كتب: محمد حبوشة
هل تعرف فوائد الدراما ووظائفها في المجتمع؟، من المحتمل أنك أنت وأغلبية أخرى من الناس في العالم تتعاملون معه على أنه ترفيه فقط ويستمتعون به بشكل أساسي لتمضية الوقت، وكذلك حتى خبراء الفن الراقي لم يفكروا قط في الأهمية الاجتماعية للدراما، لكن من الوظائف الأساسية للدراما في المجتمع هى التوحيد حيث تجمع الشاشة أناسا مختلفين معا، هذا الجانب حاسم لمجتمع القرن الحادي والعشرين المليء بالأشخاص الوحيدين حيث يتجمع حشد كبير من الناس أمام شاشة واحد لمشاهدة التحفة الفنية ومناقشتها إذا لم يتم الاعتراف بهم إنه أفضل بكثير من التحديق في شاشة الهاتف.
إذا كانت الدراما تبث مواضيع سلبية معظم الوقت يكاد يكون من المستحيل تجنب الدراما السيئة والتأثير السلبي لها على حياتنا، مثل إطلاق النار في المدارس والهجمات الإرهابية وحوادث الطائرات فضلا عن الهجوم المستمر للعنف من جميع أشكال وسائل الإعلام، ذلك يسبب تداعيات نفسية طويلة الأمد ويؤدي في النهاية إلى انهيار أفكار عالمنا والتوتر والقلق، إنه لأمر مخيف أن نلاحظ أن ما يقرب من ثلثي الدراما التلفزيونية تحتوي على بعض العنف الجسدي، صحيح أن العقل مصمم للتركيز على الصدمة المروعة تماما مثل هوسنا بحوادث المرور ومطاردة سيارات الإسعاف، لكن يصعب تجاهل السلبية على التلفزيون، ويمكن أن تؤثر بشكل كبير على كيفية رؤيتنا لحياتنا والعالم، ويمكن أن يؤدي التلفزيون السلبي إلى أفكار سلبية مما يؤدي بنا إلى النظر إلى حياتنا على أنها محزنة أكثر مما هى عليه في الواقع.
وعلى جانب آخر نرى ونحن نشاهد برامج ومسلسلات رمضان المستفزة للطبقتين الوسطى والفقراء في مصر، نشاهد أيضا الإعلانات التي تتخللها، فنشاهد إعلانات عن كمبوندات جميلة وفيلات ونوادي وحمامات سباحة، وتأتي بعدها إعلانات عن مستشفيات للسرطان والقلب وخاصة إعلانات عن دفع الزكاة للفقراء والمشردين بمشاهد (تقطع القلب)، ولهذه الإعلانات والمسلسلات التي تعكس الصورة المخملية لمجتمع النخبة دلالة هامة وهي أنها تخاطب فقط مجتمع الوفرة والغنى والاستهلاكي وتحثه على الاستثمار في العقارات التي لا تناسب إلا الأغنياء بل الأغنياء جدا، مع ملاحظة أن هذه الإعلانات والمسلسلات لا تخاطب أبدا الطبقة المتوسطة اعترافا بتأكلها وعدم قدرتها على الصعود نحو مجتمع الوفرة ومواكبة الرفاهية والاستهلاك، فبالتالي لا ضرورة للإعلان أو المسلسل عن شيء قد يفيد هذه الطبقة التي هى مفروض أنها العمود الفقري لأي مجتمع ورمانة الميزان فيه بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء المعدمين .
إعلانات ومسلسلات رمضان عكست هذا العام واقعا خياليا دون أن تعكس المشكلات التي يعيشها المواطن المصري من تردى الأحوال الاقتصادية والمعيشية، ما بين إعلانات استعطاف الناس للدعوة للتبرع للفقراء، وبين استعراض لمناظر طبيعية خلابة ومنتجعات تصل لملايين الجنيهات في ثنايا أحداث الدراما بحيث يقف المواطن حائرا بين هذا التناقض الشديد الذي تقدمه الإعلانات والدراما المصرية خلال شهر رمضان، حيث تستفز مشاعر الناس خاصة الفقراء منهم الذين يشعرون بتفاوت كبير لا يمكن تعويضه بينهم وبين طبقة الأغنياء، حيث قام أصحاب الإعلانات وشركات إنتاج المسلسلات بخلق تفاوت كبير بين الطبقة الفقيرة والغنية دون مراعاة شعور الفقراء، فأصحاب الشركات لم ينظروا للمواطن البسيط بعين الرحمة.
بمشاهدة هذين النوعين من الإعلانات والمسلسلات، نكتشف أن الفقراء هم من يدفعون الثمن حيث انهم يحتاجون للتبرعات وليس للسكن فى منتجعات سياحية باهظة الثمن وتلك المليارات التي تصرف على التصوير في الفيلات الفخمة والسيارات الفارهة، والموائد العامرة بأصناف الأطعمة، وذلك دون مراعاة لشعور شاب فى مقتبل عمره لا يستطيع أن يشترى شقة من غرفة وصالة، فهذه الإعلانات أو المسلسلات سواء كانت تبرعات أو يتم تصويرها في قلب الدراما من خلال منتجعات سكانية لا تراعى شعور المشاهد ، وخاصة الفقير.
ربما يكون الإعلان أو المسلسل له أهمية كبيرة للترويج للصناعات وتنمية المجتمعات، لكن ذلك يتطلب ضرورة وجود مجلس يضم خبراء في الإعلام وعلمي النفس والاجتماع، لوضع قوانين وضوابط منظمة لصناعة الإعلان والدراما، والخروج بميثاق شرف إعلاني ودرامي، أو مدونة سلوك أخلاقية ملزمة لصانعي الإعلانات والمسلسلات على حد سواء، بالإضافة إلى عمل استبيانات حول آراء المشاهدين لمعرفة احتياجاتهم الإعلانية والدرامية، لأن الرسالة الإعلانية والدرامية يجب أن ترتقي بذوق المشاهدين من أجل توصيل كل شئ إيجابي .
لم يبق على توديع الموسم الرمضاني إلا أيام قليلة، وللأسف فقد تحولت الدراما العربية إلى مباريات في التحدي والتنازلات، والسقوف واختراقها أو البقاء تحتها، فتحول رمضان إلى شهر وموسم مزدحم، وتحول العام كله إلى مرحلة من الكمون المقيت، والتنظير، والإعلان عن مفاجآت، لكن هذه المفاجآت موجودة في صناديق لا تفتح إلا في رمضان!، تناقضات لا حصر لها نراها في شاشاتنا العربية التي تغرد في رمضان فرحا بأرباحها من الإعلانات المكثفة، فقد علمنا أن هذا العام رصدت ميزانيات وصلت في بعض البلدان إلى مليارات، وظفت لصالح الدراما، ووزعت على مختلف القنوات العارضة.
هذه الدراما ضخت وجندت لها فضائيات كاملة مختصة، ومنوعة طوال شهر كامل، واستغربنا عند متابعاتنا لهذه الأعمال الدرامية الخرافية الإنتاج، كيف لم تتمكن من خلق معادلات إبداعية فنية، تغيرنا، تهيئنا لتفاعل حياتي لا مع بشر آخرين، بل مع مجتمعاتنا التي على وشك أن تهترئ لعمق النخر فيها!، وبالنظر إلى مسلسلاتنا الدرامية سنجد أنها مفرغة من مضامين حقيقية، أحداث مكرورة، مختلقة لا قيمة لها سوى أنها مطلوبة في سوق فضائية تتبنى نوعية معينة من الدراما مفرغة من معناها الانساني العميق، وتصر تلك السوق على دراما تصيغ الوقائع على مزاجها بما يتلاءم والمنهجية التي اختارتها منذ زمن طويل، ولم تتمكن أي محطات بديلة من اختراق هذا الاحتكار، لأنها هى الأخرى غرقت في مهام أخرى وربما اعتقدت أنها خارج المنافسة إلى أن جاء وقت اكتشفت كم كانت غارقة في اطمئنان مزيف.
يريد معظم صناع المسلسلات أن (يتسمر) الجمهور أمام مسلسلاتهم فاغري الأفواه مسلوبي العقول فاقدي الوعي متقبلين كل ما يلقونه في عقولهم وقلوبهم من تغييب للإدراك وتشويه للمشاعر وقلب للحقائق تماما؛ كما يقوم كثير من الممثلات بتغيير ملامحهن فيصبحن متشابهات، ومنهن من لا نعرفها إلا بصوتها لتكرار تغيير الملامح، ولا ننكر التجميل لكننا نرفض (التزييف) والاستغباء الذي تفشى حتى أصبح من ينتقد مسلسلات (متهما) بأنه من اللجان المأجورة!، وكأننا حققنا ما لم يصل إليه أحد في العالم المتقدم والمتأخر الذي لم يتكون بعد ونستحق الدخول في موسوعة (جينيس) بلا منازع.
يتنافسون في معظم مسلسلات رمضان في السخف والاستغباء؛ وحدث ولا حرج عن السوقية والابتذال والحوار المسيء بين الزوجات والأزواج، حتى الأمومة طالها أذاهم فقاموا بتحويلها إلى عبء لا يحتمل، وطرحوا عيش بنت مع شاب تحت اسم (المساكنة) ولم تعترض البنت إلا لأنها لا تعرف ماذا ستقول (للبواب) أي حارس البيت وأنها لا تحب التبرير.
نوقن بأن المسلسلات لن تقوم بإصلاح المجتمع وهذا ليس دورها، والمطلوب الامتاع وتقديم التسلية وليس الصراخ والشتائم وبعضهم يردد النكت الشائعة والمنشورات المنتشرة على الفيسبوك ويقدمها في الحوار؛ وكأنه في ملاهي الثلاثينيات حيث يقول ممثلون القفشات ويرد بعضهم على بعض لإضحاك الزبائن (المخمورين)، ويفعلون ذلك مع المشاهدين الذين يمارسون عليهم الاستغباء مع فقر في الكتابة والتمثيل والإخراج وتعويض ذلك بالاستظراف والإيحاءات الجنسية الفجة وتعليم الكيد والانتقام وتشويه مؤسسة الزواج وتقديم مشاهد مستفزة لثراء فاحش يندر وجوده بالواقع.
من الاستغباء تقديم مسلسلات تاريخية تخالف التاريخ في الحقائق والملابس واللغة وحافلة بالأخطاء المتعمدة وغير المتعمدة؛ ومن قال إن الإهمال ليس خطيئة، ويكفينا ما نراه من تزوير للتاريخ الذي عشناه بأنفسنا، والجديد احتفال الممثلين بنجاحهم المزعوم والإساءة إلى من ينتقدهم ووصفهم بأنهم تافهون!، وشتم نقيب الممثلين بمصر المنتقدين وقوله: (لن نترك فننا العظيم! لمن يشنون حملات مسعورة، ويبحثون عن شهرة مزيفة!.
على علب السجائر بأنواعها نجد عبارة التدخين ضار جدا بالصحة وتحذيرات قوية من الأمراض التي يتسبب فيها والتي (تهون) مقابل الأخطار التي يتعرض لها من يلقي بنفسه فريسة سهلة لمعظم صانعي المسلسلات في رمضان وبعده، وفي رمضان أكثر حيث الكثافة العليا لنسبة المشاهدة.
هذه الظاهرة تستحق الوقوف عليها، والقول إن المسلسلات الرمضانية حولت المشاهد العربي إلى متفرج جاهز بامتياز، بوصفه فردا في مجتمع الاستهلاك، تحدده الصورة التلفزيونية، وكائنا تواصليا، حيث التواصل يحدث من جهة واحدة، من المرسل إلى المرسل إليه، لاغية بذلك تبادل المواقع في عملية التواصل، ولا شيء في الوجود يمكن أن يدرك خارج رغبة الإنسان الدفينة في أن يكون أكثر من فرد معزول، إن ما لا يتحقق عند المشاهد العربي في الواقع يعيشه في شكل أحلام واستيهامات، وصور دفينة قد لا يدرك وجودها بشكل واع.
لقد أصبح التلفزيون، في أيامنا هذه، وسيلة الثقافة الأسرع نفاذا إلى عقل المشاهد العام، بل تحول إلى وسيلة التثقيف الوحيدة بالنسبة لملايين المشاهدين، والمقلق في الأمر هو أن ما يقدمه من ثقافة ضحلة وخالية من البعد المعرفي، تبعث على الكسل وتغييب الخيال، وتسبب الخمول العقلي، بخاصة وأنه يمكن للتلفزيون أن يسهم في تقديم جانب مهم من الثقافة البصرية التي لا غنى عنها لدى الإنسان، كما أن المشهد التلفزيوني المعد مسبقا آلة تنسج عقل المشاهد العربي وفق متطلبات أصحاب القنوات الفضائية والقائمين عليها.
ولعله يبدو واضحا بروز الصورة التلفزيونية التي تضع مختلف الحواس خلف العين، كي تحول التلفزيون إلى ما يشبه بوابة الجسد إلى الذات الآخر والعالم والأشياء، وذلك بعد أن أوجدت القنوات التلفزيونية – لغة الصورة التلفزيونية – كنظام يحمل خصوصيته الوسيطة المتناسبة مع مثل وقيم أصحاب الشركات المنتجة والراعية للمسلسلات، وبما يخدم قضايا اقتصاد السوق ومصالح أقطابه الرئيسية.
وكي لا تكون الصورة قاتمة، فإنه وسط الكم الكبير من المسلسلات الرمضانية المعروضة، يمكن العثور على عمل أو أكثر يحترم عقل المشاهد، ويراعي أحاسيسه، ويحثه على التفكير بما هو عليه، ولو بالحدود التي يسمح بها مقص الرقيب العربي، ومن هنا يبقى القول أن الفن مسؤولية ووعي وإذا هبط العمل بالذوق ونشر الإسفاف فالفن منه بريء، بل هو أسوأ مثال للاسترزاق (الرخيص).