بقلم الكاتبة الخليجية: زينب علي البحراني
كان عبدالسلام النابلسي، من أشهر عازبي الوسط الفني في مصر وماقِتي مشروع الزواج في ذلك الوقت إلى درجةٍ أنهُ كلما رأى زوجًا وزوجته يقول لهما بدهشة: (الله! معقولة!! انتوا لسة مع بعض؟ لسة متجوزين؟! تفرَّقوا تفرَّقوا)، لكن الحُب الذي لهُ أحكامًا أُخرى هبطَ عليه عاصفًا خلال آخر أعوام حياته لينسف تلك العزوبيَّة بزواجه من فتاةٍ لم يخطُر ببالها ذات يوم أن تكون زوجته، ولم يخطُر بباله قط أن مثل هذا الكائن الرقيق سيحتل حياته ويقودها نحو مُغامرةٍ جنونيَّة!
إقرأ أيضا : عبدالسلام النابلسي.. الصحافة هى التي تعينني على تسديد متطلبات الحياة! (2/3)
كانت الفتاة اللبنانيَّة ابنة الأسرة الراقية المُحافظة جورجيت من أشد المُعجبات بفن الممثل السينمائي عبدالسلام النابلسي، تستمتع بمُشاهدة كُل أفلامه ومُتابعة لقاءاته وأخباره ما جعل المقربين منها والمُحيطين بها يُلقبونها بـ (صديقة النابلسي)، وما أن ترتسم صورته على الشاشة حتى يُنادونها بقولهم: (تعالي تعالي.. جاء صديقك) فتركض كي تتفرج بابتهاج ونشوةٍ روحيَّة عالية، وبينما كانت تُنصت إلى حوارٍ بينه وبين مُذيع لُبناني يُدعى (فريد جبر – عام 1963) بعد انتقاله من مصر للعيش في بيروت؛ سألهُ المُذيع قائلاً: (ثمة مُعجبةٌ تسأل عن سبب بقائك عازبًا حتى الآن)، فإذا بالنابلسي يعتدل في جلسته بكبرياء ويرد بقوله: أنا أتزوج؟! لم تُخلق بعد البنت التي تستحق أن يتزوجها عبدالسلام النابلسي، فقالت جورجيت في نفسها: (يا الله شو شبعان من حالُه وشايف حاله! على شو؟ ولو! معقول في حدا بالعالم بيقول هيك؟!)، وقررت البحث عن رقم هاتفه للاتصال به ومُعاتبته على هذا الكلام الذي لم يُعجبها!
أنا عبدالسلام النابلسي
وجدت الفتاة رقم الهاتف فاتصلت به مُنتحِلةً اسمًا مُستعارًا هو (دُنيا) وأعربت عن استيائها برأيه خلال المُقابلة قائلة: (ولو يا أستاذ عبد السلام! في حدا بالعالم يزعِّل كل ستَّات البلد هيك؟ معقوله إنّو بتقول: ما اتخلقتش البنت اللي أنا عبدالسلام النابلسي يتجوِّزها!، ولو! معقول!! خلّي رجليك عالأرض!)، فدار بينهما حوارٌ طريفٌ لطيف جعلها تسأله قبل إنهاء المُكالمة: (هل تسمح لي بالاتصال بك مرَّة أُخرى غدًا؟)، وافق بمنتهى الذوق قائلاً: (بكل ممنونية.. أهلاً وسهلاً)، فما كان منها إلا أن اتصلت به للتحدث معه في اليوم التالي، ثم اتصلت في اليوم الثالث، وانتهى الأمر بالنسبة لها كمُعجبة بفنِّه عند هذا الحد فلم تتصل مُجددًا، لكن ما لم تكُن تعرفه أن الأمر لم ينتهِ معه.
عبد السلام النابلسي عاشور قلب الأسد
بعد عشرة أيَّام تقريبًا تم عرض فيلم (عاشور قلب الأسد) على شاشات السينما وذهَبَت جورجيت للاستمتاع بمُشاهدته، ثم اتصلت بـ عبد السلام النابلسي لتهنئته على الفيلم وإبداء رأيها بشأنه، فوجئَت به ينفعل انفعال رجُل اختفت عنهُ زوجته فجأةً وخَرَجت عن طوعِه! وانهمر عليها غاضبًا بقوله: (أينَ كُنتِ كُل هذه المُدة؟، لماذا لم تتصلي أو تتكلمي؟)، فردَّت: (اهدأ قليلاً اهدأ.. لم أعدك أنني سأتصل بك كل يوم!.. كل ما في الأمر أنني شاهدتُ فلم (عاشور قلب الأسد) فتذكرتك واتصلت).. عرفت منهُ فيما بعد أنهُ افتقدها افتقادًا دفعه لأن يسأل كل من يعرفهم عنها طوال أيام غياب صوتها عنه، وقال لها: (لم أترُك أحدًا دون أن اسألهُ عنكِ، حتى سمك البحر سألته عنكِ)، لكن لا أحد استطاع إرواء ظمئه بمعلومة عن فتاة لم يكُن يعرف اسمها الحقيقي، أو شكلها، أو مكان إقامتها.
إقرأ أيضا : عبدالسلام النابلسي: الفنان بلا ثقافة ينقصه الكثير! (3/3)
من بعد تلك المُكالمة أراد عبدالسلام النابلسي أن يسمع صوتها كُل يوم، فتوالت المُكالمات بينهما يوميًا مرتين: الأولى في العاشرة صباحًا، والثانية السادسة مساءًا، وحين سألها عن شكلها أعطتهُ معلومات مُغايرة عن الحقيقة، فالفتاة الرشيقة البيضاء ذات الشعر الناعم أخبرته أنها ممتلئة القوام سمراء بشعرٍ أجعد! لكنهُ مع هذا أصرَّ على مُقابلتها وجهًا لوجه، وضربَ لها موعدًا في مقهى (دولشي فيتا) الشهير في الروشة.
طلبت جورجيت من ابنة عمتها التي كانت صديقتها في الوقت ذاته مُرافقتها إلى الموعِد، وما أن دخلتا المقهى معًا حتى وقفَ بمنتهى الذوق واتجه بصره نحوها ووجه حديثهُ إليها دون أن يشك لحظة واحدة أن هذه هى البنت التي تعلَّق بها رغم أنهُ لم يرَ شكلها من قبل، ورغم أنها كانت بصحُبة فتاة أُخرى، ورغم كل الصفات المُغايرة عن كلها الحقيقي التي سبق وأن ذكرتها له! وبعد دقائق من جلوسهما قال لها دون مُقدمات: (تتجوزيني يا جورجيت؟!).
طلب عبد السلام النابلسي
فوجئت الفتاة من طلب عبدالسلام النابلسي غير المتوقع، فسألتهُ بدهشة: (أنا؟!!).. رد قائلاً: (امَّال مين؟!).. فطلبت منه مهلة بضعة أيام للتفكير قبل اتخاذ قرار بهذا الشأن.
كانت جورجيت على يقين من عدم موافقة أسرتها المُحافظة على زواجها من هذا الرجل، لا سيما مع وجود فرق سن هائل يتجاوز الأربعين عامًا بينهما، لكنها وقعت في غرامه وشعرت أنها تحت تأثير قوَّة جبَّارة غير مفهومة تجعلها غير قادرة على العيش بعيدًا عنه، فاتخذا قرارهما بالزواج (خطيفة) كما يُطلق عليه باللهجة اللبنانية، أي دون علم الأهل، ذهبا إلى منزل المُلحن فليمون وهبي وتم كتب كتاب الزواج في منزله، وخشية أن ينشغل بال أهلها عليها ويتعبون في البحث عن ابنتهم المختفية طلب عبد السلام النابلسي من فليمون وهبي الاتصال بأسرتها وإخبارهم أنها تزوجته وستعيش معه.
إقرأ أيضا : عبد السلام النابلسي ..أضحك الجميع و رحل حزينا!!
كان صوت فليمون معروفًا لتلك الأسرة، فسارع أشقاؤها الستة الأكبر منها إلى منزله مع مجموعة من الرجال الأشدَّاء، و(نزلوا عليهم نزول الصاعقة) على حد تعبير عبد السلام النابلسي في حوار له مع المذيعة ليلى رستم خلال أواخر ستينيات القرن العشرين.. تأزمت الأجواء ودار جدلٌ عنيف من الساعة التاسعة ليلاً على وجه التقريب حتى الرابعة صباحًا، وأخيرًا وعده شقيقها بإرجاعها له إذا تأكدوا من صحة عقد الزواج فصدَّق وعدهم، لكنه فوجئ أنهم بعد أخذها رفعوا ضده قضية في المحكمة لفسخ عقد الزواج، وحين ذهب إلى منزلهم مُطالبًا إياهم بتحقيق وعدهم كان ردهم الرفض.. عندها اتخذ قرارًا بخطفها من منزل أهلها مرَّة أُخرى.
لم تكُن جورجيت التي أحبت عبد السلام النابلسي كثيرًا سعيدة حين سمح لهم بأخذها منه لأنها كانت تعرف طبيعة تفكيرهم، لكنها لم تجرؤ على التفوُّه بحرفٍ أمامهم، بعد قرابة شهرٍ من تلك الأحداث جلست في حديقة المنزل المُطلة على الشارع وتعبث قليلاً بترابها وهى مهمومة، وإذا بها تسمع صوتًا يسألها من الشارع: أنتِ مدام عبد السلام النابلسي؟، ما أن سمعت هذا الكلام حتى طار قلبها فرحًا وأدركت أن هذا الشخص من طرفه، وتم اصطحابها في سيارة مرسيدس سوداء إلى زوجها الذي كان ينتظرها في مدخل طرابلس، وما أن رآها حتى احتضنها وانخرط في بُكاء مرير.
استمرَّت الحياة بينهما خلال الأعوام الأخيرة من حياته حتى وفاته، تلك الأعوام التي وصفتها خلال لقاء تلفازي لها مع الإعلامي الراحل (وائل الأبراشي) بقولها: أحلى أيَّام عُمري قضيتها مع عبدالسلام النابلسي.