كتب: محمد حبوشة
قالوا عن مسلسل (حضرة العمدة) على الرغم من أنه يناقش قضايا اجتماعية واقعية كثيرة وكيفية إيجاد حلول لها، أبرزها ختان الإناث، والهجرة غير الشرعية، وغسيل الأموال، وتجارة المخدرات وغيرها، قالوا أن شخصياته منمطة ومشاهد أقرب إلى الفيديوهات التعليمية، ومن ثم: هل يفترض بنا أن نحتفي بأي عمل درامي يتعرض بنقد لمظاهر العنف والتمييز القائمين على النوع الاجتماعي لمجرد القيام بذلك، بغض النظر عن الأسلوب والزاوية المستخدمين في تناول هذه القضايا؟
واتهم البعض كاتب المسلسل (إبراهيم عيسى) بالتراجع دراميا في هذا الموسم لأنه لم يصنع نفس الجدل الذي أحدثه في مسلسل (فاتن أمل حربي) العام الماضي، وأنا أرى من جانبي عكس ذلك تماما، فقد قدم (عيسى) دراما مثيرة للدهشة التي تجذب نحو المشاهدة، فعلى مدار حلقاته تعرض المسلسل إلى عدد من صور العنف والتمييز المنتشرة في مصر ضد النساء والفتيات، كتشويه الأعضاء الجنسية الخارجية للإناث (ختان الإناث)، وتزويج القاصرات، وفرض الحجاب قسريا على الطفلات بالمدارس، وحرمان الإناث من الميراث، وابتزاز الفتيات إلكترونيا وتهديدهن بنشر صورهن الخاصة، وقبل كل ذلك مسألة الرفض المجتمعي لوجود النساء في مواقع السلطة.
وظني أن هذه المعالجة في مسلسل (حضرة العمدة) غاية في الأهمية من جانب (إبراهيم عيسي) حتى ولم تصنع ذلك الجدل المصاحب لأعماله الدرامية في العادة، وبغض النظر عن أن السمة المشتركة في التناول الدرامي لكل هذه القضايا هو العبور السريع من خلال مشاهد متفرقة بعضها لا يتصل ببعضه، وحوارات مباشرة تخلو من الانسيابية، فإنها ظرت لنا غاية في الإتقان عبر خيال واع ومدرك لما يصنعه من أحداث.
شيء آخر لافت للنظر هو تباهي صناع العمل بمناقشته لقضية تمكين المرأة ووجودها في المواقع القيادية، فالدراما في (حضرة العمدة) أرادت أن تسلك طريقا غير الذي عهدنا أن تمضي فيه، حيث تتماهى مع المنظومة الأبوية بكل مقوماتها وقيمها، وليس مرورا على المشكلات التي تطارد النساء بسبب جنسهن – كما يدعي البعض – بمشاهد مقحمة وغير موظفة دراميا وحوارات مشحونة بالمعلومات والألفاظ الجامدة، فتأثير الدراما على جمهورها لا يأتي بالخطابية والمعلوماتية، وإنما بالقصص المحبوكة والشخصيات الديناميكية والحوارات ذات البعد الإنساني التي تستفز المتفرجات والمتفرجين، وتحفزهم على إعادة النظر في اتجاهاتهم الشخصية، وهذه العناصر ليست غائبة عن مسلسل (حضرة العمدة) بل لها حضور قوي يقفز من قضية عنف على أساس النوع إلى أخرى ثم أخرى وبعدها أخرى، ربما تبدو أشبه بإعلانات حملات التوعية، لكنها تعالج قضايا مهمة تخص المرأة المصرية.
تبدأ قصة حضرة العمدة فعليا مع عودة (صفية الفارس/ روبي) إلى قرية (تل شبورة) التي عاشت فيها طفولتها ومراهقتها، قبل أن تنتقل إلى القاهرة للدراسة بالجامعة، ثم العمل، والارتباط برجل من إحدى دول الشمال قرر أن يشهر إسلامه حتى يتزوجا، رغم معارضة عائلتها لهذه الزيجة لما تمثله من خرق للعادات والتقاليد، وقد ساهمت الحالة النفسية السيئة التي تعايشها صفية بعد وفاة زوجها، في موافقتها على العودة إلى القرية وتولي العمودية؛ المنصب الأشبه بالوسيط بين أهل القرية والسلطة التنفيذية للدولة، والذي يمنح كل من يشغله امتيازات اجتماعية.
ظهر أداء (روبي) رائعا في أنه يكون لدى (صفية) قدرا من المعرفة بظروف بلدتها، والأفكار السائدة هناك، والعادات والتقاليد الشائعة بها، خاصة أنها عاشت فيها نحو 18 عاما، وحتى بعد انتقالها للعيش بمكان آخر فقد ظلت موجودة داخل مصر، والكثير مما يجري في المدن والقرى المصرية يحدث أيضا في العاصمة، إلا أن (صفية الفارس) تظهر في البداية كالمهاجر الذي جاء غريبا إلى القرية بعد عقود من الغياب؛ يفاجئها وقوع جرائم تشويه الأعضاء الجنسية الخارجية للإناث على أيدي الأطباء.
وحين تذهب العمدة (صفية) لتقديم التهاني في أحد الأفراح، يصدمها صغر سن العروسين وتصيبها الدهشة من إقدام الأهالي على تزويج طفلين تجاوزا العاشرة بسنوات قليلة، لكنها تسعى لانتشال قريتها من غياهب الظلام والظلم، رغم أنها في الأساس تبدو منفصلة تماما عن الواقع وكأنها لا تعلم أن جرائم تزويج القصر تنتشر في كثير من القرى، وأن مصير عشرات الآلاف من الفتيات المصريات سنويا هو التزويج قبل أن يتممن عامهن الـ 18.
وبدت (صفية) ترى في نفسها المخلصة التي ستنقذ أهل قريتها الغارقين في الجهل والتشدد، وتعبر عن ذلك بجمل ترددها من حين لآخر مثل (أنا جايه أفهم الناس وأوعيهم بحقوقهم)، و(أنا هعرف أخلي تل شبورة كلها تعرف مصلحتها ومصلحة بناتها)، وقد يرى البعض في ما تحمله هذه العبارات نبرة استعلائية، فإنها تبطن استساغة صفية للنظام الاجتماعي الذي تهيمن عليه القبلية، وقبولها بهرميته التي تجعل تغيير ما هو قائم أو إدامته بيد من يعتلي القمة، وفي هذه الحالة هي هذا الشخص، ولذا يظهر شكل للتضامن النسوي بين (صفية) ونساء القرية، وهو ما يبرز أمر من اثنين؛ هالة من الإعجاب والانبهار تحيط بـ (الدكتورة) التي تعرف أكثر منهن وتستطيع أن تقول للرجال ما لا يستطعن التفوه به، أو ضغينة مدفوعة بغيرة وحقد على (مرات الخواجة) التي نزلت إلى القرية لتخطف أنظار الجميع لا سيما الرجال.
أعجبني جدا دفاع (محمد محمود عبد العزيز) العقلاني بعد الهجوم الدائم على المسلسل، قائلا: قبل عرض مسلسل (حضرة العمدة) تخيل البعض أنه سيتطرق لمواضيع تخص الدين والإسلام، وأضاف: (مفيش حد هتكون بتقبله أو بترفضه طول الوقت، وأي حد في الدنيا هتكون معارضه طول الوقت، لازم هتصادف وتكون معاه في عمل معين، وإبراهيم عيسى اتكلم في مليون موضوع بس الناس مصرة تمسك في كام موضوع هو اتكلم فيهم ويطلعوه بيهم على المسرح، ممكن يكون إبراهيم عيسى عنده جرأة معينة تخصه هو في وجهة نظره، بس أنت مش لازم تاخد بيها، واختلافي أو اتفاقي معاه لا هيزوده ولا هينقصه).
ويبقى أجمل في (حضرة العمدة) الحبكة الدرامية التي صنعها (إبراهيم عيسي، والتي عالج من خلالها قضايا ربما تطرقت لها الدراما المصرية من قبل في أعمال كثيرة، لكنه اتسم هنا بالوعي والقدرة على عرض نفس القضايا بعمق شديد يحسب له على مستوى الشكل والمضمون، ما يجعله في مصاف كتاب الدراما الكبار الذين نعتز بهم، رغم اختلافنا معه في كثير من رؤاه كإعلامي كبير يملك ناصية الإقناع بخلفية ثقافية كبيرة تجعله مثارا للجدل دائما بتشدده وسخريته من كثير من الأوضاع المعيشية في مصر، وهو ما كان يتطلع إليه الجمهور بطيف أكثر اتساعا في مسلسله (حضرة العمدة).
فضلا عن ماسبق فإنني أشيد بالأداء الرائع لروبي التي تعد واحدة من الممثلات التي تعنى بالمهارة الفنية والإتقان في الأداء وتبعد تماما عن (الكليشية) في مختلف حالاتها التمثيلية، فتراها تتنوع في ألوان التجسيد عبر موهبة آسرة – بغض النظر عن كونها مطربة مثيرة للجدل – وهى في هذا تدرك إن أخطر شيىء يمكن أن يواجه الممثل، هو تجسيد الحالات المتكررة كثيرا في الحياة وفي الدراما، مثل: الاعتراف بالحب، الخوف، السرقة، التحية، الدهشة، لكن كيف تحصن (روبي) نفسها من الوقوع في (الكليشة) والتقليد، وكيف تبتكر تعبيرات جديدة لهذه المشاعر/ الأفعال؟، هذا هو سؤال الفن الذي يشغلها طوال الوقت فهى تفكر جيدا فيما ستقوم به قبل الدخول إلى (البلاتوه) لتجسيد شخصية جديدة.
وقد أجاد كل من القديرة (سميحة أيوب) في دور الجدة التي تمثل العمود الفقري للعائلة، وأيضا (أحمد زرق) في دور المحامي الذي يجيد العزف على أوتار القانون، و(إدوارد) في ذهابه إلى منطقة السهل الممتنع، وفوق هذا وذاك بدا كل من (وفاء عامر، صلاح عبد الله، عبد العزيز مخيون، أحمد بدير، إيهاب فهمي، محمود عبد المغني، بسمة، نهلة سلامة، صولا عمر) في دوره تماما، لكن برأي أن (محمد محمود عبد العزيز) يثبت يوما تلو الآخر أنه ممثل ثقيل يحمل قدرات خاصة في الدهشة ومفاجأة الجمهور بروعة أدائه العذب، فضلا عن جهوده المشهودة في الإنتاج من خلال (شركة فنون مصر) التي تستحق التقدير والاحترام في كل ما تنتجه من روائع الدراما المصرية.