تعرف على اللحن الذي جعل (عبدالوهاب) يجري من وسط البلد إلى ميدان رمسيس
كتب : أحمد السماحي
نحيي هذه الأيام الذكرى الـ 32 لموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب الذي رحل عن حياتنا يوم 4 مايو عام 1991، والذي قال عن نفسه: (لو اردت أن أضع رحلة عمري في كتاب لكان هذا الكتاب مجموعة ألحاني، وألحاني هى التعبير عن حياتي بحلوها ومرها، بسعادتها وشقائها، بأفراحها وأتراحها، والحياة عيد حافل نلتقي فيه جميعا نفرح ونتعذب، لكن كل إنسان له حياته التى لا تتكرر).
والفنان بالذات يعيش حياته مرتين، الأولى كما يعيشها أي إنسان، والثانية عندما يحولها إلى كلمة، أو صورة، أو نغم، لهذا أقول لمن يسألني عن قصة حياتي: (استمع إلى ألحاني تعرفني!).
وبمناسبة ذكرى رحيله نحكي (حدوتة) لحن (سيد درويش) الذي سمعه عبدالوهاب، وبعد سماعه ظل يجري من المسرح في وسط البلد حتى ميدان رمسيس، لكن قبل أن نتحدث ونسرد هذا اللحن نتوقف عند شهادة مطرب الملوك والأمراء في حق عبقري النغم (سيد درويش) التى جاءت في كتاب (عبدالوهاب وأوراقه الخاصة جدا) تقديم الشاعر الكبير فاروق جويدة، حيث يقول عبدالوهاب عن نابغة عصره سيد درويش: يخطئ من يتصور أن سيد درويش أغنية أو لحن، إن سيد درويش فكر، تطور، ثورة، فسيد درويش هو الذي جعلني أستمتع عند سماعي الغناء بحسي وعقلي بعد أن كنت قبله أستمتع بحسي فقط، إنه فكرة العصر التى لولاها لما لحن الملحنون بالأسلوب الذي يلحنون به الآن، ولا ننسى أنه أول من أدخل اللهجة المسرحية السليمة الحقيقية للأعمال الغنائية المسرحية.
(من أفضال الشيخ سيد درويش على الألحان العربية أنه أدخل الأسلوب التعبيري في ألحانه حتى في الأدوار التقليدية الكلاسيكية التى لحنها، ومن أفضاله أيضا أنه كسر المقامات المتجاورة في لحنه، فقبل الشيخ سيد كان الملحن يتحسس المقامات أي يحوم حول مقامات النغمة مقاما، مقاما، ولا يجرؤ على أن يقفز من مقام إلى مقام على مسافة بعيدة، خوفا من الضياع أو النشاز، وإذا قفز، فإنه يقفز في حدود المقامات المعدة لها أذن المستمع).
إلى هنا انتهى جزء من كلام محمد عبدالوهاب عن سيد درويش، والآن تعالوا بنا نسمع من موسيقار الشرق ذكرياته عن قصة اللحن الذي جعله يعدو من وسط البلد إلى ميدان رمسيس كما ذكرها في مذكراته التى نشرها المحامي والكاتب (محمد رفعت) في بداية الستينات، حيث يقول: عندما تركت فرقة (علي الكسار) كان سيد درويش قد انفصل هو الآخر عن فرقة (نجيب الريحاني) واستقل بفرقة أعدها لتعمل لحسابه في مسرح (برنتانيا) مكان سينما (كايرو بالاس) الآن، وفي أثناء انهماك سيد درويش في إجراء بروفات أوبريت (شهرزاد) قابلني أحد الزملاء الممثلين ولعله الأخ فهمي أمان، وعرض على أن أصحبه لسماع بروفات ألحان الرواية، فذهبت معه وفي نفسي سرور لا يوصف بهذه الفرصة الفريدة.
وجلست في صالة المسرح استمع إلى الألحان كنت في هذه اللحظة أجلس في خشوع وإنصات كما لو كنت في معبد أصلي فيه صلاة روحية، وكانت الأنغام تصل إلى أذني كأنها أوامر مقدسة لاترد، وكنت مفتونا بهذه الألحان والموسيقى التى تهدهد النفس، وهناك حدث أمر غريب ما زلت حتى اليوم لا أدري له تفسيرا، حادث ربما لا يحدث مثله إلا في دنيا المجاذيب، ومع ذلك وقع بالضبط كما أرويه!.
فقد بدأت الفرقة تؤدي بروفة لحن يقول مطلعه:
أنا المصري كريم العنصرين
بنيت المجد بين الاهرمين
جدودي انشأوا العلم العجيب
ومجرى النيل فى الوادي الخصيب
ويستكمل موسيقار الأجيال كلامه قائلا: وجلست استمع إلى ذلك اللحن ذاهلا عن كل ما حولي، كان فيه سرا يصل ما بينه وبين إحساسي بشيئ يسلب إرادتي، وما إن انتهى اللحن حتى رأيت نفسي أعدو بكل ما أملك من قوة، وظللت أعدو من وسط البلد حتى وصلت إلى ميدان باب الحديد – ميدان رمسيس حاليا – ثم جلست على أحد الأرصفة ألتقط أنفاسي وأمعن الفكر في السبب الذي دفعني إلى هذا التصرف الغريب، لم يكن ثمة سبب واحد أراه معقولا لتفسير ما فعلت!.
كل ما استطعت أن أصل إليه هو أنني سمعت لحنا خارقا لما تعودت سماعه، وأنني جريت بكل قوتي كما لو كان شيئا مخيفا يطاردني، أما ما عدا ذلك فلا شيئ، هل هو إعجاب شديد كان مكبوتا في نفسي ثم انطلق مرة واحدة يعبر عن نفسه، ويجعلني أطلق لساقي العنان بغير سبب ولغير جهة؟!، هل هى لحظة من لحظات الجنون التى تعتري العقل إزاء مصادقة خارقة أو صدمة نفسية تتفاعل في داخل المرء فتدفعه إلى مثل هذا التصرف الشاذ؟، هل هو مجرد مرح تولده السعادة الغامرة في صبي صغير، فتجعله يعدو فحسب؟، لا أعرف سوى حقيقة واحدة هى أنني قطعت المسافة من (التياترو) حتى باب الحديد عدوا دون توقف بعد أن سمعت ذلك اللحن.