بقلم: محمد شمروخ
في البداية شعرت بغصة عندما وجدت أن الاحتفالية بمئوية ميلاد الملحن الكبير الراحل محمد الموجى، تقام خارج بلده التى كان يجب أن تبادر أجهزتها المعنية بالاحتفال بهذه المناسبة.
فهل نسيت الأجهزة المسئولة عن الفنون المصرية؟!، أم أهملت الأمر؟!، أم تركت الفرصة للأشقاء للتعبير عن اهتمامهم برموز الفن المصرى لأن مصر هى قلب العالم العربي وحاملة مشعل حضارته؟!
لكن على أي حال، فالذي خفف من مرارة الغصة في حلقى، هو أن الاحتفال جاء رائعاً ومبهرا وتابعه المصريون كما كانوا يتابعون فيلم السهرة على القناة الأولى زمان!
والأهم من ذلك أنه احتفال صادق يعبر عن مدى احترام وتقدير الإخوة في المملكة العربية السعودية والخليج العربي للفن المصري.
فالفن المصري فن عربي صميم، ثم إن أذن وذائقة المواطن العربي من المحيط الأطلسي غربا وحتى الخليج العربي شرقاً تتجاوز ضيق الطبائع الإقليمية، لتعود إلى الانتماء العام الرحب الذي يؤكد وحدة الهوية التى تفرضها ضرورات الجغرافيا ومضرات التاريخ، لتزيد من مقاومتها عوامل الفناء والتغريب التى تتساقط علينا تساقط الشهب من السماء في ليلة هجوم الشياطين.
والرائع أيضاً ألا تقتصر ألحان الموجى في الأغانى التى صدحت بها الأجواء في الاحتفالية على غناء مطربين ومطربات مصريين فقط، فشدت بها أصوات مطربين من دول عربية مختلفة أسهمت ألحان الموجي في تشكيل وجدانها في حين الحكم على مستويات الأداء الموسيقى والغنائي.
الغصة ذهبت إذن، بل ووجب تقدير ما فعله الأخوة في الرياض، لكن بقيت الغصة كما هى تجاه الإخوة في القاهرة، فلماذا بدا كأن مصر، لا تحتفل ولا تحفل، على نفس الدرجة أو حتى بدرجة قريبة مما شهدته الرياض!
ألم يكن من الممكن أن تقام احتفالية في القاهرة يشارك فيها أيضا مطربون وموسيقيون من كل العرب؟!، لكن بدا وكان مصر لا تعنى بما اعتنى بها أشقاؤها في المملكة العربية السعودية!
ومازلت حائرا: هل أفرح لمبادرة الرياض أم أحزن لطناش القاهرة؟!، لكن عموماً هناك فرصة لتدارك الأمر سواء للموجي أو غيره، فما أكثر المئويات المقبلة!
لكن المئوية التى تجاهلتها مصر ولا أدرى تجاهلها كان عن عمد أم عن نسيان؟!، ولكن لا أظنه نسياناً، فإن هناك من تذكر وإن كانوا قليلين ولكن الاحتفال لم يكن بقدر ما كان يجب أن يكون عليه لأهمية الحدث!
ففي أبريل الماضي – أي منذ أيام قليلة مضت – وبالتحديد في 19 منه، كان قد مضي قرن بالتمام و الكمال على صدور دستور 1923.
وماذا يعنى دستور 1923؟!
السؤال ليس على سبيل الاستفهام ولا الاستنكار ولا السخرية.
بصراحة السؤال على سبيل (التنبيط)!
آه التنبيط.. لو عاجب يعنى!
تنبيط لأجهزة الدولة التى لم تنتبه ولم تهتم بهذه المناسبة التاريخية العظمى
أتراهم لا يعرفون أن الأمر الملكي رقم 42 الصادر في 3 رمضان سنة 1341 هجرية الموافق 19 أبريل سنة 1923 ميلادية، بوضع نظام دستورى للدولة المصرية، هو يوم فاصل في تاريخ الأمة المصرية؟!، وإن هذا اليوم كان متوجا لكفاح طويل ودماء زكية سالت منذ اندلاع ثورة 1919؟!.. بل يمكن أن نعود برحلة هذا الكفاح إلى فترة الثورة العرابية أو نتجاوز ذلك إلى ما قبل الحملة الفرنسية عندما أجبر زعماء الشعب في المحروسة الوالى العثمانى بتعليق لائحة تحميهم من بطش الانكشارية والمماليك من أعوان الوالي.
دستور 1923 كان بلا جدال أهم محطات كفاح المصريين، فعلى الرغم من اعتراض سعد زغلول وزعماء حزب الوفد والحزب الوطنى على اللجنة التى وضعت الدستور لأنهم لم يضمنوا أن تعبر عن إرادة الشعب وآماله حتى أن زغلول أطلق على لجنة إعداد الدستور اسم (لجنة الأشقياء).
وعلى الرغم من أن الاحتلال الإنجليزي كان جاثما على صدر المصريين،
وعلى الرغم من سطوة حاكم مصر والذي صار بموجب هذا الدستور الملك فؤاد الأول رأس أول أسرة ملكية دستورية في تاريخ مصر والمنطقة كلها.
وعلى الرغم من النخبة المتواطئة مع الاحتلال والملك والتى لا تريد الا مصالحها المباشرة والضيقة، وعلى الرغم من أن زعيم الشعب وقتها كان منفيا مع زملائه.
وعلى الرغم.. وعلى الرغم.. وعلى الرغم.. إلا أن خروج هذا المولود العملاق كان بمثابة رؤية ركاب سفينة للشاطئ بعد رحلة عاصفة أشرفوا فيها على الهلاك!
فقد تمسك المصريون بهذا الدستور وعلى رأسهم حزب الأغلبية الذي سبق أن عارض اللجنة واضعة الدستور، ولكنه لم يعارض الدستور أبدا، بل كافح من أجله وخرجت مظاهرات صاخبة في كل مرة يتم فيها تعطيل هذا الدستور، بل كادت ثورة 19 تتكرر مرة أخرى إثر قيام إسماعيل باشا صدقى بإلغاء دستور 23 ووضع دستور بديل عنه يتيح سلطات أكبر للملك في سنة 1930.
ولم تهدأ المظاهرات حتى أعيد دستور 23 بعد كفاح 5 سنوات سال فيها من الدماء ما حبر صفحات طويلة في كتب التاريخ المجيد لتلك الفترة الفاصلة في عمر مصر.
الخلاصة أن مصر لها أن تعتز وتزهو بذلك الدستور الذي حولها بالفعل من كيان صوري مموه تحت الحماية البريطانية إلى مملكة دستورية حقيقية.. رغم كل ما سبق من رغام!
والتنبيط الثانى أوجهه إلى السادة (اللى فالقين دماغنا) بأحاديث لا تمل ولا تكل عن الدولة المدنية والحقوق والحريات الأساسية التى تكفلها الدساتير. وأن مصر كانت دولة مدنية.. وأن الموضة كانت تنزل القاهرة قبل ما تنزل باريس، فهؤلاء لا يرون في تاريخ مصر إلا تلك الدستورية قبل ثورة يوليو سنة 1952.
وهؤلاء أيضا نسوا هذه المناسبة!
أما التنبيط الثالث، فموجه للسادة أساتذة التاريخ أو المتخصصين في العلوم السياسية والدستورية، أولئك الذين كان لابد لهم من أن ينبهوا الدولة، لأن هذا من صميم عملهم، بل إن رسالتهم الأساسية توجب لهم أن يبينوا للدولة وللناس معا، مقدار كل حدث وواقعة يشهدها تاريخهم وأن هناك مناسبات لا يمكن تجاهلها وان تجاهلها جريمة تاريخية مخزية!
لكنهم في غمرة يعمهون، فلم نسمع منهم ولو نفس عن دعوة لندوة في قاعة بجامعة أو حتى قعدة في مقهى بوسط البلد!
كذلك وجب التنبيط للسادة الكتاب والمفكرين الذين لا يقل دورهم عن السابقين جميعاً!
أنتم فين يا بهوات؟!
حتى لما صدر عدد خاص من إحدى المجلات الشهرية العريقة عن هذه المناسبة، لم يكد يشعر به أحد ولا غارت بقية الصحف ولا المواقع لتحذو حذوها!
إن فوات شهر أبريل دون أن يظهر في الصحف أو على جوانب الشاشات في القنوات الرسمية وشبه الرسمية، شعار (100 سنة دستور) لهو جريمة ثقافية وسقطة إعلامية لا تغتفر، ففيما يبدو أننا سنظل طويلاً بحاجة إلى أخ عربي ولو على غرار (الكفيل) ليحتفل بالنيابة عنا، بمئوية الدستور المصري بإقامة فاعلية تحت عنوان (100 سنة دستور) ولتكن في أي عاصمة عربية، فلعل السادة المحترمين من الفئات السابق ذكرها، يحجون إليها ليصعدوا إلى المسرح تباعاً ليلقى كل منهم كلمة يحيي فيها مناسبة مرور قرن على الدستور!
(تخيلوا يا جدعان مر قرن بحاله على أهم حدث دستورى في القرن العشرين بصدور أول دستور متكامل ينظم العلاقة بين الحكام والمحكومين.. واحنا ولا احنا هنا)!
حقا كانت هناك أصوات احتفلت على استحياء ولكنها بدت كطنين نحلة في وسط ضجيج الليلة الكبيرة في مولد السيدة زينب!.
نظرة يا ست ومدد يا أم العواجز.. مدد!