بقلم الأديب الكبير: حجاج أدول
في فيلم الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) شاهدنا (العوالم) أي السيدات المتخصصات في إحياء الحفلات العامة والخاصة، وأيضا بعضهن يمارسن الجنس مقابل الماديات، لكن الثلاثية لم تضعهن موضع الكراهية لنا معشر المشاهدين، لنا أن نرفض أسلوبهن، لكنا لن نكرههن ولن نتعال عليهن، فقد بينا الفيلم لنا أنهن بشر. نوعيات بشرية متواجدة، وإن لم يعطنا سببا لعملهن هذا، فهو لم يظهرهن قاسيات مجرمات، وفي الجزء الثاني فيلم (بين القصرين) أتى لنا بشابة جميلة عالمة، أحبها (ياسين) ابن بطل الثلاثية (السيد أحمد عبد الجواد) وأحبته فتزوجها وأخلصت له.
وفي نفس الفيلم، نرى شخصية (أم ياسين) وهى ليست من فئة (العوالم)، وبين لنا الفيلم أنها تزوجت عدة مرات، وفي زيجتها الأخيرة كانت عجوزا وتزوجت شابا أصغر منها، الفيلم يقول هنا: ها هى أنثى بعيدة عن كار العوالم، تتزوج عدّة مرات، وتخرج عن سياق المجتمع الذكوري، تلك المرأة هى (أم ياسين)، زوجها السابق (السيد عبد الجواد)، زير النساء في المكتوم، ونموذج الاستقامة في المعلوم، (السيد عبد الجواد) كره زوجته الأولى (أم ياسين) لأنها رفضت طغيانه!، أي أنها رفضت أن تكون عبدة عنده، رفضت أن تكون مجرد (عنزة) له أن يركنها حيثما يرد وقتما يريد، وليس لها حق سوى أن (تمأمأ) أي تثغو.
إقرأ أيضا : حجاج أدول يكتب: اغتيال شفاعات في فيلم (شباب امرأة).. (1)
أما ابنها ياسين، فهو خجلان من أمه رافض أن تتزوج أكثر من مرة، غاضب أنها عاندت والده حين كان زوجها، فاضطرته لتطليقها!، لكنه بعد قسوته على أمه، أحب عالمة وتزوجها!، موقف سلبي من المرأة تجاه أمه، ثم موقف إيجابي من المرأة تجاه من صارت زوجته.
السيد عبد الجواد في فيلم الثلاثية
(أم ياسين) مكروهة من المجتمع الذكوري الذي تعيش فيه، لكن الفيلم بين لنا لماذا فعلت (أم ياسين) ما فعلت، أوضح لنا أنها رفضت أن تكون دمية عند زوجها (عبد الجواد) المتسلط الغارق في عشق نساء المتعة، فطلقها وبعد طلاقها ارتبكت حياتها في هذا المجتمع الظالم، لكنها أصرت أن تكون إنسانة لها ما للذكور من حقوق، ولم ترضخ للمجتمع الذكوري الظالم، الظلم المتمثل في (السيد عبد الجواد)، فالنساء عنده إما ما يخصون عائلة هو سيدها، وعليهن أن يختبئن ولا يرى أي ذكر ولو شعره من رأسهن، وأما النساء الأخريات فله مطلق الحرية في اللعب معهن والتلاعب بهن، إنه زئر النساء الذي جعلنا الفيلم ندينه ونتعاطف مع زوجته وبناته.
مؤلف الرواية الأصلية هو العم النجيب (نجيب محفوظ)، فبين أعماق شخصياته بموضوعية وتركنا نعيش مع الرواية بدون أن يدفعنا لأي موقف حاد، وكاتب السيناريو هو (يوسف جوهر) فكان الفيلم متوازنا لم يدفعنا لكراهية شخصية ما، بعكس (شباب امرأة) الذي يحرض المشاهدين لكراهية بطلة الفيلم (شفاعات).
أما في فيلم (ريا وسكينة) بطولة نجم السينما وقتها أنور وجدي، الفيلم أحداثه الأساسية واقع حدث بالإسكندرية، وكاتب السيناريو (نجيب محفوظ) الذي كتب بفنيات من عنده ولم يلتزم بالواقع تماما، وإن كان لم يبتعد عن معطيات حوادث (ريا وسكينة)، ومن يريد أن يتعمق في أحداث السفاحتين (ريا وسكينة) فعليه أن يقرأ كتاب (رجال ريا وسكينة) فهو واف، أما مخرج الفيلم فهو نفس مخرجنا الموهوب (صلاح أبو سيف).
فيلم (ريا وسكينة) إنتاج عام 1953، أي قبل فيلم (اغتيال شفاعات) بثلاثة سنوات، في (ريا وسكينة) بيان لدموية زعيمتا العصابة السيدتان (ريا وسكينة)، فلماذا لم نصدم في بيان دمويتهما، ولم نشعر بأن الفيلم يقصد الإساءة إلى النساء، رغم أن الفيلم لم يبين دوافع (ريا وسكينة) لفعل كل هذا الإجرام؟، السبب أن العصابة تحوي أيضا رجالا قتلة دمويين، إذن الفيلم يدين الشر في الإنسان عموما، وهنا ممكن أن نقبل أن نسبة ضئيلة من البشر بها شر فطري، خاصة أن بالفيلم شخصيات بها الخير والحب.
إقرأ أيضا : حجاج أدول يكتب: يا مسافر وحدك.. لست وحدك (1)
إن كان في النساء نوعية الشر للشر مثلما بين لنا فيلم (شباب امرأة)، فهل لا يوجد في الرجال نوعية الشر للشر؟، في فيلم (السمان والخريف) رأينا الشابة المومس وتبينا طيبتها، ومحاولتها أن تعيش محترمة، رفضها الرجل الذي تعلقت به لينقذها، بطل الفيلم الأساسي ظلمها، لكن رجل آخر له دور ثانوي في (السمان والخريف) بين لنا عذاب وحيرة الشابة (ريري) المومس وطوقها للانعتاق من مهنتها، فأحس المشاهد بالتعاطف وإن لم ير تفاصيل حياة ريري.
لماذا لم يفعل فيلمنا (شاب امرأة) ذلك؟، لا أطالب (شباب امرأة) بأن يدفعني للتعاطف مع (شفاعات)، لكن على الأقل أفهم لماذا فعلت ذلك؟، وربما بعدما أفهم السبب، ربما أدينها وأصر على إدانتها، لكن لن تكون الإدانة بهذه القسوة التي عاملها الفيلم بها، فلن أتقبل أبدا مقتلها بتلك البشاعة، ولماذا في نفس الفيلم نجد كل الرجال أبرياء وإن أخطئوا، وشفاعات تستحق القتل وحدها لأنها أخطأت؟
نستمر في التساؤل: ماذا نقول عن الرجل الذي يحترف محاصرة النساء بكل الطرق، وغرضه الأساسي نكاحهن؟، نطلق عليه صفات مخففة فنقول إنه زئر نساء، أو (دونجوان)، نقولها وهى لا تحمل في مضمونا تحقيرا، نقولها ونسرع مبتعدين ونقول عن الشاب المشاكس للفتيات إنه (روميو)، أما المرأة التي تعرف أكثر من رجل فنطلق عليها نعوتا مثل (زانية، عاهرة، مومس)، بالعامية نقول (بتاعة رجالة.. ماشية على حل شعرها)، فرق كبير في تقبل مجتمعنا الذكوري لتصرف المرأة جنسيا وتصرف الرجل.
أنتفق أن الفيلم من قبل العمل فيه قَصد إدانة المرأة؟، طاقم الفيلم أنتجوه لبيان أن المرأة إغواء وإلهاء تطيح بالرجل المسكين، وأن المرأة تسيء للمجتمع، لذا فواجب علينا أن نحاصرها ونكتمها، وإن حاولت العصيان لتعيش حياتها العادية بعقلها هي وإرادتها، مثلا: فيلم (مراتي مدير عام)، المرأة المديرة الناجحة وفي نفس الوقت الزوجة العادية،
إقرأ أيضا : حجاج أدول يكتب : بهجة أفلام الويسترن .. الكاوبوي (2)
فعلينا أن نتخلص منها ولو بأفظع الوسائل! أليس هذا هو رأي المتطرفين دينيا؟ لنستمع لمرة إضافية لتلك النصيحة التي ألقاها أحد الفلاحين عندما كان إمام ينوي الذهاب إلى القاهرة: (الخوف في مصر يا ولاد من حاجتين اتنين البنات والترمايات)، ونلاحظ أن الترام وقتها بالنسبة لمساحة عريضة من الناس أمر جديد لم يألفوه، أمر به قلق الدهس من تلك الآلة الضخمة المتوحشة تماما كما المرأة، كما (شفاعات) في رأي الفلاح المفترض أنه يعبر عن تراثه وعن قريته وأغلب قرى مصر، هنا خشية النفوس من العلوم الحديثة ومن الحراك المستقبلي، هنا الخنوع للقديم ومنه احتقار المرأة.
العوالم في فيلم الثلاثية
(صلاح أبو سيف) المخرج الكبير، كان قاسيا قسوة غير مبررة على شفاعات، والأمر مزعج لأن الفيلم ممتاز ويعتبر من أهم الأفلام المصرية قاطبة، وقرأت أن الفيلم في المركز السادس في قائمة أفضل مائة فيلم، الأمر محزن لأن السينما تعتبر من بنود التثقيف والتنوير، خاصة على المستوي الشعبي، والمتطرفون الكارهون، يعادون الفنون خاصة السينما، لأنها تصل لكل الطبقات بتنويرية واضحة، يعادونها لأنها أساسا تنشر المحبة والجمال وتحارب الكراهية والقبح، يكرهون الفنون لأن الفنون عموما تصل بسلاسة إلى نفوس المتلقين فتبهجها ثم تصعد لعقولهم لتنيرها، أليس هذا دور من الأدوار الأساسية الفنون؟
لتعميق ما أراه أنقل هنا ما كتبه الأستاذ (عادل حمودة) في مقدمة لكتاب (صلاح أبو سيف) إصدارات دار ريشة. كتب ص 34: (وأن السينما عندما تفهم ما تريد يمكن أن تحدث خلخلة في ضمير المشاهد وتعيد ترتيبات حياته بصورة أفضل.. إنها ليست تسلية في الظلام وإنما ركض مستمر على سطح من الكبريت المشتعل، كلام حقيقي يشير لخطورة فن السينما ومقدرتها على اللعب في الدماغ، فهل كان فيلم (شباب امرأة) رسالة تنوير؟، العكس فإن الفيلم يدخل النفوس ويبهجها، لكنه لا يتصاعد للعقل لينيره، بل يتصاعد ليحكم أصفاده، ليؤيد التراث السلبي عن المرأة، فتراثنا في غالبه، يطالب المرأة أن تكون خاضعة مطيعة ذليلة تُكتم داخل خيمة تخنقها، وإن خرجت من الخيمة، فعليها أن تكون باهتة لا مشاعر ولا أحساس بأنوثتها، تكون شكل أنثى ولا أنثى، أي تكون مصمته بعيدة عن أي غريزة.
إقرأ أيضا : حجاج أدول يكتب : عاصفة فنية (1) .. مسلسل (بـ 100وش)
تكون باهتة ركيكة معدومة الشهوة، فليس للمرأة حق الشهوة والاستمتاع بها، فهي مخلوقة لإمتاع الذكور ليس إلا!، وأعطانا الفيلم هذه الصورة المتمثلة في شخصية سلوى، سلوى الملائكية التي تدرس في معهد الموسيقى، ورغم السماح لها بدراسة الموسيقى، فهي أقرب للوحة باهتة سلبية، ليس لها حَشَى وتفتقد نسغ الحياة، وهى بهذا تليق بإمام قارئ (ألفية ابن مالك) والمتجه للدراسة في دار العلوم، سلوى النقية المنقذة لإمام من تلوث طين شفاعات، هكذا صورها لن الفيلم، فهكذا يريدها المجتمع الذكوري، فهى السلوَى من محن المنفلتات أمثال شفاعات، وليحكم الفيلم هذا النموذج الأنثوي، جعلوها تدرس الموسيقى وتعزف البيانو وتغني! وكأن الفيلم يبرئ نفسه من تهمة معاداة المرأة عمّال على بطّال.