كتب: محمد حبوشة
مما لاشك فيه أن واقعية القصة والحبكة التي أحدثها النجوم جعلت مسلسل (النار بالنار) الرقم الأصعب في الدراما الرمضانية هذا العام، فأثارت الجدل ووضعت هذا المسلسل في المقدمة فحلق في سماء الإبداع الحقيقي على مستوى القصة والقضية التي يطرحها المسلسل، فما يميز (النار بالنار) تحوله لعمل جماعي كل نجومه أبطال ولكل منهم دوره الذي ساهم بإنجاح العمل، فلم يكن هناك نجم أوحد رغم وجود أبطال للمسلسل كما في كل المسلسلات.
أجمل ما في (النار بالنار) أنه حاول وضع الإصبع على جرح نازف بين بلدين جارين، لبنان وسوريا، ألا وهو إشكالية النزوح السوري إلى لبنان التي تحولت إلى أزمة مفتوحة في بلد تحاصره المشاكل من كل حدب وصوب، ولا شك أن أزمة النازحين أحدثت انقساما في النسيج اللبناني والسوري معا، وقد حاول المسلسل مقاربة هذه القضية الشائكة من منظور موضوعي قدر الامكان، فنقل الصورة كما هى بحلوها ومرها.
يتحدث العمل، والذي صورت مشاهده في عدة مناطق لبنانية ومخيمات للنازحين السوريين في قرى ومدن لبنانية، عن العلاقة التي تجمع النازح السوري مع المواطن اللبناني، ويلقي المسلسل الضوء على تاجر عملة سوري مقيم في لبنان، ويسرد مغامراته بشكل مشوق، وكما ويلقي الضوء على توتر العلاقات بين اللبناني والسوري، متحدثا عن تجاوزات بعض النازحين والنظرة العنصرية لبعض اللبنانيين، وعن الانقسام العمودي والأفقي ونظرة كل طرف للآخر، ناقلا مشاهد يعيشها الشارع اللبناني بشكل يومي، جعلت من مشكلة النزوح كرة نار متدحرجة وتضغط على لبنان وسوريا.
تطرق الكاتب (رامي كوسا)، في سيناريو العمل، عن أسرار علاقة اللبنانيين بالسوريين كاشفا عن حالات كثيرة تسرد مشاهد واقعية، ومن ثم لا يخلو المسلسل من قصص حب بين لبنانيين وسوريين تعكس الوجه الآخر والأكثر جمالية لواقع العنصرية الذي ميز تعاطي شريحة من اللبنانيين مع وجود نازحين في زمن الحرب السورية، الا أن تلك القصص قدمت نظرة مختلفة للواقع المعاش.
ولكن تبقى ميزة (النار بالنار) هى تعدد النجوم في هذا العمل الواقعي، من (عابد فهد وكاريس بشار وجورج خباز) إلى (طوني عيسى وزينة مكي وطارق تميم) وغيرهم من الممثلين الذين أثروا هذا العمل وساهموا بتشويق الجمهور حلقة بعد حلقة، بحيث أن الجميع ينتظر ما سيجري في نهاية المطاف.
لقد نجح (النار بالنار) بفتح كوة في جدار ملف النزوح، وقدم مادة استثنائية فأبدع (عابد فهد) كساحر بارع في الأداء الصعب، ولم يستطع مجاراته سوى الممثل اللبناني بالإبداع (جورج خباز)، الذي نال دوره إعجابا استثنائيا وهو الذي عود جمهوره دوما على الأدوار المميزة.
ليست المشكلة في المسلسل هى إنصاف السوريين أو اللبنانيين، أو مصداقية صورة كل من الجانبين بين الواقع والدراما، فإن كان لدينا، في الجانب السوري (شايلوك) الشرير المتنفذ، وآكل لحوم البشر لبنانيين كانوا أم سوريين فإن لدينا في الجانب ذاته، (مريم) بنقائها ونبلها الأصيل، برغم الفجور والشر الطارئين، وإن كان لدينا في الجانب اللبناني عزيز (جورج خباز) الذي علق تلك اللافتة العنصرية (يمنع تجوال السوريين..)، وكراهيته تفسر بأن والده من بين مفقودي (مخطوفي) الحرب الأهلية، فإن لدينا بالمقابل جميل (طارق تميم) الذي يقف في وجه صديقه بضراوة لمواجهة تلك الكراهية (وللإنصاف فإن كلا الممثلين هدية من هدايا العمل).. والأمثلة عديدة.
ربما أحدث مشهدا من مسلسل (النار بالنار) حالة من الجدل على وسائل التواصل الاجتماعي بعد عرض الحلقة الخامسة من العمل، وفي أحد المشاهد يدور حوار بين الفنانة السورية (كاريس بشار) والفنان اللبناني (جورج خباز)، ويصور المشهد استياء (كاريس بشار) التي تؤدي دور (مريم) في المسلسل من يافطة تم تعليقها في الشارع وقد كتب عليها (يمنع تجوال السوريون بعد الساعة الثامنة مساء)، وهو ما أثار غضبها لتدخل في مواجهة كلامية حادة مع جورج خباز (عزيز) الذي كان يقف بالقرب منها.
في الحوار الجرئ الذي يسلط الضوء على ظاهرة (العنصرية بين السوريين واللبنانيين)، يقول (عزيز) لـ (مريم): (انتو جايين هيك وقحين ما عندكن جنس الحيا، إلك عين تحكي انت؟ ماضيكن معنا بشع وحاضركن على أبشع، أنا محلك بحط راسي بالأرض)، وردت عليه (مريم) بالقول: (أول شي مو نحنا اللي اجيناكم بكيفنا، انتو اللي بعتو ورانا، وتاني شي لولانا كنتو هبرتو بعض).
عزيز أكمل حواره قائلا: (نحن بعتنا وراكن على أساس قوات ردع عربية صار بدو مين يردعكن، قعدتو عنا 30 سنة عم تردعوا مدري مين ومدري شو، بعدين لما خلصت الحرب بقيتوا ميقطين على قلبنا متل الكابوس، شو بتعرفي عن المدفون، شو بتعرفي عن ضهر البيدر، عن عنجر؟، انت شي مرة قاعدة على ربطة الخبر لما يقشطك ياها أبو سن دهب تبع الحاجز، كنا إذا أخدنا نفس يشلحونا نصوا، إلك عين تحكي كمان)، لترد عليه (كاريس بشار) بالقول : (ما بدا كل هالموشحات، احمل حالك وانزل عالشام وورجينا المراجل)، ليقاطعها هو قائلا: (ما بدي انزل عالشام، روحي انت عالشام)، قبل أن يختتم المشهد باستهزاء (مريم) من (عزيز) بالقول: (وينك يا ردع بيكتبوها سوريين مو سوريون يا مثقف يا فهيم يا فينيقي).
حاز المشهد على إعجاب عدد كبير من المتابعين الذين تناقلوه بشكل واسع وعبروا عن إعجابهم الشديد بتسليط الضوء على قضية شائكة لا يمكن السيطرة عليها وبنفس الوقت لا يمكن مناقشتها بهذا الشكل الصريح كما حدث في المشهد بين (كاريس وخباز)، فيما اعتبر البعض أن المشهد لا قيمة له سوى إثارة الفتنة بين الشعب السوري واللبناني.
الحقد السوري اللبناني المتبادل يحصل هنا، وبوضوح، المسلسل إذن (واقعي) هكذا يعد، على الأقل بعد المواجهة بين السورية واللبناني بسبب لافتة (ممنوع تجوال السوريون…) بنصها المتين والأداء الاستثنائي لـ (كاريس بشار وجورج خباز)، مواجهة رسخت آمالا أكبر من المسلسل، قبل الانتباه مع تتالي الحلقات، إلى أنه دراما رمضانية تلامس الواقع، لكن ليس تماما، ثمة خطوة إضافية أخيرة لم تحدث، لأن الدراما العربية لا تتحملها، الذهاب في الواقع إلى أقصاه، بدل إقحام الأكشن ورؤساء العصابات، هذا الحي، (السرور)، أين يقع؟ الخليط السوري اللبناني، أين تتطور قصته، في النبعة أو برج حمود أو برج البراجنة؟.
كاد تسليط الضوء على البطلين اللذين خاضا تلك المواجهة، (جورج خباز وكاريس بشار)، أن يحجب الممثلين الآخرين، لو أن هؤلاء ليسوا أقوياء وقدموا أداء فنيا عاليا، وفي مقدمهم (عابد فهد، طارق تميم، جمال العلي، زينة مكي، وطوني عيسى)، وهذا يحسب للممثلين القديرين وللنص الواقعي المحبوك والشفاف، وكذلك لإخراج هذا العمل الذي يعد تجربة ناجحة في الأعمال المشتركة العربية، ولا شك في أن هذا العمل الذي حمل توقيع المخرج (محمد عبد العزيز) فرصة مفيدة للدراما والممثلين اللبنانيين الذين باتوا بحاجة إلى نقد وتجديد.
فهذا (عابد فهد) يقدم بإتقان دورا مركبا من شخص سوري تلبنن عبر السلطة والفساد، في بيروت ودمشق، ومن شخص (مسرحي) يذكر بـ (تاجر البندقية) لشكسبير (لعل لهذا دلالات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أسماء الشخصيات في المسلسل)، وفي مقابل إتقان فهد، هناك (عفوية) تميم، الذي يظهر في المسلسل وكأنه على طبيعته ولا يمثل، ولهذا جماليته المشغولة باحتراف الكاتب والمخرج على حد سواء ومعهما تميم، ولا يقل حضور (جمال العلي) عن حضور (فهد وتميم)، على رغم أن حجم دوره أصغر من حجميهما، فهو يقدم شخصية شبه هامشية إلا أنه يرفعها ببراعته واحترافه.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى (زينة مكي وطوني عيسى)، اللذين يثبتان موهبة وقدرة على خوض الامتحان الصعب في المدرسة السورية التي تولي أهمية للممثل وإثباته طاقاته الإبداعية أمام الكاميرا، ولا يمكن في هذا السياق نسيان الشاب (تيم عزيز) الذي يؤدي ببراعة دور (الشبيح) و(الفساد) الذي يعمل لمصلحة المرابي.
ولعل قوة ممثلي (النار بالنار) وكذلك السيناريو والحوار والإخراج، هى ما حصنه وأبقاه في إطاره الدرامي التلفزيوني، وجنبه الدراما السياسية، حتى الآن، وذلك على الرغم من أن القصة محشوة بعناوين أكثر مما تحتمل، مثل العنصرية، العنف الأسري، الحرب الأهلية، النزوح السوري، الحرب السورية، زمن السوشال ميديا، التشدد الإسلامي، الإحباط اليساري، خلط الاجتماع بالسياسة، مع أنه عاجز بطبيعة الحال عن تناول عنوان سياسي أو طائفي واحد، كما هو لأن الدراما العربية لا تحتمل، ورغم حدة الموضوعات وجديتها، يقدم العمل رسائله بأسلوب سلس وبمسحة كوميدية لتلطيف الجو، تحمل إلى حد بعيد بصمة عابد فهد.
في مسلسل (النار بالنار) بدا لي (عابد فهد) بشكل مغاير عن أدواره السابقة حيث كان الهدوء سمة أساسية واعتمد طوال الوقت على تون الصوت المنخض، وأحيانا كان يلجأ إلى (قرار القرار) بشحوب متعمد مع عيون معبرة عما يجيش بداخله من شرور أدت إلى كثير من التشوهات النفسية التي لازمته طوال الوقت، وقد عزف على أوتار الشجن والقسوة في مزيج أدائي يؤكد أننا أمام (داهية) في التمثيل عن كثب، أنظر إليه في مشهده مع (عزيز) لحظة رهنه البيانوا ومحاولة بيعه والذي قوبل برد فعل عنيف من جانب عزيز، بينما يرد هو ببرودة أعصاب بأن الوقت قد انتهى ومن حقه بيعه، وغير ذلك من مواقف تشبث فيها بأسلوب المرابي (شايلوك) في الإيقاع بضحاياه.
المهم أن عابد فهد في مسلسل (النار بالنار) أثبت أنه حين يكون الفنان مثقفا، يستطيع أن يلامس المشاعرالإنسانية الصادقة، ودون عناء يمكنه العزف على أوتار القلب والعقل معا في سيمفونية رائعة وصولا إلى بواطن النفس البشرية الخفية تاركا فيها أكبر الأثرحتى ولو كان ذلك على جناح الشر المطلق، لدى جمهور يتعطش للفن الراقي في ظل أشواك وعثرات الدراما الحالية التي تكرس في غالبيتها لمناخ من الفوضى والعشوائية، وما بالك أن يملك نفس الفنان وعيا صادقا بقضايا وطنه وأمته، حاملا فوق أكتافه هموم وآلام وأحزان وانكسارات هذه الأمة في لحظة تاريخية أقل ماتوصف بالضبابية، فنان بهذا المعنى والمبنى للشخصية لابد أن تقف أمامه بقدرهائل من التقدير، وتمنحه أوسمة من الفخار التي تزين صدره بالحب والاحترام.