بقلم الفنان التشكيلي الكبير: حسين نوح
حقق مسلسل (تحت الوصاية) بكل تأكيد كم مشاهدات كبير وكذلك نجاح كبيراً لدى الجمهور الواعي، وأيضاً كم كبير من النقاد أعرف معظمهم وقدراتهم علي فهم وأهمية النقد حين يكون موضوعي وليس إنطباعيا كما يحدث في بعض الحالات فالفرق كبير، فحين نقرأ ناقد يكتب كلمات مثل: رائع وبديع ومتقمص ومعبر ومناسب وغول وتفوق علي نفسه والمخرج العبقري وحركة الكاميرالرائعى والنجمة الأسطورة والممثل المتوحد والمسيطر على الشخصية.
فنحن هنا أمام نقد انطباعي شخصي طيب، أما النقد الموضوعي ويعرفه النقاد الكبار فهو المدرك والدارس لكل مفردات العمل الفني من الورق وتطور الحدث وزراعة علة التغيرات في أداء الشخصيات والحبكة الدرامية، وأن تتحدث الشخصيات بثقافتها في الورق وليس بثقافة الكاتب أوالفنان، وأن الممثل الجيد إنما بالتعايش والتوغل في مكنون الشخصية المكتوبة ويرتدي ملابسها بدقة ووعي، وعلينا إدراك أن الإخراج الحقيقي ليس بشقاوة حركة الكاميرا وأن الدكوباچ (تحديد أماكن الكاميرا في نسخة المخرج علي الورق) يستخدم ليقدم قيمة ومعنى تضيفه، وتؤكده حجم اللقطات وأوضاع الكاميرا مدركاً أن ذلك يحدث بتحديد نوعية الكادر بقيمة الكلمات التي يرددها الممثل فيكون الكلوز للكلام المحوري المهم وليس لتأكيد ملامح وجمال البطلة.
أما الديكور فيكون من خلال وعي مهندس الديكور وبمشاركة المخرج فيكون الديكور من واقع ثقافة من بداخله، فمنزل أستاذ الجامعة يختلف عن منزل مقاول أو مهندس قادم من المجتمعات الغربيه أو تاجر في منطقة شعبية، وينظر ايضاً لثقافة الزوجه فقد شاهدت أعمال لنجمة كبيرة وأراد المخرج أن يبهرنا فجعل منزلها بلاستيكي الطابع، وشعرت أنني في مركز تجميل أو محل أحذية رغم أن البطله تحولت من فتاة فقيرة من حي شعبي إلى سيدة أعمال بقدرة الورق الساذج والمجاملات غير الموضوعية، وهنا أيضآ لا يعرف المشاهد كيفية هذا التحول وكيف تتعامل تلك الساذجة مع مخاطبات ومراسلات البنوك ومكاتب المحاسبه والإيميلات وغيرها من مواصفات يعرفها رجال وسيدات الأعمالـ ولكن ورق طيب ومخرج طيب والنتيجة أعمال سوتيه مسلوقة لا تقدم إلا إستنفاذ الوقت.
أنتقل للتصوير ومدير الإضاءة فيبذل بعض عظماء التصوير مجهوداً كبيرآً ولكن لا ينال إلا كلمات مثل الإضاءة جيدة ورائعة وجميلة ولا ينظر البعض إلى من أين جاء مصدر الضوء ولا حجم اللمبات المستخدمه ولا لماذا استخدم الخمسات أو الاتنين كيلو وكيف كان تآثير البيبيهات الصغيرة لعمل بقع ضوئية ليحدث تأثير جمالي، ولكن الغرض هو فرش نور وتكون النتيجة طيبة والنقد طيب ويحبط مدير الإضاءة ويقلل من مجهوده وتكون النتائج في بعض الاعمال ساذجة، وقد تصل إلى الإزعاج البصري والعقلي للبعض.
الاضاءة عامل أساسي وجوهري لفن السينما فقيمة الضوء يعرفها المتخصصون وأن زيادتها تعبر عن بهجه وقلتها تعبر عن كآبة وحزن ويربط ذلك مسار الدراما في السيناريو، وأتذكر هنا فيلم (باري ليندون) 1975 للمبدع (ستانلي كوبريك) والحائز على جائزة الأوسكار لأفضل تصوير سينمائي لـ (جون ألكوت)، حيث استخدم إضاءة الشموع فاستعان المخرج بكاميرا خاصة لتلتقط إنارة الشموع فالأحداث في القرن الثامن عشر، وهنا استحق (جون ألكوت) جائزة الأوسكار عن التصوير.
الموضوع يحتاج إلى صفحات ولكن فقط أحاول تأكيد أن الفنون لكي تتقدم وتبدع لابد من نقد موضوعي مدرك لكل مفردات العمل الفني، فالفنان الحقيقي ينتظر ناقدا حقيقيا يساعدة على الاجتهاد والتجويد وتصحيح المسار في بعض الأحيان، وحين نتحدث عن التمثيل فقد شاهدنا كيف تعايشت النجمة (منى زكي) مع (حنان) في كل حركة وأسلوب وملابس، وكيف تجاهلت النجمة (مني زكى) نفسها وتركت لنا (حنان) المظلومة والمطحونة والخائفة من الذئاب من حولها، وكيف تقوى وتجري الدموع في الجفون وكيف تتلعثم وهى أمام القاضي تخرج الكلمات بشفاة يعتصرها الحزن في مشهد يحفر في الوجدان وفي تاريخ الفنانة.
لقد شاهدنا كيفية تماس الأداء الواعي بعبقرية التمثيل، وهل نتذكر مشهد موت (عم ربيع) والقدير (رشدي الشامي) ينسحب من الحياة والبحر عشقه وهو يترك لها الكاب لترتديه، وهو يردد: إنت الريس، مشهد وأداء وتصوير وإخراج شديد الذكاء والمهنية، وقد اختار المخرج المبدع محمد شاكر خضير الممثلين باقتدار ومهنية، فالبحارة وكأنهم من رجال البحر في دمياط بملابسهم وتباين شخصياتهم المنحوته من نفس معالم (عزبة البرج) التي تم تصويرها بشوارعها الضيقه وبيوتها الملونه، وقد ساعدت اختيارات المخرج لنوعيه ما يستمع إليه البحارة من أغاني عن وعي بثقافة الشخصيات.
وأيضاً شاركت مناظر المراكب والقوارب في رسم لوحات تشكيليه بديعة استخدمها المخرج بحرفية وذكاء وكانها لتقلل من عنف وقسوة الشخوص في الدراما، حتى اختيار الأدوار الصغيرة كان من واقع وخصوصية المكان مثل المدرسات والموظفات واختيار كل المشاركين وحتي المجاميع والكومبارس تم بعبقرية أضافت مصداقية علي العمل.
لن اتحدث عن التمثيل وباقي النجوم فقد تناولتهم في مقالة سابقة، إنما هنا أتحدث عن الاقتراب من الكمال، فالموسيقى من نسيج العمل وموطنه والملابس أيضاً ساعدت على مصداقية الممثلين، فقد تعايش المشاهد مع العمل وامتزج بأحداثه، لقد أكد هذا العمل أن لدينا كل المقومات والعناصر والقدرات لتبقي مصر في الريادة عن استحقاق، فخريطة العالم يحاول البعض تغيير معالمها وخريطة الإبداع العربي يحاول البعض إعادة صياغتها، ولكن نحن أحق والحق بالقدرة وليس بالطلب ولا التمني فنحن نمتلك فعلاً وبلا أي شيفونية كل مقومات الابداع الفني الحقيقي، وكيف لا ونحن ثاني سينما فى العالم بعد الفرنسية وأكثر من مائة سنة سينما شكلت وجدان كثير من الدول من حولنا، لدينا كتاب ولدينا مخرجين ولدينا ممثلين ولدينا تاريخ ولدينا مبدعون في كل مناحي الإبداع ونقاد منهم عظماء ومهنيين فالفن المصري بخير.
أثلج قلبي كم المقالات التي أشادت بعمل استحق وبجدارة كل التقدير والاحترام، فمن الكتابه إلى الإخراج والموسيقى والتصوير والملابس واختيار أماكن التصوير وكل العناصرالتي شاركت في عمل يستحق الإوسكار، كامل الشكر والامتنان لكل كتيبة العاملين في (تحت الوصاية) مصر تنطلق وتستحق .