في ذكرى ميلاده : زيارة إلى قلب عبدالحليم حافظ (1)
كتب : أحمد السماحي
لم أكن أعرف أن القدر سيسوقنا إلى واحدة من قصص غرام عبد الحليم حافظ ، في شهر يونيو عام 2001 كنت أعمل بالقطعة في مجلة الأهرام العربي، ولم أتعين بعد، وبعد سمعنا لنبأ رحيل سندريلا السينما المصرية، تم تكليفي أنا وصديقي جمال الكشكي رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي حاليا، بعمل ملف عن هذه الأيقونة النادرة، وبدأنا العمل في الملف الذي كان من أصعب الملفات التى قمت بعملها في بداية عملي الصحفي، نظرا لعدم توفر معلومات عن الجريمة، وليس لدينا معلومات عن أصدقاء مقربيين للسندريلا، وذهبنا إلى شقيقتها مطربتنا الكبيرة نجاة، لكنها رفضت التصريح بأي معلومات، وأن كنا أخذنا معلومات من ابن شقيقها (أحمد عز الدين)، كما رفض الموسيقار الكبير كمال الطويل الحديث معنا لعدم معرفته بأي شيئ، وعندما رق حالنا عليه أعطانا معلومات عنها كفنانة وإنسانة.
مقابلة حبيبة عبدالحليم حافظ
أثناء عملنا على الملف ذكر لنا الإعلامي الكبير وجدي الحكيم بعض المعلومات عن أصدقائها المقربين، وبدأنا نتواصل معاهم كان من بينهم صديقتها مايسة الطرابيشي وأجرينا معها حوارا طويلا عن ظروف تعارفها بالسندريلا سعاد حسني، وكل ما يتعلق بعلاقتها بها، وأثناء جلوسنا معها دخلت علينا إمرأة محجبة على درجة كبيرة من الجمال والشياكة والرقي، عينان ذكيتان بلون العسل، والبشرة خمرية بلون القمح الناضج في الحقول المجاورة لنهر النيل، وقدمتها لنا بأنها شقيقتها مشيرة الطرابيشي، ولم ندرك حتى اللحظة أنها حبيبة عبد الحليم حافظ.
إقرأ أيضا : بيوت عبد الحليم .. متاحف على ورق!!
وجلست مشيرة تستمع إلى الحوار، وبعد انتهائنا من الحوار قالت لنا السيدة (مايسة) وهى تودعنا على الباب: (عارفين مين اللي جالسة في الصالون دي؟!) فقلنا لها: شقيقتك مشيرة! فقالت: (شقيقتي، وحبيبة عبدالحليم حافظ!) وانبهرنا بالمعلومة، لكن نظرا لأننا في استعجال من أمرنا حتى ننتهي من ملف السندريلا سعاد حسني طلبت منها تليفون (مشيرة الطرابيشي) وبالفعل أعطتني التليفون، وبعد انتهائنا من نشر ملف (السندريلا) حاولت على مدى شهور أن أتحدث مع السيدة (مشيرة الطرابيشي) لكن محاولاتي باءت بالفشل.
وتمر الأيام والشهور والسنين وأثناء بحثي عن معلومة ما في مجلدات مجلة (الشبكة) اللبنانية، وجدت موضوعا رائعا عام 1968 بعنوان (مشيرة الطرابيشي تطرد سعاد حسني من قلب عبدالحليم حافظ!).
رقة عبد الحليم حافظ نهاية الأربعينات
وقررت بداية من هذا الأسبوع وبمناسبة الذكرى الـ 94 لميلاد العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ التى تهل علينا يوم 21 يونيو الجاري، عمل زيارة إلى قلبه، من خلال أرشيفي الصحفي العامر، الغريب والمثير أن حليم الذي علمنا الحب، وأنشد له أجمل أناشيده، لم يهنأ بحلاوة الحب، وبحث عنه طوال مشواره كما يبحث الظامئ عن قطرة ماء في الصحراء، ولم يعثر عليه، كانت بداية تعرف العندليب الأسمر بالحب بعد تخرجه مباشرة من معهد الموسيقى المسرحية فى هذه الفترة دق قلب عبدالحليم لأول مرة، وعاش أحاسيس جميلة، يجوز لم تكن قصة حب عنيفة، لكنها قصة حب رقيقة فيها كثير من رقة ورومانسية نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات.
إقرأ أيضا : د. ثروت الخرباوي يكتب : عبد الحليم حافظ حرامٌ أم حلال ؟
بدأت هذه الأحاسيس أثناء عمل عبد الحليم حافظ كمدرس للموسيقي، ففي أحد أيام الموسم الصيفي أثناء زيارته لصديقه كمال الطويل في الإذاعة، ركب (الترام)، وبعد محطة صعدت فتاة فى الثامنة عشر من عمرها، تقف فى المنطقة الوسطى بين نهاية المراهقة وبداية الأنوثة، وديعة أقرب إلى الأطفال، ليست جميلة ولكنها تتمتع بشكل جذاب، بسيطة جدا فى ملابسها، لكنها ذات ألوان زاهية، وجلست بجواره في المقعد، لم تكن عيناها الجميلتان خضراوين، ولم يكن فيها من جمال الجسد قدر ما كان فيها من جمال الروح، كما وصفها العندليب فى مجلة (الفن) عام 1955 ، تحت عنوان (قصة حبي)، ووجد فى وجهها براءة محببة، وابتسامة طيبة.
عبدالحليم حافظ .. رسالة غرام
فى اليوم التالي تكرر اللقاء، فابتسم عبدالحليم حافظ لها، فردت عليه الابتسامة، لكن هذه المرة كان وحشا أدميا يجلس بجواره، فجلست هى فى المقعد المجاور له، وتعددت اللقاءات دون كلام، فقط الابتسام، وفى إحدى لمحاته وجد عينيها معلقتين به، ثم اكتشف أن عينيها تبحثان عنه، تبحثان عنه دائما، حتى مع زحمة (المترو) تدير رأسها وتطلق عينيها بعيدا تبحث عنه، ووضع عينيه تحت أمر عينيها فى دنيا تبادل النظرات، ووجد نفسه يوما بعد يوم يتعلق بنظرة سريعة وابتسامة خفية كأنه يتبادل معها منشورات سرية، وتسأل بينه وبين نفسه أشعرت بي هذه الإنسانة أم لم تشعر؟ وهل حدث أن أحست بوجودي أم أن كل ما كنت أتصوره لم يكن أكثر من وهم؟ خاصة أن هذه الصبية استطاعت أن تعلمه كيف يبحث وكيف ينظر؟!
ولكن أي انتظار، وأي بحث؟! إن مجلسهما معاً كلاهما قريب من الآخر كان يهز جسده هزًا فيهيم لحظات تطول تطول، حتى يصل إلى مكان هبوطه فيغادر (الترام)، وبعد مرور أكثر من شهر على لقاءاتهما قرر عبدالحليم حافظ أن يكتب لها رساله جاء فيها: (آنستي لست أدري ما هو نصيب هذه الرسالة منك، ولست أدري ما هو رأيك فيها وفي، ولكن ليس هذان وحدهما هما الشيئان اللذان لا أدري بهما، فأنا لا أدري أيضاً أين أنا منك ومن قلبك، أما أنت فأنا أعلم أين أنت؟!.
إقرأ أيضا : نصيحة عبد الحليم لـ “سميرة سعيد”
واستطاع عبد الحليم حافظ فى اليوم التالي أن يدس هذه الرسالة في يدها وهبط من (الترام) في محطته المعتادة، فقد خشى أن تظن الفتاة به سوءا، أو أن ترفض رسالته أو أن تثير شجارا، وانتظر قدومها فى اليوم التالي، حتى أنه طلب من سائق الترام أن ينتظر دقائق لقدوم صديق له بينهما اتفاق على موعد، لكن مرت الدقائق ولم تأت الفتاة، ومرت أيام.. ولم يرها خلالها مطلقا.
عبدالحليم حافظ .. قصة غير تقليدية
كان عبد الحليم حافظ يحلق بخياله ويذهب بعيدا مع حبه، فقصة حبه غير تقليدية، وعلاقته بهذه الفتاة تتسم بقدر من الاضطراب وغياب اليقين، فهو أحبها وأعلن لها برسالته عن هذا الحب، وشعر من نظراتها وحرصها على التواجد فى الموعد الذى يركب فيه (الترام) أنها تبادله نفس الشعور بدون بوح أو تصريح، ظل أيام يتقلب على وسادته يتسأل عن مصيرها، وعن ما حدث لها، وأوقات كثيرة أعتقد أن ما حدث كان مجرد أوهام، وأنه لم يرى هذه الفتاة، وأنها كانت مجرد سراب، أو أنه حاول في الخيال تقليد بعض أصدقائه الذين يعيشون قصص حب بصفة منتظمة ويحكون له عنها.
كان عمل عبد الحليم حافظ ينسيه أحيانا قصة الحب التى ماتت قبل أن تولد، خاصة أنه استطاع تحويل السخرية المريرة التى صادفها أثناء عمله فى مدارس (طنطا والمحلة وسمنود) إلى احترام شديد، وأن يقدم لتلميذاته درسا هاما هو: (ألا نحكم على الإنسان بمظهره الخارجي)، وتحولت العلاقة بينه وبين تلميذاته إلى صداقة، لوغاب يوما يسألون عنه وإن غابت طالبة يسأل عن سر غيابها.
إقرأ أيضا : سر غضب وحزن أحمد زكي من أسرة عبدالحليم حافظ!
كان انشغال عبد الحليم حافظ في التدريس يلهيه أحيانا عن تذكر فتاة (الترام ) مجهولة الإسم والعنوان، لكن الليل كان يذكره بها خاصة عندما يخلو لنفسه فى سريره، ويتسأل لماذا اختفت؟ وأين ذهبت؟ عاش أياما وأسابيع فى قلق وتوتر، ما كان يخفف عنه فى هذه الفترة وجود أسرته حوله، خاصة شقيقته (علية) التى كانت بمثابة الملاذ الآمن الذى يلجأ إليه دائما.
ظهور ونهاية فتاة عبدالحليم حافظ
ونترك عبدالحليم حافظ يختم لنا نهاية قصة حبه الأول كما ذكرها بنفسه فى مجلة (الفن) عام 1955، يقول حليم: (لقد شاهدتها بوجهها البرئ وابتساماتها العذبة وطفولتها التى تتصارع مع أنوثتها في نفس المكان، المقعد الذي يقف السائق أمامه وقفزت إلى الترام ولست أدري كيف أمد يدي فأمسك بيدها، وأربت عليها ثم همست لها: (حمد الله على السلامة)، قلتها وأنا لا أعلم موقعها من الحقيقة، أكانت فعلاً على سفر أم أنها ستدرك أنه قول يُلقى، وفي جرأة المطمئن همست في أذنها، سنتين بحالهم وانتي غايبة، كنتي فين؟! وعجبت عندما أجابت وقالت: (كنت في البلد)، فقلت: انتي منين؟ فقالت: من طنطا.
ويضيف عبد الحليم حافظ: ثم مدت الفتاة يدها فأخرجت خطابي، كانت الورقة قد بليت وكادت أن تتمزق تماماً، وكانت السطور قد انمحت أو كادت، وكان الوفاء يشع من عيني الفتاة، كما لم أره في عيني فتاة أو امرأة من قبل أو بعد، وقالت الفتاة : (يا سيدنا الأفندي.. فين أنا وفين أنت.. أنت أفندي متعلم وبتكتب الكلام الحلو ده.. أما أنا بنت شغالة في مصنع.. أروح فين من قلبك)، فقلت: (انتي في قلبي يا) فقالت: (سعدية)، وانتهت قصة الحب هذه بأن الفتاة استأذنتي هرباً من حبي، بعدها لم أراها مطلقا، ونسيتها فى زحمة تسجيلي أغنياتي الجديدة، والبحث عن بداية الطريق الصحيح.
وإلى اللقاء مع خفقة الحب الثانية التى دق لها عبدالحليم حافظ!