مصطفى درويش.. رحيل مبدع حقيقي شهم وجدع!
كتب: محمد حبوشة
يعتقد الكثيرون أن الممثل البارع من يلعب دوره بشكل طبيعي ودون اصطناع واضح، لكن الحقيقة، وفقا للمخرج والمشرف الفني (ماركوس)، إن أداء الدور بعيدا عن الاصطناع أمر مفروغ منه، ولكن التميز يكمن باستطاعة الممثل على مفاجأة الجمهور بردود فعله وعدم قدرة المشاهد على التنبؤ بما سيقوم به، مثلما كان يفعل الفنان الراحل (مصطفى درويش)، على سبيل المثال، يمكنك تخيل ردة فعل الإنسان لدى فقدانه لشخص عزيز، هنالك عدد كبير من الانفعالات الإنسانية التي يمكن أن يتقمصها الممثل في هذه اللحظة، ولكن مهمة الممثل الجيد فهم هذا الطيف الواسع من الانفعالات وإدراك عمق كل منها وعلاقتها بالشخصية التي يؤديها، ومن ثم اختيار الأداء الأنسب، عدا ذلك يتحول الممثل إلى شخصية مملة تكرر انفعالاتها بشكل مبتذل.
وربما يعود تميز الراحل الفنان (مصطفى درويش) – على قدر رحلته القصيرة – إنه هو واحد من المؤمنين بأن مهنة التمثيل تعد من أصعب المهارات المتوقعة من الممثل، والمقصود بالقدرة على الانكشاف العاطفي أو كما يسميه البعض (التعري العاطفي) استعداد الممثل لعرض مشاعره الإنسانية بشكلها الحقيقي في موقف درامي ما ضمن القصة التي يمثلها، إذ يكمن سبب ضعف الأداء لدى العديد من الأشخاص في هذه النقطة، ولأن (درويش) من الممثلين القلائل الذين فهموا معنى التمثيل ومارسوه بإبداع، يتقن دوره وينسحب بصمت، وهو أيضا من الممثلين المصريين المعدودين من المبدعين الحقيقيين، أولئك الذين يشخصون الأدوار المركبة بحرفية واتقان، لغته الجسدية تتماهى والدور الذي تتقمصه، تسايره ببراعة وإحكام، بريق عينيه يكشف ذكاءه، إذا تكلم عن الفن تشعر بغيرته عليه وحبه له.
على الرغم من عمره القصير في مهنة التمثيل فإن (مصطفى درويش) أثبت أنه فنان استثنائي يعرف كيف يروض الكاميرا، وكيف يقبض على اللقطة، هو ابن هذا المجتمع بواقعه وخياله، فكلما أغمضت عينيك، وفتحت جهازك، وتناهى الى سمعك صوته، تقول هذا هو، لأنه بارع في التسلل الى دواخلك، يقرأها ويرددها أمامك، فتصفق لبراعته، وتندهش لتشخيصه، ثم تهمس بإعجاب، إنه بطل، أجل هو بعينه، يصرخ، يبكي، يحزن، يغضب، يفرح، يبتسم، يتجهم.. كل تصرف، كل حركة، كل سلوك تجده متقنا متميزا، متمرد على ذاته، وعلى صورته الواقعية داخل الشاشة.
قلما تجد (مصطفى درويش) في أعماله التي تقترب من الثلاثين عملا مستنكفا أو مهملا مهما كان حجم الدور، إذ يتجرد من شخصيته الأصلية ليتقمص أخرى لا تشبهها في شيء، ينحي حياته الواقعية جانبا، ليبدأ مع كل Action حياة أخرى، لا تشكل بديلا يهرب إليه، أو عملا يقتات منه كما يفعل البعض، بقدرما تشكل إبداعا متكامل الأركان في شكله وجوهره.
مصطفى درويش، لم يمكن ممثلا عاديا كغيره من الممثلين، كثيرون هم الممثلون الذين ينطون صباح مساء داخل قنواتنا، ومسارحنا، لكن القليل منهم فقط يمارس التمثيل الحقيقي الصادق، و(درويش) اعتاد أن يمارس جلد الذات (self-flagellation) بمفهومه الفني والنقدي، يمارسه أمام الكاميرا بإتقان، يمارسه في كل دور يشخصه، لم يستدرج إلى هذا المجال اعتباطا، بل عن موهبة واستحقاق، فرض نفسه فرضا فأبان عن قدراته الإبداعية التي فاقت بعض الأعمال التي شارك فيها، كان مرآة عاكسة للإنسان المصري (الجدع والشهم) بتفاصيله الظاهرية والباطنية، كانت موهبته مشرعة على رياح التجديد والتغيير من عمل الى عمل، لم يستسلم للكاميرا أبدا بل قاومها بجمالية تشخيصه.
كان ومازال يخطو خطواته الأولى بحثا عن الذات، فنجح في ذلك وتفوق، هو فنان مبدع هاجسه التفرد والتميز، يكفي أن تنادي اسمه حتى يصفق المصريون افتخارا واعتزازا، يجد ويجتهد قدر الامكان حتى يصوغ ذاته الفنية بين الحلم والواقع، لا يتكلم بالضرورة ولا يصرخ حتى يفرض نفسه، إيماءات جسده وتعابير وجهه تكفي، فكلتاهما تختزلان لغته الغنية بشرف التحدي والمواجهة، تحدي الكاميرا ومواجهة الجمهور، تلك اللغة الصادقة المجنونة التي يخاطب بها ذكاء المشاهد وفطنته.
(مصطفى درويش)، ذاك المبدع الشعبي الحي الذي انبعث من بين الرؤوس الحليقة، والأحذية البالية، والأنامل الجريحة، موهبته تسقي وتروي بذور الإبداع الحقيقي، يخاطب الشعب بلسانه وواقعه، يشتغل أكثر مما يتكلم، يحمل صخرة فنه بإصرار إلى القمة رغبة منه في معانقة الأمل والنجاح، لا يؤمن بالأساطير المحبطة، أساطير سيزيف نفسه، ولا بالصدف الجميلة.
كانت انطلاقته الأولى مع المخرج خالد يوسف عام 2011 من فيلم (كف القمر)، وما كان يثيرني شخصيا ويجعلني أنجذب لتشخيصه أكثر هو قدرته على اللعب بأوتار الدهشة لدى المشاهد، وقراءة أفكاره وترتيبها بما يتناسب وشخصيته في العمل، هو قارئ جيد لنفسية الجمهور، ذاك الجمهور المصري الذي ولد وترعرع وسطه، قارئ جيد لواقعه وما يرغب في مشاهدته على الشاشة، هو المتمرد العنيد التواق لحرية التشخيص دون قيد ولا شرط، يطلق العنان لموهبته ولا يستسلم سوى للشخصية التي يلبسها وتلبسه، يعرف كيف يجدد طاقته ويتلاعب بها، ينبش جزئياتها وأسرارها بعيدا عن النجومية الفارغة تلك التي يتوهمها البعض من أبناء حرفته فيسقطون في فخ الأنانية ثم الغرور والكبرياء، وفي الأخير يكون الغياب المطلق نتيجة حتمية لأوهامهم تلك.
ويمكننا اعتبار دوره في مسلسل (بـ 100 وش) في رمضان عام 2020، انطلاقته الحقيقية، من خلال شخصية (فتحي) التي جسدها في العمل، وهو أحد أفراد العصابة التي أحبها الجمهور، كما أثر دور مصطفى درويش في سياق الأحداث وبالأخص النهاية بسبب خيانته لأفراد العصابة مما ترتب عليه خسارة أموالهم والعودة لنقطة الصفر مجددا، ومما يلفت النظر أنه كان لدور مصطفى درويش في مسلسل (بـ 100 وش) أثر كبير في تعريف الجمهور به، وتوالت الأعمال الدرامية مثل مشاركته في مسلسل (خيانة عهد)، ومسلسل (ضد الكسر)، ومسلسل (قوت القلوب)، وغيرها العديد من الأفلام والمسلسلات.
شارك مصطفى درويش في الموسم الرمضاني 2023 بأربع مسلسلات وهى: (كامل العدد، تلت التلاتة، إكسلانس،
وسره الباتع) وقدم في (كامل العدد) شخصية مختلفة عما توقعه الجمهور، وللوهلة الأولى قد نظن أن شخصية (عمر) هى مثال للزوج السابق الذي سيقف عقبة في طريق سعادة طليقته والتي جسدت شخصيتها (دينا الشربيني)، ولكن مع تطور الأحداث نكتشف أن شخصيته بعيدة تماما عن (الكليشيهات) التي يمكن أن تقدم بها مثل تلك الشخصيات، فشخصية (عمر) كانت نموذجا للزوج السابق الداعم لطليقته، المحب لأبنائها من زوجها الأسبق، الراعي لأبنائه والداعم لزوجها الجديد، ويحسب لمصطفى درويش أنه اختار تقديم تلك الشخصية فاكتسب بسببها شعبية أكبر وحصل على إشادات جماهيرية كثيرة
ويذكر أن مصطفى درويش شارك في أكثر من 30 عملا من بينها مسلسلات: (راجعين يا هوى، سوتس بالعربي، كله بالحب، إلا أنا، بين السما والأرض، فوق مستوى الشبهات، أبو عمر المصري، لأعلى سعر، أبو جبل، نصيبي وقسمتك 3 ، خيانة عهد، ضد مجهول، أيوب، حكايتي، قوت القلوب، بركة) وفيلم (كارما)، وغيرها الكثير من الأعمال التي أحبها الجمهور، وكان من المقرر عرض اَخر أعماله السينمائية المنتظرة (5 جوالات، وشماريخ) خلال الفترة المقبلة.
رحم الله الفنان الشاب (مصطفى درويش) الذي غادرنا أمس، والذي قوبل رحليه في الوسط الصحفي والإعلامي قبل الفني بالصدمة، حيث إنه كان مقربا من الجميع، فنان روحيا وإنسانيا بالدرجة الأولى، قريب من وجوه كثيرة نقابلها، له طموح وأمل وسعي لا يمل منه، روحه المرحة وتفاعله المستمر الذي كان بجانب الخير الذي يقدمه، لكنه كان يحمل في طياته ألم الوحدة الذي تحدث عنها في الكثير من منشوراته، وهجر النوم له الذي قد يفسر بأنه شعوره بقرب أجله أم طمعا في ساعات إضافية في الدنيا.
كان الراحل الجميل خلقا وفنا يتمتع بمعاملته للجميع بلياقة ولباقة أيا كان من هم، ومساعدة المحتاجين من خلال التطوع في أعمال خيرية بشكل عرفه البعض بشكل مباشر والآخر كان في الخفاء، ما جعل خبر وفاة فاجعة تسبب لنا في ألم كبير، وهو الذي أبدع في أدوار الشر ولكن المعروف أن أبطال الأعمال الفنية الأشرار غالبيتهم هم الأكثر طيبة على الإطلاق، وكم كان لطيفا مع الجميع.
ولا نملك في النهاية إلا أن نردد قول شاعرنا الكبير محمود درويش: الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء، فالموت حقا لا يوجع الموتى لأنهم فارقوا هذه الحياة جسدا، ولكن لا تزال أرواحهم تخلق في كل الأماكن التي حولنا تشبه طيور الحب التي تغرد أجمل الألحان، لا تزال أرواحهم تقف على غصن شجرة البيت وعلى نافذته لتقول لنا: صباح الخير ومساء الخير فإنني هنا لم أمت ولكن كل ما في الأمر أنني أغمضت عيوني لبعض الوقت لأرى الله، وعندما يخطف الموت أحد نحبه يجعلنا نشعر بصدمة الزلزال التي تشق الأرض، يجعلنا وبسرعة البرق نستذكر شريط الحياة لمن نحب، وكأنه كلمح البصر يجعلنا ننهش أرواحنا من القهر والدموع والحزن، يجعلنا نصبح لا نفكر في شيء سوى باحتضان الذكريات التي تملأها الدموع في عيون الرجال، لكي نتسابق إلى ذكر كل تفاصيل من مات بمواقفه وتفاصيله وحبه وحزنه وحياته.