كتب: محمد حبوشة
أعترف بأن مسلسل (سوق الكانتو) كان يبدو لي مع انطلاق حلقاته الأولى دراما مختلفة، خاصة أن كاتب السيناريو هو (هاني سرحان) ومخرجه (حسين المنباوي)، هذا الثنائي اللذين تألقا سويا في مواسم رمضان الأخيرة، وللحقيقة أبهرتني الكادرات في البداية وكذلك الديكور والملابس، حيث عادا الثنائي(سرحان والمنباوي) بمتابعيهما إلى أجواء فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وزاد من شغفي بالمشاهدة قول (هاني سرحان) قبل انطلاق المسلسل: (أنا مهتم بالتراث الشعبي المصري بشكل واضح، ولدي هوس بهذا العالم وشخوصه وحكاياته ومهنه، والدفء الذي كان موجودا بين الناس، وأشعر بأن هذا الزمن مليء بالحكايات التي لم تروى، ولن يكون (سوق الكانتو) العمل الأخير الذي أحكي فيه عن هذه الفترة الزمنية.
وعلى الرغم من أن أحداث المسلسل تدور أحداث في عام 1920 داخل سوق البالة بوسط البلد، حول شاب يجسده (أمير كرارة)، وسط حكايات عن السوق يعود تاريخها لوقت مضى، كما تنشأ بين (طه القماش)، و(راوية/ مي عز الدين) قصة حب قوية تشهد العديد من الصعوبات خلال الأحداث، إلا أنه سرعان مازالت دهشتي وانبهاري بالمشاهد التي بدت مكررة يعتريها قدر من الملل جراء قصة ضعيفة للغاية وباهتة في أحداثها المصطنعة، ولا تحمل أي قدر من الإثارة والتشويق الذي اعتدنا عليه في أعمال (هاني سرحان، وحسين المنباوي) فقد سارت الأحداث بوتيرة بطيئة للغاية ولا تحمل مضمونا غير أسلوب اللف والدوران حول لاشيئ.
نعم القصة ضعيفة، أو يكمن أن لا تكون (لاقصة) من الأساس تحتوي على حبكة درامية متقنة، مع أن أجواء المسلسل كانت كفيلة بصناعة نوع من الصراع الدرامي في ظل بيئة تجمع المصريون على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية (وكالة البلح) في ظل احتياجاتهم من الملبس والأحذية والشنط وغيرها من لوازم الحياة اليومية، ومما كان سيشعل الأحداث أنها تتواكب مع ارتفاع الأسعار الذي شهدته مصر مؤخرا، بعد أن أصبحت وكالة البلح ملاذ المصريين الأخير، حيث تمتاز بضائع السوق بأسعار منخفضة مقارنة بباقي أماكن البيع المختلفة، لكن المؤلف فشل في تحقيق الهدف على الرغم من الطابع التشويقي البين للمسلسل في الحلقات الأولى، ونجاحه في جذب اهتمام الجمهور المصري.
آفة أعمالنا الدرامية أنها تعتمد على النقل على جناح ما يسمى بالتمصير، لذا لم يخل العمل من النقد اللاذع الذي وصل إلى حدود اتهام صناعه باقتباس خطوط العمل الأساسية من مسلسل الجريمة البريطاني الشهير (بيكي بلايندر (Peaky Blindersللنجم الأيرلندي (كيليان مورفي)، بمواسمه الستة المأخوذ بدوره عن قصة عصابة حقيقية وذلك من ناحية الأحداث أو الحقبة الزمنية المتقاربة للعملين، إضافة إلى طبيعة الأحداث والشخصيات وتسلسل الأحداث وإعادة ملاءمتها للواقع المصري في كثير من الأحيان، وصولا إلى الهوية البصرية للعملين، وتميز (بيكي بلايندرز) بملابس أبطاله وقبعاتهم الشهيرة التي تحاكي أزياء وقبعة (طه القماش).
لو أن المؤلف لجأ إلى وكالة البلح، وتجول في دهاليز السوق جيدا كان سيرصد قصصا وحكايات من قلب الوكالة التي أنشئت آواخر القرن التاسع عشر على أيدى عدد من التجار العرب القادمين من سورية وفلسطين، وشهدت رواجا كبيرا في بدايتها، ثم خفت وهجها مع تراجع اقتصاد البلاد في منتصف القرن التاسع عشر حتى امتلك اليهود أغلب أسواقها وأطلق عليها (سوق الكانتو)، أي المستعمل باللغة الإيطالية، وبعد رحيل اليهود عن مصر، عادت ملكية الوكالة للمصريين، وبالتالي كان يمكن أن يتماهى مع أحداثه الدائرة في الثلاثينيات من القرن الماضي، مانحا إيانا إحساس بالتعايش مع الزمن الحقيقي لهذه الفترة الزمنية، خاصة أن الديكور يستمد روحه من السيناريو، ليتكامل كل منهما مع الآخر رفقة عناصر فنية أخرى، تحت إدارة مخرج لديه وعي وقادر على أن يستخلص من هذا المزيج عملا فنيا متميزا، تكتمل به عناصر الصورة على الشاشة الصغيرة، لكن هذا لم يحدث للأسف.
لو لم يلجأ المؤلف إلى اقتباس أجواء المسلسل من قصة أجنبية على مستوى الشكل والمضمون، وبدلا من اللجوء إلى صناعة ديكور بمدينة الإنتاج الإعلامي وتطرق في قصة (سوق الكانتو) إلى هذه البيئة التي تجمع الآن عدد من الصعايدة من سوهاج تحديدا، والذين تجمعهم قرابة في الدم والنسب في الوكالة الممتدة باتساع شوارع بولاق أبو العلا، وصنع نوعا من الصراع الحقيقي استمده من قلب أجواء الوكالة التي تسكن أحد الأحياء العريقة بوسط البلد، لكان للوهلة الأولى سيأخذك منظر الزحام للباعة على جانبي الطريق وعلى امتداد عدد من الشوارع الجانبية، فلا فراغ هنا ولا مساحات للعابرين بهدوء، ولا حدود فاصلة بين بضاعة هذا وفرشة ذاك ويتزاحم الباعة فيما بينهم لجذب الزبائن، فيما يتزاحم المشترين للحصول على القطع المميزة قبل نفادها، أظن أنه كان قد صنع دراما واقعية من قلب الشارع المصري.
مشكلة (مسلسل الكانتو) تكمن في القصة المرتبكة التي لاتشبهنا رغم أن الشخصيات التي تدور حولها الأحداث تبدو مصرية، إلا أنه تمت المعالجة بطريقة ساذجة لا تقنع مشاهد يتطلع إلى حبكة درامية تعزف على أوتار قضية اجتماعية تعود بنا إلى عشرينيات القرن الماضي، بحيث يرصد أحداثا من الأماكن الشعبية، خاصة أن الوكالة تمتليء بعمالة الأطفال، ومن بينهم أطفال يبلغون من العمر ثلاثة عشر عاما، ترك الواحد منهم أهله في سوهاج ويعمل مع قريب له حيث يرسل أمواله لأسرته هناك، بعد أن ترك المدرسة وفضل البيع بالوكالة، ظني أن هذا كان كفيلا بصناعة دراما مشوقة أكثر، بدلا من اختيار شخصيات مشوهة وغلفها بقضية الثأر التي أصبحت تيمة عقيمة ومكررة.
كان ينبغي أن يركز المسلسل في أحداثه المفتعلة في رصد الصراع داخل وكالة البلح كنموذج تم البناء عليه في أحداث (سوق الكانت)، وتقديمها كقضية اجتماعية، فعلى الرغم من الشهرة التي تحظى بها تلك المنطقة، فإن هنالك أحاديث كان يمكن أن تأتي على لسان التجار عن مستقبل تلك السوق النابضة بالحياة والقلق من مساعي الحكومة المصرية لإخلائهم وتعويضهم بأماكن بديلة، ويعضد تلك المخاوف تحرك شعبة الملابس الجاهزة، بتقديم مذكرة لبحث أزمة انتشار بيع الملابس المستعملة والاستوكات (تصفيات التوكيلات الأوروبية).
نعم كان يمكن أن يكون المسلسل صرخة يعبر من خلالها صناع الملابس في مصر عن تضرر مصانع الملابس المحلية، وينوه في الوقت ذاته إلى تنظيم الإدارة المركزية للتجارة الخارجية التابعة لوزارة التجارة والصناعة، اجتماعا مع الشعبة خرج بأربع توصيات تتضمن وضع ضوابط استيرادية للملابس المستعملة، وإطلاق حملات على محال الاستوكات، وتحليل البيانات الاستيرادية في ميناء الإسكندرية، وحصر الكمية التي تدخل مصر من طريق التبرع للجمعيات الخيرية.
من المحاور المهمة التي كان يجب أن يتضمنها المسلسل أن يعالج (أثر الاتجار بالملابس المستعملة على صناعة الملابس الجاهزة المحلية) وهناك دراسة تشير إلى أن الملابس المستعملة وجدت سوقا رائجة لها في معظم شوارع القاهرة والمحافظات الأخرى، وهو ما ألحق أضرارا بالغة بصناعة وتجارة الملابس الجاهزة الجديدة، التي تشهد تدهورا بسبب زيادة تكاليف الإنتاج، ما يتسبب بارتفاع في أسعار الملابس محلية الصنع، فإن تجارة الملابس المستعملة الواردة من الخارج تمثل أزمة كبيرة تواجه صناعة الملابس الجاهزة المحلية في مصر، وتستغل المستهلكين لأنها تقدم منتجات مستعملة ذات جودة سيئة تنافس بها السوق المحلية.
ياسادة أصبح في حكم المؤكدا أن الجمهور لديه وعي كبير ورؤية مستنيرة للعمل وليس مجرد روية سطحية فقط بل تطور مع الصناعة أيضا، وأصبح الجمهور ليس مجرد متلقيا، فلعل أهم ما يميز (سوق الكانتو) عن غيره من الأعمال التي عرضت في الماراثون الرمضاني الحالي، أنه كان ينبغي أن يتميز بدقته واعتماده على الصورة، وإنه يعبر عن فترة زمنية تتوافق مع العمل ورؤيته وأبعاده سواء كانت البعد الدرامي أو النفسي وأيضا أقسام التنفيذ والقائمين على العمل خاصة فريق التمثيل الذي بذل مجهودا كبيرا، وهذا أهم ما يميزه عن غيره من الأعمال التي عرضت داخل الماراثون الرمضاني.
لقد ركز (هاني سرحان) على قصة مفتعلة تدور أحداثها داخل مسلسل (سوق الكانتو) داخل (سوق البالة) بوسط البلد، لتسرد قصة (طه القماش) التي يجسدها أمير كرارة، إذ تنقلب حياته رأسا على عقب بعد خلاف كبيرة بينه وبين تجار السوق، يدخل على إثرها المستشفى، ليتحول من بعدها إلى (بلطجي) – كنموذج سلبي – فعلى الرغم من أنه يرفض مبدأ الإتاوات على تجار السوق، إلا أنه في الوقت ذاته يمتلك معملا لتقطير المشروبات الكحولية ويتاجر بها بشكل سري، الأمر الذي يقحمه في سلسلة لا نهاية لها من المشكلات والصراعات التي يسردها العمل جنبا إلى جنب.
وفضلا عن ذلك هناك جملة من الخطوط الدرامية والحكايات التي بدت في خيال (هاني سرحان) مشوقة في الحلقات الأولى، وكاد أن ينجح صناع العمل في رسمها، من خلال كوكبة من الشخصيات التي يقدمها هذا العام، لفيف من النجوم الذين برعوا في الأداء أمثال: (فتحي عبدالوهاب، مي عزالدين، عبدالعزيز مخيون، مها نصار، تامر نبيل، ثراء جبيل، محمود الزاوي، سلوى عثمان، محمد عبد العظيم، ضياء عبد الخالق، غفران) لولا أن المط والتطويل والالتفاف حول قصة واهية أفسد العمل، ومن ثم أستطيع القول بأن مسلسل (سوق الكانتو) احتل الصدارة في (بالة) المسلسلات الرمضانية بجدارة في هذا الموسم.