بقلم: محمد شمروخ
لست من أنصار مبدأ أن تكون حانقا على كل شيء تجاه شخص واحد أو قضية واحدة، فلا شر مطلق إلا في الشيطان المقترن بقاؤه باللعنة حتى يوم الدين.
ولست من أتباع قاعدة (ما لا يدرك كله يترك كله) فتلك نظرة متربصة متنمرة، إنما أرد القاعدة لحقيقتها بأن (ما لا يدر كله لا يترك كله).
فمع تحفظاتى العديدة على مسلسل (جعفر العمدة)، إلا أن جزئية واحدة تعبر عن أحد مقاصد المسلسل وهى التى تحدث فيها (جعفر العمدة) صراحة عن تفضيله المعيشة في حى السيدة زينب الشعبي عن السكنى في منطقة التجمع، بوصفهما متناقضان لا يمكن أن يجتمعا، فهذا حى شعبي وذاك حى النخبة.
ولا أقول هذا من أحياء الفقراء وذاك من منتجعات الأغنياء، فمن يزعم هذا، فهو لا يعرف حقيقة القاهرة وخوابئ أسرارها، فقد تجد أحد سكان شارع الصليبة أو في سوق السلاح، يملك ثروة لا يحلم بها ساكن فيلا في الرحاب أو مدينتى!
ولكن لا تخفى الاختلافات الحادة بين الحيين بما لا يدعو لتفصيلها، وليس نوعاً من الادعاء ولا المجاملة، فأنا أشيد بهذه اللفتة من مؤلف المسلسل على لسان بطل الأحداث، فأنا وإن كان لم تتح لى فرصة النشأة أو المعيشة في حى السيدة زينب أو أشباهه من الأحياء العتيقة في القاهرة، إلا أن القاهرة بالنسبة لى هى الجمالية والسيدة والقلعة والحلمية وبولاق وباب الشعرية والأزبكية، فإذا ما خرجت من هذه الأحياء تخفت النزعة القاهرية في المكان وتتلاشى شيئا فشيئا على أطرافها حتى لا يبقى منها سوى الانتماء الإدارى او الامتداد المعماري.
وصدق من سمى (القاهرة مصر)، فرغم أن اسم (مصر) هو اسم البلاد كلها من من رفح وحتى السلوم ومن المنزلة لغاية أسوان، إلا أن القاهرة وحدها هى التى نسميها مصر.
والعجيب أن اسم مصر لم يطلق رسمياً على العاصمة بتقلباتها في كل العصور التاريخية منذ مدينة أون (هليوبوليس القديمة) وحتى القاهرة المعزية أو الخديوية، لكن المصريون كانوا ومازالوا يسمونها مصر.
وعندما تقودنى الأقدار لزيارة أى منتجع من المنتجعات الجديدة التى بدأت منذ التسعينيات على استحياء ثم ما لبثت أن انتشرت حتى صارت النموذج المعمارى والمعيشي المرتجي لدى كثير من القطاعات خاصة الهاربين من زحام القاهرة واختناقاتها وعشوائيتها، أجدنى كأنى خرجت من القاهرة، بل خرجت من مصر كلها، فرغم الشوارع النظيفة الهادئة ورغم النظام والخضرة والأمن، إلا أن هدوءها مميت خانق يشعرك وكأنما ولجت في منطقة مقابر مبنية من الرخام.
ولأمر ما ترى كثيرا من الوجوه واجمة أو مكفهرة أو باردة ولا تحمل ملامح المكان ولا تعكس روحه إن كان له روح من الأصل.
فساكن المنتجع أو الكمباوند، لا يكاد يبرح بيته إلا عند الخروج للعمل أو العودة، فلا تربطه به أى رابطة عاطفية أو انتماء حقيقي، فهو على استعداد لتركه إذا ما أتيحت له فرصة الانتقال لكمباوند آخر، وإن صح التعبير فالمعيشة في الكمباوند تطبيق معمارى للعلاقات النفعية وتتويج للمجتمع البرجماتى، ففكرة المقارنة بين الأحياء العتيقة والتجمعات الجديدة، قد تبدو مضحكة إذا ما طرحت على أحد سكان هذه التجمعات.
ثم إن هناك عيب أراه خطيرا جدا، بل من أخطر العيوب الملتصقة بالشخصية المصرية عامة وبالقاهرية خاصة، وهى التباهي بمستوى المنطقة السكنية وهو أن كان غير قاصر على سكان تلك التجمعات الجديدة، إلا أن علامات التفاخر والشعور بالتمايز تبدو واضحة حتى في طريقة نطق اسم المكان المقترنة غالبا بالايماء إلى التمايز الطبقى الذي يصم المجتمع الذي لا يكل ولا يمل يومياً وهو يرسخ لهذه الثقافة ونقلها للأجيال الجديدة.
وهذا شرخ اجتماعى خطير، فأنت ترى العزلة والاغتراب وقد استفحلت، فلا يكاد ساكن شقة يعرف عن جاره شيئا وهذه سمة المدن عموما، لكنك لا تجدها بين أهل القرى والأحياء الشعبية.
وما أعجبنى في مقولة (جعفر العمدة) بغض النظر عن السياقات الدرامية والأحداث الأخرى التى لن أخوض فيها حتى لا أشتت الفكرة التى تشبثت بها، هو أنها ستكون بداية لكشف زيف تلك الثقافة الطبقية المتعلقة بالمعيشة أو حتى الانتماء المقيتة التى باتت تحكم أشكال الحياة في مصر مع الفروق الهائلة في الدخول والثروات وعمليات الهبوط والصعود المالية الحادة التى تحدث لأسباب طبيعية أو طارئة.
ولا أدري مدى صحة شعورى بأن سكان مثل هذه التجمعات السكانية التى نطلق عليها الراقية، يرون أنهم أرقى درجة من بقية السكان في الأحياء العتيقة، حتى لو كانت أصولهم تمتد إليها، فإذا بذلك الماضى يصبح بالنسبة لهم دليلاً على عراقة الأصل، بينما يرون أن الحاليين ليسوا كذلك، لكن العجيب كذلك أن الأمر نفسه الذي يعطى دلالة العراقة في الأصول، يصبح عند الخلاف سبابا ومعايرة بهذا الأصل.
لا أبغى شيطنة سكان المناطق الحديثة في التجمعات الكمباوندية وإلا كنت مرتكبا لخطأ التعميم الشديد الذي يؤكد أحياناً العماء العقلى، كذلك لا أرى الملائكية في وجوه سكان الأحياء الشعبية، فأنا هنا أتحدث عن شخصيات إنسانية فالإنسان هو الإنسان بعيوبه ومميزاته لكن وجه اعتراضى هو تجاهل الإنسانية بما تحمله من قيم نبيلة أبعد ما تكون عن تلك الثقافة الطبقية واستبعاد الأخلاقيات من المقاييس عند الحكم على الأشخاص واتخاذ معيار الانتماء السكنى أو الفئوى أو الوظيفي معيارا للإنسان.
بل حتى يجب على أن أسجل اعتراضى على وصف الأحياء العتيقة بأنها أحياء شعبية، فكأن سكان الأحياء الأخرى لا ينتمون للشعب الذي ينسب إليه كل شيء يرونه أقل درجة، ولا تقتصر على المناطق السكنية فحسب، بل على بعض المنتجات والنماذج، بل وعلى الفنون نفسها ومنها مثل مسلسل (محمد رمضان) الذي يقال أنه يخاطب الفئات الشعبية على سبيل التحقير من شأن الفن والجمهور المتابع لها في شغف.
ولو قلت لى إن الناس يطلقون مسمى (الشعبي) على سبيل الاصطلاح أو العادة، فسأقرر لك أن في مثل هذين تكمن المشكلة وهى أن تجعل من الوصم وسما أو تجعل من الوسم وصما!.
و(محمد رمضان) الذي لا يمكن الآن أن يكون من بين سكان الأحياء (الشعبية) قال كلمة خطيرة نكأ بها جرحا اجتماعياً ولا أتحدث عن شخصه الذي لم أعرفه إلا من خلال ما ينشر عنه، ولكنى هنا أتحدث عن كلمة خرجت من فم (جعفر العمدة)، ربما قيلت لإحداث ضجة ما بغرض الدعاية ولكنها مع ذلك أهاجت هذه الخواطر في فكرى ووجدتها فرصة لأن أطرحها على نفسي وعليك كقارئ، عسانى أن أمعن معك النظر في كثير من المعايير والمسميات التى نحكم بها على الأشياء أو نطلق مسمياتها على سبيل الوسم أو الوصم.