رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمود حسونة يكتب: كليوباترا ومتسولو شيكاغو !

بقلم: محمود حسونة

قدر الملكة المصرية المقدونية كليوباترا أن تظل مصدراً لإثارة الجدل عبر العصور المختلفة، سواء في حياتها أو اليوم بعد أكثر من 2000 عام على انتحارها، داعبت سيرتها خيال مخرجي السينما العالمية، لكنها ظلت بعيدة تماماً عن خيال مخرجينا ومبدعينا، تركناها لهم يقدمونها حسب رؤاهم وأجنداتهم ومصالحهم وجلسنا على مقاعد المشاهدين، نصفق أحياناً وننتقد أحياناً ونتذمر أحياناً من دون أن يحرك ذلك ساكناً فينا، أو يحرضنا على أن نحكي قصتها وحكايتها الحقيقية للعالم، باعتبارها جزء من قصة حضارتنا، التي نتباهى بها أمام الدنيا، ونتركها مشاعاً لناهبين امتلأت متاحفهم بآثارنا ولمزيفين نجحوا في تزييفها عبر الفن وغيره ونحن متفرجون ومندهشون وأحياناً متذمرون، لنؤكد لهم ولغيرهم عجزنا عن أن نحكي للعالم قصة حضارتنا وعاجزين عن أن نحمي تراثنا ونحرس تاريخنا.

إقرأ أيضا : هل حملة الهجوم على فيلم (كليوباترا السمراء) ستمنع عرضه على (نتيفليكس)؟!

منذ اختراع السينما، وشخصية كليوباترا حاضرة في السينما العالمية، تناولوها برؤى مزيفة منذ أول فيلم تم تقديمه عنها وكان صامتاً عام 1917 باسم (كليوباترا ملكة مصر) من إخراج جيه جوردون إدواردز وبطولة ثيدا بارا، وحتى ( مسلسل كليوباترا ) الذي عرضته منصة نتفليكس مؤخراً، والذي تجاوز المنطق وثوابت التاريخ ومحددات الأعراق وعبث بالتاريخ وحاول التشكيك في صناع حضارة علمت الدنيا، وقدمها سوداء اللون مجعدة الشعر قصيرة القامة فقيرة الملابس، وكأنها من متسولي شيكاغو.

مسلسل (نتفليكس) الجديد ليس تقديم عمل فني عن حياة كليوباترا

نيفلكس وكليوباترا

أشهر الأعمال التي تناولت كليوباترا فيلم بطولة إليزابيث تايلور في الستينات وجاءت فيه بملامح تايلور، بيضاء البشرة بعيون زرقاء في الستينات، وقاطعناه بقرار سياسي لانتصاره لليهود على حساب مصر وحضارتها، وبعد الصلح مع إسرائيل تم عرضه في مصر بقرار سياسي أيضاً، لنجلس على مقاعد المتفرجين، نشاهد ونصفق أو نشاهد وننتقد.. لا فرق، فالمهم أننا مجرد مشاهدين.

قدمت الممثلة السورية سلاف فواخرجي مسلسلاً جسدت فيه شخصية كليوباترا عام 2010، لنجلس أيضاً على مقاعد المشاهدين، بعضنا لم يواصل المشاهدة بعد أن رأى فيه عملاً هزيلاً، وواصلها البعض الآخر من باب التسلية وقتل الفراغ. وفي العام 2016 قدمت شبكة (بي بي سي) البريطانية فيلماً تسجيلياً اسمه كليوباترا، صورت فيه الملكة المصرية كإمرأة قاتلة متعطشة للدماء، تقتل اخوتها وأقاربها من أجل السلطة، وشاهده البعض منا وهو صامت متقبل برضا أو من دون رضا ما جاء به.. لا يهم فقد كنا كالعادة مجرد مشاهدين، وكان هدف القناة – كالمعتاد – تشويه مصر وحضارتها أمام الرأي العام العالمي؛ واليوم تطل علينا منصة نتفليكس بمسلسل قالوا قبل عرضه أنه وثائقي، وبعد الجدل الذي أثير حوله بمجرد الإعلان عنه صنفوه كدراما خيالية، من دون وعي أن أي عمل فني عن شخصية حقيقية من التاريخ لا يمكن توصيفه بالخيالي.

الهدف من مسلسل (نتفليكس) الجديد ليس تقديم عمل فني عن حياة كليوباترا، ولكن تقديمها سوداء اللون والادعاء بأن السود هم صناع الحضارة المصرية، وأنهم حكموا مصر القديمة، وأن المصريين القدماء كانوا سود البشرة، وأننا نحن مصريي اليوم لا علاقة لنا بهذه الحضارة ولا علاقة لنا بمصر التي علّمت الإنسانية، وأننا أحفاد من طردوا المصريين الأصليين من أرضهم واستولوا عليها.

إقرأ أيضا : “كليوباترا” ذات العيون البنفسجية !

أرادت جادا سميث زوجة ويل سميث أن تنال بعض شهرته وأن تصنع لها ولكل عرقها تاريخاً حضارياً، فلم تجد وسيلة لتحقيق الهدفين سوى أن تنتج وتلعب دور الراوي في مسلسل يقدم كليوباترا سوداء البشرة، وهى بذلك تترجم رؤى ونظريا (الأفروسنتريك) الذين تحركهم من داخل أمريكا قوى شريرة تملك المال والنفوذ، تريد أن تبعثر الحضارة المصرية القديمة على من تشاء، وتشوه تاريخ مصر الذي يزعج كل المتربصين بهذه الدولة التي سبقت التاريخ، وأبهرت ومازالت وستظل تبهر الدنيا بما يجود به باطن أرضها من كنوز منقوشة بحروف الخلود.

صناع هذا الفيلم لا يريدون فقط نسب الحضارة المصرية إلى أصحاب البشرة السوداء ولكنهم أيضاً يريدون خلق فتنة بين مصر وأشقائها الأفارقة، فمن الطبيعي أن يغضب هذا الادعاء المصريين، ومن الطبيعي أن يستقبل بعض الأفارقة الانزعاج المصري على أنه تعالٍ عليهم، والحقيقة أن الغضب المصري خال من أية أبعاد عنصرية ولكنه دفاع أصحاب الحق عن حقهم، ودفاع الأحفاد عن أجدادهم، ودفاع شعب عن تاريخه وحضارته التي أضاءت الدنيا بمشاعل الحق والعدل والجمال .

خبراء الآثار وعلماء المصريات لا يتوافقون مع أن كليوباترا كانت بيضاء البشرة زرقاء العينين ولا يتوافقون مع ادعاءات المسلسل المهلهل الذي تعرضه نتفليكس ولكنهم يؤكدون أنها كانت قمحية البشرة متوسطية الملامح، تجمع بين الشكلين المصري واليوناني.

هنا نسأل: هل انتفاضة الغضب المصرية على المسلسل المشبوه تكفي للرد على مزاعمهم ومنع تماديهم في العبث بتاريخنا؟، الإجابة أنها لا تكفي أبداً، لأنها لا تتجاوز كونها مجموعة تغريدات وبوستات سيزول أثرها في غضون أيام، وأيضاً لا تكفي تحركات البعض لمقاضاة نتفليكس، لأن أي محكمة ستعرض عليها هذه القضية سيتم رفضها من باب الدفاع عن حقوق الإنسان في التعبير والإبداع حسب ما يتراءى له، وكذلك لا يكفي ولا يفيد التحرك الدبلوماسي لأنك لو خلقت أزمة دبلوماسية مع أي طرف بسبب مسلسل ستكون أضحوكة العالم، ولا سبيل من أن يكون الرد بنفس السلاح الذي يستخدمونه، بالفن القادر على مخاطبة العالم، والمصنوع بحرفية تفرضه عالمياً وتساهم في تسويقه في أربع جهات الأرض، وليس أي شيء آخر.

فيلم كليوباترا لزاهي حواس.. الخطوة الأصح حتى الآن للرد على مسلسل نتفليكس

فيلم زاهي حوا عن كليوباترا

سمعنا تصريحاً عن نية فضائية مصرية إنتاج فيلم وثائقي عن كليوباترا، ولكن ذلك لا يكفي لأنه سيكون فيلماً نخاطب به أنفسنا كالمعتاد.

الخطوة الأصح حتى الآن للرد على مسلسل نتفليكس هو الفيلم الذي شارك فيه عالم الآثار المصري زاهي حواس والذي لم أشاهده والذي أنتجه أمريكي غيور على الحضارة المصرية، ولكنه جاء بالإنجليزية فقط، في حين أن المسلسل مترجم إلى معظم لغات الدنيا كما أنه يتم عرضه على المنصة العالمية التي غزت كل بلاد الدنيا وأصبحت متاحة لمعظم البشر.

تاريخنا يستحق أن نرويه للعالم بأنفسنا، ويستحق أن نرصد له ميزانيات، ويستحق أن نقدمه عبر كل الوسائط الفنية، ويستحق أن ننقل تباهينا به من منطقة الكلام والغضب ممن ينال منه إلى فعل وإبداع وتصحيح يفند مزاعم أصحاب الأجندات المتربصين بحاضرنا المتآمرين على ماضينا.

mahmoudhassouna2020@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.