد التطبيع مع إسرائيل والذى انتشر مؤخرا وانضمت له دولا عربية عديدة وهناك ضغوط على دول أخرى كى تلحق بها.
في الحقيقة أن تناول الإعلام المصرى لحادث محمد صلاح لابد و أن يدفعنا لإعادة النظر في منظومته كلها، فنحن نعرف أن الإعلام حاليا مملوك بالكامل لشركة حكومية، ونحن نعلم حساسية الموقف الرسمي الذى يجب أن تعبر عنه الشركة، ولكن ألا توفر لنا تلك الشركة الحد الأدنى من المعلومات وتتركنا نهبا للإعلام الأجنبي فتلك مصيبة، ألا يعلم الأساطين الجالسين على قمتها كيف يعالجون موقفا كهذا دون التورط في افتعال أزمة دبلوماسية مع العدو؟، ألا يتابعون قناة مثل الجزيرة، وشاهدوا التغطية التي قدمتها برغم علاقات قطر الجيدة بإسرائيل؟، إذا كانوا لم يستطيعوا الكشف عن هوية الجندى قبل الإعلام الاسرائيلى فلماذا لم يقدموا لنا أفرادا من الأسرة أو الحى أو الأصدقاء لإثبات أن الشهيد لم يكن له انتماء سياسى أو تنظيمى؟، ألا يصب هذا في مصداقية أنه حادث فردى وهو ما تحاول الحكومة تأكيده؟، ألم يفكر أحد في استغلال الحادث لعرض اغتيالات إسرائيل المتكررة للقيادات الفلسطينية والتأكيد أن تصرفات إسرائيل تولد احتقانا حتى لدى المواطن العادى؟، ألم يكن ذلك يتيح إمكانية أكبر للمفاوض المصرى في محاولات التهدئة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية؟، عشرات المواقف كان من الممكن أن يستغلها الإعلام لإيصال المعلومات إلينا وفي نفس الوقت خدمة موقف الحكومة وتأكيد روايتها، ولكن ذكاء التناول له أصحابه.
محمد صلاح وصدى البلد
إن القناة المصرية الوحيدة التي تناولت حادث محمد صلاح كانت (صدى البلد) بأن استضافت اللواء الدكتور سمير فرج الذى طرح أسئلة أكثر من الإجابات من خلال لقائه مع الإعلامى أحمد موسى، فلقد تحدث عن سوء سمعة معبر العوجة الذى تمت بقربه الواقعة، وأنه طريق معروف للمهربين مؤكدا أن الشهيد كان يطاردهم، ولكن ظلت أسئلته بلا إجابة: كيف أوقع جندي فى الأمن المركزى بتدريباته المحدودة بقتلى من الجيش الإسرائيلي يفوقنه تسليحا وتدريبا؟، وإذا كانت حراسة الحدود على الجانب الآخر تتم من خلال أبراج فكيف باغتهم الجندى المصرى؟، وإذا كان لا يملك بندقية قناصة فمن المؤكد أنه قتلهما وهما على الأرض، فلماذا غادرا البرج أثناء نوبة الحراسة حتى استطاع الشهيد إطلاق النار عليهما من مسافة قريبة – كما يقول البيان الاسرائيلى – و كيف لم يشعرا به أي منهما؟، هل كانا في حالة من الانشغال الشديد؟، وماهو سبب تلك الحالة؟، وما علاقة كل هذا بإحباط عملية لتهريب المخدرات على الحدود بين البلدين قبل الحادث؟، فهل للجنود علاقة بالتهريب؟ ولماذا لم يعد الجندى الشهيد إلى موقعه على الحدود المصرية وانتظر وصول تعزيزات العدو؟
إقرأ أيضا : شيرين أبو عاقلة.. لتبقى ذكراك عنوانا للوحشية الإسرائيلية !
ونضيف نحن آلاف الأسئلة: كان من الممكن أن يتناول الإعلام من خلالها حادث محمد صلاح، فلقد كان الكل في شوق لأى معلومة ويعتبر ذلك مدخلا مناسبا لتناول الأحداث، مثل: لماذا يحرس حدودنا الأمن المركزى ويحرس حدودهم الجيش؟، وماهو اللواء الاسرائيلى المكلف بتأمين الحدود مع مصر في هذه المنطقة؟، وما سبب وجود مجندات بنسبة عالية خاصة على الحدود المتاخمة لمصر؟، ولماذا أنشأت إسرائيل جدارا عازلا على الحدود؟، و لماذا قررت إسرائيل أن هناك قصورا في أساليب حراستها للحدود؟، وما علاقة هذا بوجود جندي ومجندة في منطقة خالية لمدة 12 ساعة متواصلة؟، وما سبب رفض بعض الحاخامات لتجنيد الفتيات وضغطهم على الأحزاب الدينية لتسريحهم من الجيش، خاصة في ظل الحكومة الحالية التي تعتبر تلك الأحزاب صاحبة الأغلبية فيها؟
جنازة الشهيد محمد صلاح
ولكن لم يقدم لنا الإعلام المصرى إجابة واحدة، حتى لم يقم الإعلام بتغطية جنازة الشهيد أو لحظة دفنه في مقابر الأسرة بقرية العمار، مركز طوخ، محافظة القليوبية من باب توثيق اللحظة للتاريخ، بل ترك البعض يشبّه الجندى الشهيد محمد صلاح بشهيد آخر قد سبقه بسنوات هو سليمان خاطر، في حين أن خاطر قام بقتل الإسرائيليين داخل الأراضى المصرية وبعد أن أطلق عدة طلقات للتحذير، وكان من الأجدر ضم الجندى الشهيد لحادث الجندى البطل أيمن حسن، الذى اجتاز الحدود المصرية – الإسرائيلية في26 نوفمبر 1990 وهاجم عدة مركبات عند معبر عين نفطيم شمال غرب إيلات وتمكن في الهجوم من قتل 21 ضابطاً وجندياً إسرائيلياً وجرح 20 آخرين بعد مهاجمة سيارة جيب وحافلتين إسرائيليين وعندما أصيب في رأسه عاد إلى الحدود المصرية، وقد نفذ هجومه رداً على إساءة جنود إسرائيليين للعلم المصري وقيام الإسرائيليين بمذبحة المسج الأقصى الأولى و قد حكم عليه بالسجن لمدة 12 عام وقالت مصر أنه يعانى من المرض النفسى، مما جعل بعضا من قادة إسرائيل يحذرون من اللجوء لنفس العذر في الحادث الجديد .
إقرأ أيضا : محمد شمروخ يكتب : العبقرى مزراحى .. راعى فتنة شيرين أبو عاقلة
ربما كانت التغطية ستكون أفضل لو كانت الشركة المسيطرة على الإعلام المصرى لديها بعض الحرية أو لديها بعض الجرأة أو أن تتصرف بشكل أكثر إحترافية في معالجة حادث محمد صلاح، و ليس بطريقة الموظفين الذين لا يهتمون إلا بالحفاظ على مقاعدهم دون نقاش أو البحث عن الصالح العام، وإذا كان من الصعب توفير كل هذا فنحن نتمنى أن يكون هناك قنوات تليفزيونية خاصة ليس لها علاقة بالحكومة حتى لا يتسبب هذا في حرج لها وحتى تستطيع الحكومة أن تقول أن لا سلطان لها عليها.
ولذا أتمنى من الحكومة أن توفر على نفسها وعلينا ما تدفعه لتلك الشركة التي تصاب في الأوقات الهامة بالخرس وتعيد الإعلام إلى أهله.