بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
قلت لصديقى المنتج التليفزيونى: ألا يغريك نجاح مسلسل (رسالة الإمام) في رمضان الماضى بتقديم عمل دينى جديد، فلقد غابت عنا تلك النوعية لسنوات طويلة بعد أن كانت من علامات دراما رمضان، بل إن بعضها امتد لسنوات مثل مسلسل (محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم) الذى استمر خمس سنوات، و مسلسل (لا اله الا الله) الذى امتد لأربعة، هذا عدا مسلسلات كانت أقصر غطت حياة بعضا من الأئمة كـ (أبى حنيفة والشافعى والشيخ الشعراوى)، وكلها كانت من إنتاج قطاع الإنتاج وشركة صوت القاهرة – المأسوف عليهما – والآن وقد توقفا عن الإنتاج فلماذا لا تتقدم أنت؟
اعتدل صديقى في جلسته كمن سيدلى بتصريح خطير وقال: إن هذه النوعية من المسلسلات تعتبر مغامرة غير محسوبة العواقب ومليئة بالعقبات، وتخوضها وأنت لا تعلم هل تنجح أم تصاب بضربة تبعدك تماما عن مجال الانتاج؟
وعندما لاحظ الدهشة على وجهى أكمل: لن أحدثك عن صعوبة العثور على نص جيد بعد أن غادرنا أساطين الكتابة الدرامية الذين تخصصوا في تلك النوعية، وأقول عنهم (أساطين) لأنهم لم يستعينوا بورش كتابة، أنظر إلى أي مسلسل مما ذكرت، لقد كتبه شخص واحد، قرأ وبحث وعرف كيف يصيغ أحداثها في دراما مشوقة، وحتى لو عثرت على النص الجيد الذى لا يمتلئ بالمباشرة الساذجة ستجده قد سقط في هوة التمجيد المبالغ فيه الذى تعودنا عليه مع شخصيات الماضى، فلقد أضفينا عليهم قداسة ورفعناهم فوق مستوى البشر برغم أنه لا عصمة إلا لنبى، وستقابل بهجوم شديد لو ذكر العمل ما عليهم إلى جانب مالهم، ولن تفلت من كل هذا حتى مع وجود باحثين أكفاء يتأكدون من ضبط الآيات وصحة الأحاديث ومطابقة الوقائع للتاريخ.
وبعد كل هذا العناء تتقدم للأزهر الشريف لمراجعة النص، وعليك تنفيذ كافة ملاحظاته سواء كانت دينية أو درامية، وسواء كنت مقتنعا بها أم لا، و بعدها يتم عرض النص على الرقابة التي قد تعترض على مواقف ربما ترى فيها إسقاطا على الحاضر أو تعريضا بموقف معاصر، أو أن الأمور الدينية تخفى أغراضا سياسية، و إن نجوت بالنص دون تعديلات تضر بدراما العمل ستجد أمامك لائحة بمن لا يجوز ظهورهم على الشاشة.
قلت له: إنهم معروفون (الأنبياء والخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة وآل البيت)، قال صديقى: ولكن هناك من يجيزون ظهور البعض منهم.
قلت له: إنها مذاهب أخرى لاعلاقة لنا بها و…
قاطعنى صديقى: لا أتكلم عن تلك المذاهب، هل تعلم أن علماء الأزهر الذين يرفضون الآن ظهور الأنبياء في الأعمال الدرامية وافق زملاء سابقون لهم على مسرحية (يوسف و زليخة) التي قدمتها فرقة (فاطمة رشدى) في عشرينات القرن الماضى؟، وعلماؤنا الذين رفضوا ظهور (الإمام الحسين والسيدة زينب) في مسرحية (ثأر الله) لعبد الرحمن الشرقاوى وافق زملاؤهم في عدة دول عربية على مسلسل كامل يحمل اسم (الحسين) ويظهر فيه ممثل يؤدى دوره؟، بل إنهم في بداية المسلسل وضعوا قائمة بأسماء العلماء الذين أفتوا بجواز ظهوره وكانوا يمثلون معظم الدول الإسلامية.
وفي العام التالى تم تقديم مسلسل (عمر)، وظهر فيه ممثل يؤدى دور الخليفة العادل (عمر بن الخطاب)، و المدهش أن كلا المسلسلين كانا من إنتاج السعودية وعرضوا على قنواتها حتى قبل الصحوة الحالية، بل هناك مسرحية تونسية قدمت منذ عدة سنوات ظهر فيها الخلفاء الراشدون – رضى الله عنهم جميعا – إلى جانب (معاوية بن أبى سفيان)، وفي مسرحية عراقية ظهر ممثل يؤدى دور كليم الله موسى.
قلت لصديقى: هل تقصد أننا صرنا الأكثر تزمتا؟
قال في سرعة: لن أتورط في الإجابة على سؤالك، ولكن هل تعلم أن فيلم (الرسالة) للمخرج و المنتج العربى (مصطفى العقاد) ظل ممنوعا من العرض في مصر أكثر من 22 عاما بينما يذاع في معظم الدول العربية، برغم أنه حصل على موافقة الأزهر على السيناريو قبل التصوير!.. تخيل لو أننى أنتجت مسلسلا تمت الموافقة عليه ثم تم منعه من الإذاعة؟: أليس هذا كافيا بالقضاء علىَّ ماديا وأدبيا؟
قلت له: من الممكن أن تختار موضوعا يبعد عن المشاكل.
ضحك صديقى : لا يوجد في المسلسلات الدينية أو التاريخية ما هو بعيد عن المشاكل، فنحن مازلنا نخوض حروبا بدأت منذ أكثر من 14 قرنا، فالدنيا قامت ولم تقعد عندما أعلنت جهة إنتاجية سعودية عن تصديها لتقديم مسلسل عن (معاوية بن أبى سفيان) برغم أنه من الصحابة، ودارت معركة على وسائل التواصل بين الرافضين والمؤيدين للمسلسل حتى قبل ظهوره – وكأننا عدنا إلى زمن الفتنة الكبرى – وتساءل البعض هل المسلسل لتبرئة معاوية أم لإدانته؟، وكأننا ننتظر حكم التاريخ عليه من خلال مسلسل ؟!، أو كأن لو برأه المسلسل سيدخل الجنة بغير حساب؟!، ونسى الجميع أنه يمكن أن نقدم عدة مسلسلات كل منها يحمل وجهة نظر مختلفة عن شخصية واحدة دون تحريف الوقائع التاريخية، وتلك هي مهمة الفن الحقيقية.
ولكن السؤال: كيف نتحرى الدقة في الوقائع التاريخية وهناك خلاف بين المراجع، فعلى سبيل المثال معظم المراجع تقول عن (الإمام الشافعي) أنه قد قتل، وبعضها يقول مات بسبب مرضه، وأعتقد أن هذا الخلاف هو السبب في إنهاء المسلسل بموته دون أن نعرف كيف؟!
قلت لصديقى في عناد: ليس معنى هذا أن نتوقف عن إنتاج المسلسلات الدينية والتاريخية.
قال في سرعة: لم أنته بعد، فهناك معوقات لم أذكرها لك، أولها التكلفة الضخمة لتلك الأعمال المتمثلة في تصنيع الملابس والديكورات والإكسسوارات الملائمة للعصر بكل دقة، طبقا للمراجع لو كانت متوفرة، وهو ما يستلزم من المصممين كثير من البحث والتدقيق، وكل ماستصنعه من سيوف وحراب وخوذ وأدوات طعام وأثاث ربما لا تستعمله مرة أخرى، ثم هناك تكاليف الاستعانة بمجموعات كبيرة من الكومبارس، وبالطبع عدد ضخم من الخيول والجمال وما يستتبعه ذلك من ضرورة وجود خدمات لوجستيه لكل هذا العدد في منطقة مكشوفة كأماكن تغيير ملابس ودورات مياه وأماكن لراحة الفنانين والفنيين وساحات مغطاة للتصنيع والتخزين، ثم تخيل قيمة إيجار سياراتى إسعاف بطاقم أطباء طوال أيام التصوير، هذا عدا الخدمات البيطرية.
ولن أحدثك عن صعوبة العثور على ممثلين يتقنون اللغة العربية وركوب الخيل وقبول ظروف التصوير غير الآدمية في الصحراء صباحا حيث الحرارة القاسية ومساء حيث البرد القارس والناموس القاتل، بدلا من التصوير داخل ستوديو مكيف ومعد خصيصا للعمل.
قلت لصديقى: ولكن كثيرا من المسلسلات يتم تصويرها خارج الاستوديوهات.
قال في هدوء: لكنها لا تثير المشاكل ولا تتعرض للمنع، ثم أضاف مبتسما: مالها المسلسلات الاجتماعية التي تدور داخل الفيلات والقصور أوحتى الشقق والحارات؟ زوج وزوجة وعشيقة، أو شوية اخوات يطلعوا مش اخوات، أو أربع زوجات وعيل تايه وشوية خناقات، ماهى بتنجح وتكسّر الدنيا، نوجع دماغنا ليه؟