بقلم: كرمة سامي
حكى لي والدي أن جدي كان على سفر لمسألة خاصة، وترك جدتي وحدها مع أولادها الثلاثة، ولأن بيتهم في أربعينيات القرن العشرين كان في الكيت كات بين الريف والحضر على مشارف أرض زراعية وفي نفس الوقت على مسافة خطوات من ملهى الكيت كات المفضل للملك فاروق، فقد تسبب تباعد البيوت وقتئذ أن تكون مطمعًا لأبناء الليل. كان بيتهم مصدر الضوء الوحيد في تلك الليلة، وبينما هم يتناولون عشاءهم سمعوا طرقًا على الباب غير معتاد في ذلك الزمان والمكان.
راقب والدي كيف استغلت جدتي مخزون زياراتهم الأسبوعية بناء على الحاح منها على زوجها -الذي كان يكبرها بعشرين عاما على الأقل- لمسرح الريحاني وعلي الكسار وسينما إمبابة بالاس وملهى بديعة. شاهد كيف تحولت الأم إلى فرقة مسرحية متكاملة مثلما كانت ترفه عنهم وتحاكي لهم كل مسرحية شاهدوها كاملة وتقلد أصوات الكسار والريحاني وميمي وزوزو وميري وغناء عقيلة وحامد كل بصوته.
قلدت جدتي، ووالدي شاهد على ذلك، صوت أسرة كاملة بنسائها، ورجالها وأطفالها، وألفت حوارًا بين أفراد الأسرة وتباطؤ كل منهم في الرد على الطارق، فالأب في غرفة المعيشة يستمع إلى الراديو مع أخوته الرجال يأمر بصوت أجش أي من الأولاد سمير أو سامي أو سري أن يفتح الباب، وتحث الأم بصوتها الناعم من المطبخ الابن الكبير أن يفتح، فيرد عليها بصوت مراهق بالغ من حجرة نومه بأنه يساعد عمه في اصلاح دراجته، وهكذا تنقلت من حجرة إلى أخرى تغير صوتها وترتجل حوارات تدل على تعدد أفراد أسرة بحجم قبيلة فما كان من الغرباء إلا أن ندموا على طرق الباب واختفوا في ظلمات الليل، وظلت جدتي تواصل عرضها الارتجالي حتى تأكدت من ابتعاد خطواتهم تمامًا عن محيط البيت.
انهارت جدتي على أقرب مقعد وأخذت أبناءها في حضنها تلتقط أنفاسها لا تعلم أن عيني سامي الابن الأوسط سجلت بإعجاب وانبهار تفاصيل المشهد الذي حكاه لكل أصدقائه في مراحل عمره الممتد، ولابنته لتعلم أن مصدر چينات الدراما والإبداع في الأسرة هي السيدة زينب هانم موسى.
تذكرت هذا المشهد من تاريخ أسرتي عندما شاهدت منى زكي في مسلسل (تحت الوصاية)ترتجل حوارًا وهميًا مع زوج لا وجود له لتحمي الكيان الأسري الذي ورثته عنه. أحسست بالقهر عندما استمر الحوار نصف دقيقة وبجانبها ابنها متواطيء معها بصمته المقهور.
رحم الله الأسرة المصرية مصدر كل خير قبل غزو النيتفليكس والمحمول والكومباوند والميجا مول، ورحم الله جدتي الفنانة المنزلية التي كانت مصدر كل بهجة وترفيه لأولادها وأحفادها، وما بين السينما والمسرح والراديو كانت تملا بيتها وعالمها الصغير بالأغاني والأفلام والتمثيليات والارتجالات ومحاكاة مشاهد بل أفلام كاملة، وتتعاطف مع فاتن حمامة، وتحذرها بصوت مرتفع في ظلام قاعة السينما من شر محمود المليجي غير عابئة بتذمر الأفندية والهوانم من حولها، وتخشى على هدى سلطان من غدر فريد شرقي، ثم تسامحه عندما يتوب الله عليه من دور شرير الشاشة ليصبح الأسطى حسن.