بقلم الأديب الكبير : حجاج أدول
بالعودة لتلك اللافتة التقريرية غير الفنية: (إلى كل شاب يغترب عن أهله وبلده طلبًا للعلم، الخ)، قال صلاح أبو سيف: (تأثرت أنا أكثر بالإيطاليين والأدب أن الإيطاليين أعادوني إلى نقطة البداية، فيلم روبرتو روسيليني (روما مدينة مفتوحة) في سمو 1944، صوّر الشارع والبيوت الفقيرة والبشر الذين لم تعرفهم السينما من قبل، وقدم (روسيليني) فيلمه بعبارة (هكذا تسير الحياة)، وهى العبارة التي أصبحت شعار الواقعية هناك)، هنا تأثر سلبي من مخرجنا الكبير صلاح أبو سيف تقريري جدا، وما كتبه (روسيليني) مختصر يحوي مفهوما عاما، أم ربما اضطر صلاح أبو سيف لكتابة تلك اللافتة المرفوضة، تحت ضغط الرقابة، ففي فيلم (الأسطى حسن) فرضت الرقابة أن يكتب في نهاية الفيلم (القناعة كنز لا يفنى) ربما، فالرقابة أحيانا تكون غبية سمجة2.
إقرأ أيضا : أخطأ أبطال (شارع البهلوان) فنام (صلاح أبوسيف) على بطنه .. تعرف على الحكاية ؟!
يقول قائل أن فيلم (شباب امرأة) من إخراج صلاح أبو سيف، فيلم قديم أنتج عام 1956، ومن وقتها تم رفعه من شاشات السينما، إذن فأثره انتهى؟، لا، هذا قول خاطئ فمن يقول هذا فهو بعيد عن الإدراك، فالفيلم خلال عرضه سينمائيا أثر في مشاهديه عقلا وباطنا، فأكد فيهم تراثهم السلبي عن المرأة، وهم بدورهم تأكدوا أن ما يحملونه من تراث ذكوري، هو الصحيح، فأوصلوا هذا لمن حولهم ولمن أتوا بعدهم، والفيلم الممتاز فنيا مثل (شباب امرأة) يبقى مشاهدا لسنوات تطول أكثر مما نعتقد، خاصة بعد الثورة الرقمية التي عمت العالم، فـ (شباب امرأة) وغيره من الأفلام الناجحة، مستمر عرضها في القنوات التليفزيونية، وسهل تنزيلها وعرضها بواسطة الفلاشات، أي تأثير تلك الأفلام ممتد ممتد ممتد، فقد بدأنا عهدا جديدا فتح جانبا طازجا في تعريف البشر هو (الإنسان كائن سينمائي).
صلاح أبو سيف ودعاء الكروان
السينما المصرية أنتجت العديد من الأفلام الرائعة غير (شباب امرأة) لـ صلاح أبو سيف ، التي تبين فنيا ظلم المرأة، مثلا في (دعاء الكروان)، تم قتل والد البنتين (هنادي وآمنة) لأنه أقام علاقات جنسية مع أكثر من امرأة، هنا القتل للذكر لماذا؟، الذكر هنا أساء للمجتمع برفع الغطاء عن نساء مارسن الجنس خارج منظومة الزواج، وبهذا يكون والد البنتين قد فضح القرية، أو أنه بين تواجد كبت جنسي لدى إناث القرية، وإلا لما مارسن معه الجنس سواء للسبب الأول أو الثاني أو الاثنين معا، المصيبة الأساسية إن هذه المضاجعات لم تعد في السر، الذكر برعونة أفشى ما يجب كتمه، أفشى ما هو متفق على مداراته والتغاضي عنه، فالجنس النسائي يجب أن يُغطى، أن يدعي الجميع بأنه معدوم أو شبه معدوم، هذا وإن تكلم الجميع عنه في المجالس الخاصة، أما وإن عُرِفت علاقة جنسية مابين ذكر وأنثى خارج عرف الزواج، فيمكن التغاضي عنها طالما لم تتعد النطاق الضيق. تصمت العائلة التي من بينها تلك الأنثى وتعمل أن يبقى الأمر مكتوما، هذا مع العقاب الشديد الداخلي، لكن إن اتسع الموضوع وفاحت رائحته، فالويل كل الويل.
إقرأ أيضا : في ذكري ميلاد (عاطف الطيب) .. رائد الواقعية الذي خيب ظن (صلاح أبوسيف) !
نسبة لا يستهان من جرائم القتل في بلادنا سببها الجنس والمرأة، المرأة التي قامت بينها وبين ذكر علاقة خارج نطاق الزواج، تُقتَل، وربما الذكر يبقى حيا مع النظر إليه شذرا، فإن تعددت أفعاله وفضح أزواج وعائلات تلك النسوة، فيتم قتله مثلما تم قتل أبا الفتاتين (هنادي وآمنة) في دعاء الكروان.
إن فعلت امرأة ما فعله أبا الفتاتين، فكانت لها علاقات متعددة سواء بالمزاج أو بالأجر، فماذا يكون رد فعل مجتمعها؟ في مجتمعات ستُقتل، وتبقى مهانة في بعض مجتمعاتنا، لكن في بعض المجتمعات الأكثر انطلاقا، لا تكون مهانة بدرجة مؤلمة نظرا لثقافتهم الخاصة، وهذه المرأة تُعتبر صمام تنفيس لكثير من الذكور المشتعلين ولا تستطيع زوجاتهم إطفاء شبقهم، لكن إن تسببت تلك المرأة في معارك تصل لحد الخطورة، هنا يمكن أن تضار بقسوة، ولنا أن نأتي بسيرة فيلم (زوربا اليوناني) فمجتمعه شرقي مثلنا أو كان كذلك، أرملة جميلة كانت مثار طمع من عدد من ذكور القرية، خاصة من شاب يافع أحبها، لكن الأرملة ترفضهم كلهم بما فيهم الشاب ومالت للغريب، هنا انتحر الشاب اليافع بإغراق نفسه.. ما ذنب الأرملة؟، قام والد الشاب المنتحر بذبحها!، الأرملة لم تغري الشاب ولا غير الشاب، فبعض المناطق في الغرب نفسه، كانت تشبه مناطقنا في سكب الخطايا على رأس المرأة.
لنلاحظ أن المجتمع خاصتنا، إن أراد فضح ذكر منهم، فمن أساليبه الخطيرة، أن يتهم هذا الذكر بالمثلية السلبية، هنا ليس الفضح فعل جنسي ما بل اتهام الذكر بانه مفعول فيه مثلما يكون مع المرأة، كلمة (مفعول) هى الكلمة البسيطة التي يمكن كتابتها، وهذا بناء على المفهوم التراثي القاسي.
صلاح أبو سيف والسمان والخريف
في فيلم (السمان والخريف)، على عكس رؤية صلاح أبو سيف ، قد عاد الذكر الجاني لضحيته (ريري)، عاد مكسورا وفي نيته أن يعطيها مكانة ما، سواء بالزواج أو بغيره، لكن الأوان قد فات، وفي فيلم (بداية ونهاية) انتحر (حسنين) شقيق (نفيسة) بعد أن انتحرها، وفي فيلم (دعاء الكروان) المهندس الجاني في البداية صار طيبا في النهاية ففدى حبيبته آمنة بروحه، يلاحظ هنا أن الضمير الفردي من بعض القتلة المباشرين، يأتي بعد فوات الأوان، يجئ بعد أن أزهقوا كرامة الأنثى وقتلوها، في هذه الحالات، تكون إفاقة الضمير فردية استثنائية، الاستثنائي يفيق، ويبقى الضمير الجمعي غافيا، ليستمر الظلم القاسي على الإناث.
من الضربات الجانبية غير المباشرة في الفيلم، ربط استقلال المرأة اقتصاديا بانفلاتها العام وانفلاتها الجنسي، خاصة ربط امتلاكها الاستقلال المالي بالتجبر على الذكور والمشي على حل شعرها، فهل كانت (شفاعات) ستفعل ما فعلته إلا بامتلاكها الدخل المادي الممتاز، بالنسبة للحي الشعبي التي تعيش فيه؟، ألا يتضح أن هذا الفيلم ذو اتجاه ممنهج لتكسير المرأة وردعها لتبقى في خانة الحريم تحت إمره الذكور؟، ألا يتضح فعلا أن هذا الفيلم الجميل، في حقيقته فيلم ظلامي؟ لكن يوجد ما يعارض هذا الرأي، ففي فيلم (القاهرة 30) الظالم القاهر وبدون إبداء الأسباب هو الرجل، الرجل الغني والذي يتربع على مكانة وظيفية رفيعة.
إقرأ أيضا : ماندو العدل : كنت أجرأ من (صلاح أبوسيف) فى (بين السماء والأرض) !
وأيضا في فيلم الزوجة الثانية لـ صلاح أبو سيف ، الظالم الأساسي هو الرجل، والمظلومة هى المرأة، العمدة الظالم المتربع على عرش القرية والغني بما يمتلك من أراضي وبوظيفته العالية، هنا الظلم من الرجل بسبب مركزهما الوظيفي وغنائهما المادي، وهذا كاف لإغراء ذوي النفوس الضعيفة للافتراء على الجميع بما فيهم المرأة، فهل مركز شفاعات العالي في المنطقة ودخلها المادي المرتفع هما السبب في افترائها على الرجال؟، ممكن، وكان علينا أن نستخلص هذا من خلال الفيلم، لكن الفيلم لم يعطينا الفرصة لهذه الحجة، ومن غير المعقول أن نبرر أحداث (شباب امرأة) بأحداث أفلام أخرى.
صلاح أبو سيف والقاهرة 30
وسؤال يأتي: هل في فيلمي القاهرة 30 والزوجة الثانية، لـ صلاح أبو سيف، كرهنا الذكرين الظالمين؟، لم يحدث، في (القاهرة 30) لم نحتقر المسئول الكبير، لكن احتقرنا سكرتيره والموظف الجديد الذي قبل أن يكون (بقرنين)، أي قواد، لقبوله الزواج من الفتاة الجميلة لتكون عشيقة للمسئول الكبير، لننتبه أن السكرتير والموظف القواد ليسا بطلا الفيلم، بل هم شخصيات ثانوية، وفي (الزوجة الثانية) سخرنا من العمدة، ضحكنا عليه ورفضنا ظلمه، لكننا لم نكره ونحتقر المسئول الكبير ولا العمدة الظالم، سخرنا من العمدة، وربما لم نكرهة لشخصية الممثل الموهوب (صلاح منصور)، في فيلم (شباب امرأة) كرهنا واحتقرنا المرأة شفاعات، رغم أن جرمها لا يزيد على جرم الآخرين.