بقلم الأديب الكبير: حجاج أدول
(شباب امرأة)، فيلم ممتاز يبقى في ذاكرتنا السينمائية طويلا، فيلم يؤثر في وجداننا عميقا لأنه فيلم مترع بالتشويق الفني، والمخرج (صلاح أبو سيف) ليس بالمخرج البسيط، فهو قيمة سينمائية تنفيذية وتعليمية وفكرية، والمؤلف الأصلي (أمين يوسف غراب) أديب له أعمال شهيرة، وشارك في كتابة السيناريو مع صلاح أبو سيف.
حكاية الفيلم حكاية تهز الوجدان وتخايل العقل رغم بساطتها، الشاب إمام، ويقوم بالدور الفنان شكري سرحان، ريفي فقير بسيط أقرب إلى السذاجة، تبيع أمه جاموستها لتصرف على تعليمه، نشاهده يقرأ في ألفية ابن مالك، أما (شفاعات) فهي تلك الأنثى المتوقدة في قمة النضج الأنثوي، وقد بدأت في منحنى النزول من تلك القمة، وهذه فترة ترعب نسبة كبيرة من النساء.
(شفاعات) لها عشاق متوالون، تشاهد الشاب (إمام) القوي وهو ينقذ رجلا من السحق تحت حجر الطاحونة الرهيب، وسندرك خلال الفيلم أن (بغل السرجة) هو رمز يشير لإمام الشاب القوي كالبغل، هنا شفاعات (النداهة) شهوتها الجنسية تفور فتغري (إمام) بأنوثتها ونضجها ومالها، فيسقط في حبائلها وينسى صَلاته ودروسه كما نسي تحذير أهل قريته، فيقفز في البحر الغويط الغميق لينضم لما سبقه من الضحايا الغارقين، نجحت النداهة (شفاعات) في استلاب شاب جديد وتكتيفه تكتيفا محكما لتمتص شبابه.
هنا يأتي دور العشيق السابق العجوز (حَسَبو)، ويقوم بالدور الفنان (عبد الوارث عسر)، فيحذر (إمام) ليأخذ العبرة مما جرى له شخصيا، فقد سقط (حَسَبو سابقا) في حبائل شفاعات، وكانت النتيجة فقده لوظيفته ودخوله السجن، وبقي تابعا لها يتلقى الإهانات منها، ولما أصابته الشيخوخة، بحثت شفاعات عن غيره، والآن الدور عليك أنت يا إمام لتأخذ وقتك في طابور عشاق شفاعات، ثم ستلقيك بك في استهانة غليظة، فعليك الهرب من سطوتها أيها الشاب الغرير.
ويلاحظ أن نفس أقوال (حَسَبو) في (شباب امرأة) هى أقوال (إبراهيم بك) الذي كبر وشاخ وصار يجلس على كرسي متحرك في فيلم (الأسطى حسن)، وقام بالدور (حسين رياض) فهو ينصح الشاب (حسن) بالابتعاد عن (كوثر)، فكوثر كل فترة تحب كلبا جديدا، تقريبا تطابق في هذا الموقف مع (حَسَبو)، و(صلاح أبو سيف) هو مخرج الفيلمين، وإن كان لم يكتب أو يشارك في سيناريو (الأسطى حسن)، وربما هو الذي أضاف هذا الجانب تأثرا بتجربته مع (كارولين) تلك المرأة التي أغرته في فرنسا، كما سيتضح فيما بعد.
يحاول (إمام) الهروب، خاصة بعد أن تعرف بالفتاة الشابة (سلوى)، وتقوم بالدور (شادية)، وهى من عائلة أعلى منه في المستوى الاجتماعي والمادي، وبزواج (إمام) منها سترفعه لمستواها، وهنا لنا وقفة، ولماذا تقبل عائلة مستواها عالٍ بشاب مستواه أقل وأقل بكثير؟، هل فتاتهم فاتها قطار الزواج؟: لا، فابنتهم في ريعان شبابها، ربما ابنتهم قبيحة؟، أبدا فابنتهم جميلة، إذن فتاتهم مريضة أو بها عاهة ولن يقبل بها أي فتى من مستواهم، فقالوا نأتي بمن هم يرضى لأن مستواه ومستوى عائلته أدنى، ولا هذا متواجد في الفيلم، ولا حتى وجدنا أن (إمام) طالب نابغ ومستقبله سيكون باهرا، ولا حتى هذا.
إذن نقول أن هذا الموقف (مفبرك) أي مصنوع، أي محشور لسبب نفسي عند المسئولين عن الفيلم، أو لسبب شباك التذاكر هذا الغول المخيف، المهم.. كادت فكرة زواج (إمام من سلوى) تتفاعل، لكن (شفاعات) الشريرة دست سلسلتها الذهبية في متاعه واتهمته بالسرقة، إمام والتهمة قد لبسته، يضطر للرضوخ ويتزوج من شفاعات، وتأتي عائلة إمام لترى هوان ابنها الذي سقط في غواية أنثى القاهرة، رغم التحذير الأولى الذي قيل له قبل الاغتراب.
عندما يحاول (إمام) الهروب مرة أخرى تمسك به (شفاعات) لتمنعه، يتدخل (حَسَبو) العشيق السابق الموتور منها، يدفع شفاعات من الدور العلوي لتسقط في الدور الأرضي تحت حجر الطاحونة الضخم، ولا يستكفي (حَسَبو) بهذا، بل يسرع هابطا ليستحث البغل ليتحرك بحجر الطاحونة، فيسحق (شفاعات) سحقا مروعا مفزعا للمشاهد، وهذا المشهد الدموي من أقسى المشاهد في السينما المصرية.
بعد سحق (شفاعات) يبكي إمام، فهو الذي أنقذ سابقا رجلا من السحق تحت نفس الحجر الضخم، لكنه هنا هو سبب من أسباب سحق المرأة تحت نفس الحجر، إمام لم ينقذ المرأة، لم ينقذ (شفاعات)، فالرجل له الإنقاذ والمرأة عليها أن تُسحق!.. حزينا يبقي (إمام) أمام جثة الأنثى (شفاعات) التي ظَلمت الرجال حسب ما أفادنا الفيلم، وهى حقيقة.. ظَلمت وظُلمت من الجميع، لكن الفيلم صورها ظالمة فقط، صورها (النداهة) التي تغري الذكور الفحول لتمتصهم ثم تلقي بهم بقايا رجال!، الفيلم جعل منها شيطان جنسي جشع بشع، هكذا وبدون إبداء الدوافع!، وكأن القائمين على الفيلم، يقولون: يكفيكم أن تعلموا أنها أنثى جميلة مستقلة وتعيش في مدينة، إذن فهى مدانة؟!
سؤال أسأله لنفسي كلما شاهدت هذا الفيلم: لم كل هذه القسوة على المرأة شفاعات؟، ما كل هذه البشاعة في مقتلها؟
كاتبا السيناريو لم يتساءلا: لماذا شفاعات صارت هكذا؟، الأديب من أساسيات عطاؤه التعمق في الأسباب لا أن يأتي بالنتيجة هكذا من جراب الحاوي، عرفنا من بداية الفيلم أن الشاب الفتي (إمام) محروم من أشياء، فنجد له العذر في سقوطه في أحابيل الأنثى (شفاعات)، لماذا لم يعطنا الفيلم الدوافع في شخصية شفاعات، رغم أن (شفاعات) أهم شخصية في الفيلم، هى محور الفيلم بدون منازع، واسم الفيلم ينم عنها (شباب امرأة)، لم نعرف لماذا (شفاعات) صارت هكذا، ولماذا طُلقت ولماذا ليس لها أبناء؟ إلخ.
يقول قائل:
إنها نوعية من النساء متواجدة.
تكون الإجابة:
ولكنها نوعية نادرة وضروري أن يتم معالجتها سينمائيا وغير سينمائيا!
فعلا توجد نساء شريرات شرهن للشر هكذا، تتواجد النساء من نوع (النداهات) فعلا، لكن الإجابة الصحيحة إنها نوعية نادرة، كما أن نوعية الرجال الأشرار لمجرد الشر أيضا هم نوعية نادرة، فهل بيّن الفيلم ذلك؟
لا نطالب الفيلم وهو عمل فني أن يعطينا تقريرا ساذجا، بل الفيلم مطالب ببيان فني مُشبع لما يحويه من بنود، لم يبين الفيلم أن (شفاعات) ليست النموذج السائد للنساء؟، بل فعل الفيلم العكس تماما، أوحى إلينا أنها النموذج الأنثوي السائد، حتى لو ظهرت الشخصية النسائية الثانية (سلوى/ شادية)، فظهور (سلوى) ظهور ضعيف، ربما لمجرد عمل توازن بين (سلوّى) وبين (شفاعات)، وهذ الرأي ضعيف لأن شخصية (سلوى) في الفيلم باهتة ولا تستطيع مجابهة شخصية شفاعات[1].
وأن كان ليس المطلوب شرح منطلقات شفاعات بأسلوب مباشر ممجوج، وهذا يضر بالفيلم فنيا، فإن المخرج الكبير (صلاح أبو سيف) فعل هذا، فقد بدأ الفيلم بالتقريرية الممجوجة، ألم نشاهد ونقرأ في بداية الفيلم تلك اللافتة البليدة: (إلى كل شاب يغترب عن أهله وبلده طلبًا للعلم، وإلى كل والد يريد أن يحقق لابنه مستقبلا مرموقا نهدى هذا الفيلم ليعرف الأول مواطن الزلل فيتجنبها، ويدرك الثاني طريق الاستقامة فيسلكه)!
لم يكتف الفيلم بأن يضع تلك اللافتة السخيفة، بل قرأها صوت عميق لناصح يفترض أنه حكيم أمين!، لن أمل من التساؤل: لماذا لم يبين لنا الفيلم بطريقة فنية ولو سريعة، أعماق (شفاعات) النفسية؟، لماذا لم يوضح لم هى بكل هذا الجبروت؟ لِمَ لَمْ يأت لنا الفيلم بأمر واحد في حياتها دفعها لكل هذا الشر؟، أليست هى الشخصية الرئيسية في الفيلم؟ أليست هى محور الفيلم؟، لم يفعل الفيلم هذا لا بفنية ولا بمباشرة، فالفيلم نيته واضحة: إدانة شفاعات وتحية شباك التذاكر.
…………………………………………………………..
[1] في مقدمة كتاب مذكرات صلاح أبو سيف التي كتبها الأستاذ عادل حمودة ونشرتها دار ريشة، كتب الأستاذ طارق الشناوي في مقدمة الكتاب ص 18، وحتى ينجح الفيلم تسويقيا فكروا في إسناد دور إلى شادية لأنها الاسم الأكبر في البيع خارج مصر. كانت تحية تتقاضى 500 جنيه وشكري 300 جنيه بينما شادية 2000 جنيه، رغم أنها تؤدي دورا هامشيا من الممكن الاستغناء عنه، وعادة مع مرور الزمن يسقط من الذاكرة الخط الدرامي الذي أدته شادية، ولا يتبقى فقط سوى (السرجة) و(البغل)، وتلك الأجواء الشعبية و(شفاعات) و(إمام).