بقلم: محمد شمروخ
ولقد وقعنا في الفخ فرحنا نجادل لكى نثبت أن كليوباترا كانت بيضاء البشرة!.. حتما ستنتهى تلك الزوبعة التى أحدثها فيلم كليوباترا السوداء والتى أثارت ثائرة الكثيرين ممن يغارون على التاريخ من تشويه حقائقه، وبالفعل نجحت حملة التصدى في إبطال مفعول الفيلم الذي صور كليوباترا في صورة غير التى كانت عليها في الحقيقة.. هكذا بدت لنا كليوباترا.
فهذا النجاح الظاهر ما هو تلا فشل حقيقي في مقاومة الانجراف نحو ما أرادوه بالضبط، وهلل البعض لتصريحات الدكتور حواس وكأنه جاء بنا لم تستطعه الأوائل، بينما ردود متخصص في الآثار مثل الدكتور زاهى، مطلوبة لكي يحمى الوطيس وينتج السحر الأسود أثرة الخبيث في وعى الناس الذين أبلسوا لما حدث.
فما أرى إلا أن الجهة المنتجة لفيلم كليوباترا نجحت في مقصدها بنسبة قاربت 100٪
كيف؟!
ما حدث من ردود فعل على تقديم كليوباترا السوداء، قد تم استثماره فعليا للغرض الأبعد للفيلم، إذا بدا أن الاحتجاج كان على تصوير كليوباترا كامرأة سوداء وليس على أن إخراجها على هذه الصورة كان مخالفا لأبسط حقائق التاريخ!
إقرأ أيضا : محمود حسونة يكتب: كليوباترا ومتسولو شيكاغو !
لكن هل السادة المنتجون لا يعرفون من هى كليوباترا وما هى أصولها؟!
ألم يسأل أحد من هذا السؤال، إذ أنه يبدو سؤالا ساذجا، فشجرة العائلة البطلمية التى تنتهى بـ كليوباترا محفوظة في المصادر التاريخية الموثقة وليس هناك من أثار الشك حول أصولها في أى عصر من العصور ولا كان لونها مسألة خلافية بين أي من المؤرخين، فالأمر برمته قد تم بدون الاهتمام بالحقائق التاريخية، لأن التاريخ لم يعد يهمهم إلا فيما يمكن أن يستفيدوا منه في المستقبل بشكل مباشر.
ذلك أن هذه الإفادة هى التى ستكون المقياس والتى ستصبح هى الحقيقة، وهنا سنظهر أمام الشعوب الإفريقية السوداء كأننا عنصريون بامتياز مع نبذنا اللون الأسود وتفضيل الأبيض
كليوباترا وعنترة
(شوف ياخى)، مع إن أكبر وأشهر بطل في حياة أي عربي هو أبو الفوارس عنترة بن شداد:
“لَئِن أَكُ أَسوَداً فَالمِسكُ لَوني
وَما لِسَوادِ جِلدي مِن دَواءِ
وَلَكِن تَبعُدُ الفَحشاءُ عَنّي
كَبُعدِ الأَرضِ عَن جَوِّ السَماءِ”.
لا أنسى أبوزيد الهلالي سلامة، وحكايتى معاه شخصيا إذ بلغ افتتانى به أنى كنت أجلس في صهد شمس الجنوب الصعيدى في بلدنا بالساعات حتى أصير قريبا من سواد الأسمر سلامة، ولأن العرب ليسوا من الشعوب كاملة البياض إلا أنهم ليسوا من الزنوج وبالتالي يمكن النفاذ الى الاتهام بالعنصرية.
إقرأ أيضا : هل حملة الهجوم على فيلم (كليوباترا السمراء) ستمنع عرضه على (نتيفليكس)؟!
لاحظ أننى استخدم وصف أسود وليس وصف أسمر أو داكن اللون كما درجت لغة الخطاب الغربي تجاه الشعوب ذات الأصول الأفريقية، وهنا يكمن الخطر الخبيث، فإن فى الابتعاد عن الوصف عن اللون الأسود وإطلاق أوصاف أخرى لهو العنصرية الحقيقية.
فهل كان اللون الأسود عيبا حتى تتجاهله؟!، وهل كان وصف الأصل بالزنجي تحقيرا؟
تذكر أيضاً الصحابي الجليل (سيدنا) بلال بن رباح (الحبشي) كان أسودا مثل كليوباترا، و(يمكنك أن تضيف سيدنا لقمان المذكور في سورة باسمه في القرآن الكريم وكان أسود البشرة من أهل النوبة) لكن الشحنة الماضوية العنصرية مع نشوء أمريكا هى التى جعلت السواد قبيحا ومن الزنجية عيبا حتى صار الوصف باللون الأسود ممجوجا ومضادا للحضارة، إنهم في أمريكا وأوروبا والدول المتقدمة، يرون أن وصف الإنسان بالأسود تحقيرا ولذلك يستبدلونه بالداكن.
الفتى الأمريكي الأسود
هل تذكر قصة الفتى الأمريكي الأسود الذي قتل على يد شرطى في اشتباك بينهما؟!، لقد وصفوه بذي البشرة الداكنة وأنه من أصول إفريقية، لكنهم لم يصفوا الشرطى الذي قتله بذي البشرة الفاتحة ومن أصول أوروبية!
إن تاريخ (احتلال) الرجل الأبيض الأمريكتين لا يزيد كثيراً عن تاريخ (جلب) الرجل الأسود إلى الولايات المتحدة، بل الفترة الفاصلة بينهما كانت فترة للاستعداد لخطف أكبر أعداد ممكنة من أبناء إفريقيا للعمل (كعبيد) في االمزارع الأمريكية، لكن الغرب عامة والولايات المتحدة الأمريكية خاصة، يريد أن يتخلص من تلك العقدة ولكنه لا يلقيها في البحر، فلقد علمته البرجماتية البغيضة أن يستثمر كل شئ، فإذا به يريد أن يزرع بذور العنصرية الوهمية في أراضي شمال إفريقيا ويقسم القارة الإفريقية إلى شطرين متناحرين ما بين الشعوب السوداء جنوب الصحراء الكبرى وبين الشعوب العربية شمال تلك الصحراء، والفتنة واضحة المعالم ويتم التمهيد لها في كل مناسبة – كما في حالة كليوباترا – السمراء.
وهناك كثير من الأوهام التى زرعوها في أرضية الثقافة العربية المعاصرة بتقرير إشاعة كاذبة تقرن ما بين إفريقيا والشعوب السوداء من الزنوج وتتجاهل شعوب الشمال الإفريقى، ولم تكن أزمة سد النهضة الأثيوبي إلا من صناعتهم – على غرار أزمة كليوباترا – لتصوير مصر بصفتها أكبر دولة عربية من حيث السكان على الأقل، تريد أن تستولى على حقوق أبناء القارة الإفريقية.
وهذا المشروع الفتنوي ليس وليد الأمس بل يمتد في الجذور إلى عدة قرون ربما تصل إلى القرن الخامس عشر فيما حدث من محاولات لتحالف برتغالي إثيوبي على يد فاسكو داجاما وخلفائه، عندما خططوا للوصول إلى البحر الأحمر بعد اكتشاف الدوران حول إفريقيا، وكان هدفهم ضرب مصر من الخلف وغزو الحجاز واستعادة أورشليم.
ألا ترى في كل مناسبة لمباريات كرة قدم تجرى بين فريقين من الشمال والجنوب الإفريقيين، كيف يخططون لتوسيع الهوة بين الجماهير؟!، لاحظنا هذا بوضوح في مباراة مصر والسنغال في تصفيات القارة للوصول لنهائيات كأس العالم الماضية، وبالأمس ما حدث بين الأهلى المصري والهلال السوداني.
السودان يضيع ويتفتت
وها هو السودان يضيع ويتفتت أمام أعيننا في حرب متفق عليها عالميا وهى إن كانت بين طرفين سودانيين عربيين، إلا أنها غير بعيد عن أن تمتد ويتسع نطاقها بين دول القارة لتصبح بؤرة فتنة عظمى.
ليت الأمر في فيلم كليوباترا كان خطأ تاريخياً، ولكنه علامة خطيرة لما يحاك ضدنا، خاصة مع هذا التقارب العجيب بين الأفارقة من جهة وبين الأوروبيين والأمريكيين ومن الجهة الأخرى.
لاحظ أيضاً أن الأدب الإفريقى حتى يصعد للعالمية، لابد من أن ينطلق من عاصمة غربية وبلغة غير اللغة الأصلية للأديب (ذي الأصول الإفريقية) المقيم هناك بصفة دائمة، والذي لا يستخدم من إفريقيا الا خلفية أسطورية لكتاباته باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
لقد أسروا إفريقيا مرة أخرى وعاد لها الإستعمار ولكن ليس في صورة جيوش تغزو برها البحر وأساطيل تغلق بحرها، وهم يعرفون جيدا أن مصر هى بوابة إفريقيا جغرافيا، وأن المنافس الأقرب لهم في إفريقيا هى مصر ومعها بقية الدول العربية، في الشمال والتى تلقى نصيبها يوميا من مخططات الفتن وزعزعة الأمن في كل حين بدعوة جديدة.
إقرأ أيضا : “كليوباترا” ذات العيون البنفسجية !
ولذلك لابد من أن يحفروا أخدودا نفسيا – كما حدث في أزمة كليوباترا – بعرض إفريقيا يفصل ما بين الشمال والجنوب يضارع الأخدود الجيولوجي في شرق القارة الذي يفصل ما بين إفريقيا وآسيا، وتزامنا مع هذا الأخدود الجديد لابد من إحداث تصدعات نفسية وليس سوى فن التمثيل أو الرياضة كطريقين يحدثان أسرع الأثر.
ولعل المثقفون العرب يدركون أن إفريقيا تسرق منهم كما سبق أن سرق الاستعمار الأوروبي والهيمنة الأميريكية ما لا يعد ولا يحصى من ثرواتها وما زالت الكيانات الاقتصادية الغربية تكمل مسيرة الاستعمار التى لم نكد نشفى منها حتى أدمناها في صور أخرى في اغتراب عمدى نمارسه يوميا في الفن والرياضة والثقافة.