رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

في مئوية محمود مرسي .. ننشر أشهر اعترافاته

كتب : أحمد السماحي

يعتبر محمود مرسي – الذي  نحيي خلال الأيام القادمة، وبالتحديد يوم 7 يونيو الذكرى المئوية لميلاده – أحد عباقرة التمثيل في مصر المحروسة، والذي ينتمي إلى مدرسة الأداء التمثيلي المنهجي، فرغم تقديمه لعددا محدودا من الأفلام  لا تتجاوز الـ 25 فيلما، لكنه أثبت في بعض هذه الأفلام، موهبته النادرة، وحضوره الطاغي، وأدائه الساحر، لهذا كان طبيعيا أن يحلل كبار نقادنا وكتابنا أداء هذا العبقري.

قال عنه ناقدنا الكبير الراحل سمير فريد بعد أن شاهد دوره في فيلم (الخائنة) عام 1965: (قدم محمود مرسي درسا عمليا في التمثيل، وفي الأداء، والإلقاء، وفي التعبير والإشارة، بل وفي كل حركة وإيماءة صدرت عنه طوال العرض، فالأسلوب الذي يؤدي به محمود مرسي جديدا تماما على التمثيل السينمائي العربي، تخيل لو أحد نجومنا مثل دور زوج يكتشف خيانة زوجته، ستراه ينفعل ويرغي ويزيد، بل ربما سالت دموعه أنهارا وتشنج، و.. و.. هذه الانفعالات الجياشة في الأداء.

إقرأ أيضا : هدى العجيمي تكتب: الأفلام الغنائية.. درة السينما المصرية

وتلك الميلودراما القائمة على الإلقاء اختفت تماما عندما قام بهذا الدور محمود مرسي، إنه يؤدي بفهم داخلي للشخصية أداء مثقف واع، إنه التمثيل عندما يصل إلى رحابة الإنسانية ويتحرر من الضغط النمطي – للزوج المخدوع – إنه يحني رأسه ويتألم في صمت موجع، يرفع ذراعه ليمسك بعمود أو شباك نافذة، يلقي العبارة ضابطا مخارج الألفاظ محددا نبرة الصوت ودرجته بإتقان لم نعرفه من قبل).

بعد عرض فيلم (الليلة الأخيرة) الذي قام محمود مرسي ببطولته أمام فاتن حمامه كتب عنه استاذنا وناقدنا صبحي شفيق قائلا: (ينبغي أن نسجل لمحمود مرسي إلى أي حد استفاد من منهج اللحظة النفسية الخلاقة في الأداء التمثيلي وفق طريقة ستانسلافسكي، فالغضب المصاحب للذعر، لايبدو في انفعالات الوجه فقط، ولكن في الجموح، جموح الجسم، والأندفاع، والهبوط من قمة الأنفعالات إل برودة الكلمات).

أما مخرجنا الكبير كمال الشيخ الذي أخرج له بطولة فيلمي (الخائنة، والليلة الأخيرة) فقال عنه بعد أول لقاء جمعهما: (شعرت منذ الوهلة الأولى إني إزاء نمط جديد وشخصية تتمتع بملامح خاصة، له وجود عميق وإشعاع قوي، يتميز بأسلوب راق ومستقل في الأداء).

أما النجم الكبير فريد شوقي فيقول عنه: (محمود مرسي صاحب أسلوب شديد التميز، وانفعالاته الداخلية بالغة الصدق، يعبر ببساطة وقوة عن أعمق المشاعر، ويتفوق عندما يجسد طوفان الغضب والعنف الذي قد ينطلق بين لحظة وآخرى، إنه يجعلني أستعد له بكل طاقتي عندما يقف أمامي).

فريد شوقي : محمود مرسي صاحب أسلوب شديد التميز

اعترافات محمود مرسي

كان النجم الكبير محمود مرسي من نجوم الصمت، فلم يكن يحب الظهور كمتكلم، أو كضيف في برامج التليفزيون، ولا يحب إجراء الحوارات الصحافية، حتى لم يكن يحب أخذ الجوائز التى حصل عليها في بعض المهرجانات، فكان يقول: (لست على استعداد للصعود إلى خشبة المسرح، وسط التصفيق)! ورغم الجدران الزجاجية التى كان يحيط نفسه بها، استطاع ناقدنا الكبير (كمال رمزي) أن يخترق هذا الصمت وينفرد بحوار معه عام 1998 من خلال مجلة (فن)  اللبنانية لصاحبها وليد الحسيني،

وفي هذا الحوار الثري الممتع اعترف العملاق محمود مرسي بالكثير من الأسرار والاعترافات سننشر هذا الأسبوع في باب (صورة وذكرى) بعض منها ..

إقرأ أيضا : عمالقة الشر في السينما المصرية .. نجمة إبراهيم

يقول محمود مرسي: ولدت يوم 7 يونيو عام 1923 في مدينة الأسكندرية، والدي كان نقيب المحامين في المدينة، ومبكرا جدا حدث الانفصال بين والداي، وبينما تزوج أبي بأخرى تزوجت أمي بآخر، هذا الانفصال ترك أثرا عميقا في نفسي سواء على المدى القصير أو على المدى الطويل، حيث قضيت طفولة مشتتة، قاسية، فقد ألحقوني بمدارس داخلية، ولم أكن أتجاوز الست سنوات، وكنت أعيش مع أطفال أكبر سنا وأضخم جسما، أذكر في إحدى المرات أن طفلا ارتطم بي وهو يندفع في الفناء بسرعة فوقعت على وجهي واصطدم فمي بحجر وجرح لساني بأسناني.

وظللت أنزف دما لفترة طويلة، في هذه السن كنت انتقل من مدرسة إلى أخرى، وكان على أن أتواءم مع كل مكان جديد أذهب إليه، ورغم قسوة هذا على طفل لكن كان هناك فائدة من التجول بين المدارس تتمثل في استيعابي لغات متعددة فالمدارس التى كنت ألتحق بها أجنبية سواء انجليزية أو فرنسية أو إيطالية، حيث كانت اسكندرية الثلاثينات مملؤءة بالجاليات الأوروبية.

محمود مرسي أمام لوحته المفضلة

مصري في مدرسة (الدمبسكو)

يستكمل محمود مرسي شهادته عن طفولته فيقول: استقر بي المطاف في مدرسة (الدمبسكو) وكان استقرارا مؤلما، فالمدرسة إيطالية في سنوات الفاشية بكل ما تعنيه من غرور وغطرسة، لا يمكن أن تخلو حصة من الحديث عن ثلاثة موضوعات كريهة إلي نفسي هي: (عظمة الدوتشي، الزعيم الملهم الذي يعيد بانتصاراته أمجاد روما القديمة، وقوة شباب (القمصان الأسود) التى لا يحدوها حدود، ثم ملاكمهم العظيم بطل العالم (بريمو كارنير).

وكثيرا ما كنت اسمع (مصري قذر)! مما كان يحز في نفسي، إزاء احتقار المدرسة بمدرسيها وتلاميذها لي كمصري، لهذا كانت سعادتي غامرة عندما هزم (بريمو كارنيرا) وتهاوى على أرض الحلقة، وتكوم كجبل من اللحم أمام الملاكم الأميركي الأصغر منه حجما (ماكس باير)، وكان علي أن أبلع فرحتي، وأنا أطالع صورة في المجلات والجرائد، وينظر إليها التلاميذ الإيطاليين بحزن شديد.

يتابع محمود مرسي سنوات طفولته فيقول: في هذه الفترة  وأثناء إجازتي من المدرسة كنت أذهب مع والدتي في كثير من الأحيان إلى دور السينما، فقد كانت تحب مشاهدة الأفلام، وحدث أثناء مشاهداتنا لفيلم (أنا كرنينا) الذي قامت ببطولته أعظم فنانات عصرها (غريتا غاربو)، وبالتحديد في المشهد الذي ينتزعون طفلها منها كي يتسلمه والده، أجهشت أمي ببكاء مر، فالواضح أن المشهد لمس عندها جرحا غائرا.

أما والدي فقد حدثت له أحداث ميلودرامية، حيث وجد موظف صغير من العاملين في مكتبه ترك مهنته وأخذ يلعب في البورصة، وأصبح خلال شهور ثريا، وحاول أبي أن يلعب ذات اللعبة، فباع ممتلكاته، ودخل عالم البورصة، وماهى إلا فترة وجيزة حتى حل الكساد العالمي العالم عام 1929، ومع الأزمة وانخفاض أسعار أسهم البورصة فقد والدي ثروته، وفقد معها صحته وأصيب بجلطة دماغية جعلته مقعدا، وتوفي عام 1934.

عقب وفاة والدي عدت إلى بيت أمي، حيث شعرت ببعض الراحة فبينما كانت زوجة أبي تعاملني معاملة خشنة، كان زوج والدتي رجلا طيبا عاملني كما لو كنت ابنه فعلا، ولقد حدثت انفراجة في حياتي، خصوصا أنني انتقلت إلى مدارس مصرية وطنية، وعلى الرغم من العناء الذي كابدته في استيعاب اللغة العربية، إلا أن تلاشي تعرضي لكراهية التلاميذ الأجانب واحتقارهم لي، جعلاني أشعر بالراحة النفسية، وبدأب وإرادة تمكنت من اللغة العربية.

ما حكيته  من قبل كان أثر انفصال والدي على المدي القصير، أما على المدى الطويل فقد أثر في نفسي وجعل عندي درجات ما من الشك، والحساس بعدم الأمان، والقلق، وظلت هذه الصفات ملازمة لي طوال حياتي.

محمود مرسي مع شادية في (شيئ من الخوف)

التمثيل قدر محمود مرسي

لم أفكر ولم أرغب في أن أكون ممثلا، ولكن كتب علي التمثيل، كما لو كان قدرا لا فكاك منه، وكلما كنت أهرب منه، أفاجأ به يحاصرني من جديد، أن التمثيل بالنسبة لي في كل المراحل كان أقرب إلى الكرة التى أحاول التخلص منها، أقذفها بقوة على مدى يدي إلى آخر مدى لكنها ترتطم بجدار فتعود لي بذات القوة.

والحكاية باختصار أن (وزارة المعارف) في هذه الفترة كانت تهتم جدا بالمسرح المدرسي الذي كان جزءا نابضا بالحياة، يدخل في صميم العملية التعليمية، وأثناء دراستي في المدرسة الثانوية عام 1938 كنا ندرس مسرحية (لويس الحادي عشر) وأراد المدرس المشرف على فريق التمثيل أن يقدمها على خشبة المسرح، سأل التلاميذ: من الذي من الممكن أن يؤدي دور البطولة؟ ولسبب ما لا أعرفه ردد زملائي بلا تردد: محمود مرسي، وفعلا فرض علي أن أمثل (لويس الحادي عشر)، وقرر المشرف تنظيم رحلة إلى القاهرة بهدف زيارة دار الأوبرا المصرية وحضور عرض (لويس الحادي عشر) الذي كان يقوم ببطولته جورج أبيض.

ذهبنا بالفعل إلى دار الأوبرا المصرية، وكانت ليلة جميلة مازلت أتذكرها ببهائها وعظمتها، ومازلت أتذكر جيدا جورج أبيض بحضوره الطاغي، وهو يهيمن هيمنة كاملة على جمهور معلق الأنفاس، أداء يصمد للمقارنة مع أي أداء عالمي في تلك الفترة، أداء جمالي راسخ، بصوت منغم، موسيقي الطابع، له وقعه الساحر على الآذان، وإشارات عريضة باليدين، ولفتات وايماءات ناعمة، واتساق كامل ينساب في ليونة، بين أدوات الممثل الكبير، طبعا لم يكن أداء جورج أبيض واقعيا، ولكن كان (حالة) تشع بضياء عاطر، وتحلق بالنظارة في أفاق بعيدة، بعد انتهاء المسرحية صفقت كما لم أصفق لأحد من قبل أو من بعد، واستمر تصفيقي حتى أدميت كفي.

محمود مرسي في فيلم (ليل وقضبان)

عمر طوسون يصفق لـ محمود مرسي

عدت من دار الأوبرا المصرية وأنا متشبع بأداء وروح جورج أبيض، وفي ليلة عرض (لويس الحادي عشر) تابع المسرحية عدد لا يستهان به من كبار المسؤولين في الأسكندرية، وكان على رأس الضيوف الأمير عمر طوسون الذي صعد إلى خشبة المسرح بقامته المديدة، ووجهه الأحمر، وطربوشه الطويل، وهنأنا بلغة عربية فصحى.

لم يكن عرض (لويس الحادي عشر) هو سبب معرفتي بالعظيم جورج أبيض، ولكنه كان البداية، فمن حسن حظي أن علاقتي به لم تكن فقط لمجرد مشاهدته على خشبة المسرح، فعندما التحقت بكلية (الأداب) بجامعة الأسكندرية، كان يشرف على فريق التمثيل الدكتور (مصطفى زيور) أحد رواد علم النفس، واختار لنا تراجيديا (أوديب) لسوفكليس كي يقدمها الفريق، وهي مسرحية تتواءم تماما مع اتجاهه الفرويدي، ولسبب ما اختارني للقيام بدور (أوديب) واختار زميلي وصديقي (محمد زكي العشماوي) للقيام بدور (تريزياس)، وكانت المفاجأة تعاقد الدكتور مصطفى زيور مع جورج أبيض على إخراج (أوديب).

محمود مرسي مع عبدالوارث عسر وأحد العاملين في أحد الأفلام

محمود مرسي وجورج أبيض

وفي البروفات لمسنا الجانب الإنساني في شخصية جورج أبيض، رجل طيب، رقيق، ووديع، أحيانا يغلبه النعاس أثناء بروفة للقراءة، وعندما يفيق يجدنا ننتظره في صمت، وتوقير، يبتسم ويقول ببساطة بلهجته الشامية: (بنت عمي صنعت لي صينية كبة شديدة وأسرفت في أكلها)، لكن أثناء التدريب على خشبة المسرح يتوهج جورج أبيض، ويبعث بنشاط عقلي وعاطفي عند الجميع.

وفي الموقف الذي استجوب فيه الراعي الذي لم يقتل (أوديب) عقب ولادته متجاهلا أمر والده الملك لم يعجب جورج بأدائي، فصعد إلى خشبة المسرح، وطلب مني أن أقوم بدور الراعي، على أن يؤدي هو دور (أوديب) ركعت على ركبتي، وبكفه الضخمة، وأصابعه الطويلة، أطبق على رقبتي مستجوبا بكل قوة وانفعال، ومازلت كلما تذكرت هذا الموقف، أحس أن العملاق جورج أبيض أمامي شاهقا وأصابعه حول عنقي.

في ليلة العرض استعرنا الملابس من دار الأوبرا، وقام بعمل المكياج لنا المخرج والمنتج السينمائي لا حقا حلمي رفله، وحضر العرض الدكتور طه حسين، مترجم النص، الذي صعد إلى خشبة المسرح، وصافحنا فردا فردا، وكان لنجاح (أوديب) بعد الجهد الكبير الذي بذل فيها، أثر في روح الفريق، بدا واضحا في عروضه التالية التى قمت فيها بأداء (البخيل) لموليير، و(عطيل) لشكسبير، ومع تخرجي من الجامعة بدأت مرحلة جديدة في حياتي.

محمود مرسي مع سعاد حسني في (زوجتي والكلب)
محمود مرسي مع مديحة كامل وحسين فهمي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.