بقلم الإعلامي: أسامة كامل
حرصت طوال حياتي علي حضور مولد بن تميم في المنزلة بلدنا أقصي شمال الدقهلية، وهو (القيعقاع بن عمرو التميمي) البطل التاريخي الأسطوري منذ عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم محمد وحتي عهود الخلفاء الراشدين، وذكر عنه أنه كان بمثابة جيش كامل انتصر في المعارك وكان مرادفًا لـ (خالد بن الوليد).
ولا أعرف إن كان ضريح (بن تميم) أو أحد أحفاده والمنزلة تعج بأحفاد الفاتحين مثل (الأنصاري والجرايحي وغيرهم، لكن يظل مولد بن تميم حدث ديني واجتماعي وتجاري مهم للغاية، وأظن أنه لم يعد يقام في السنوات الأخيرة لأسباب أمنية أو صحية أو بدون سبب تحكم من الدولة في كل ما يسعد الناس مثل مباريات كرة القدم.
لا تزال الذاكرة حبلي بأحداث المولد وخاصة بعد هزيمة 67 وهجرةً أبناء القناة والخلط الغريب بين أبناء بورسعيد الأكثر انفتاحا وحرية مع أهالي المنزلة أصحاب العادات والتقاليد والمتحفظين دائما، وكان منزل العائلة القديم بيت الأزهري في منتصف البلد تماما وبجواره مركز الشرطة ومركز الإسعاف والمصالح الحكومية والبلدية.
و تبدأ مراسم المولد بالموكب يتقدمه الخليفة علي بحصانه الأبيض يحاط به رجال يمثلون العائلات والطوائف المختلفة، ويرتدي شالا أخضرا علي الجلباب الأبيض والعباية السوداء وفرقة الدفوف والآلات النحاسية على دقة واحدة تخطف القلب من ذكر الله ورسول الله و بن تميم، يتقدمها (أمين أبو أمين) وأخواته كأحفاد (سيدنا بلال) أو يخيل لنا ذلك.
ويقدم (عزيز أبو عبد العال) على حصانه فاصلا من المهارات متمتطيا الحصان العربي الأصيل يتمايل على صوت الصفوف والأهازيج وكذلك بعض الفتيان والشباب العربجية، وهذه ليست سبة أو عيبا بل كانت هذه طائفة تقدم خدمات بليغة وموثرة يرأسها المعلم (السعيد الصابر) معلم المعلمين العربجية، الذي يملك حوالي عشرة عربات كارو وعلى عربة زوج خيول أصيلة و لديه حوالي عشرين عربجي وصبيانهم، وهي وسيلة لنقل البضائع والسلع الداخلية وحتي إلى المراكز والأقسام القريبة (الجمالية والمطرية و العزيزة) وغيرهم.
ثم تمد الموائد على طول البلد وعرضها و تذبح الذبائح، وكان الحاج (مسعد الأزهري) يقدم عجلا في كل مولد ويقوم الطباخين (السيد المقدم وعلي المقدم) بتقديم الطعام وتوزيعه على الحاضرين بمذاق لا يمكن نسيانه، و لحوم مسلوقة وأرز شهي ثم الحلويات من البلوظة والأرز بلبن، ويمتد المولد من الخميس إلى الجمعة حوالي سبعة أيام كاملة، ويقدم المعلم (السعيد الصابر) أحد المنشدين القادمين من طنطا أو الزقازيق.
ويجتمع أهالي المنزلة والمهجرين من خط القناة وخاصة بورسعيد، والذين يرتدون أزياء فاتحة جميلة السيدات والبنات وبجوارهن نساء المنزلة المتحفظات بالملايات السوداء التقليدية المغلقة بإحكام من الرأس وحتي اسفل الركبتين، لم يكن هناك حجاب ولا نقاب بالمناسبة، ويجلس الرجال و الشباب في الخلف علي بعض المقاهي المؤقتة بمناسبة المولد يحتسون المشروبات و الحشيش المعتبر الذي يشعشع في كل المكان، و أمام مركز الشرطة بلا أي تدخل و لا مضايقات.
ويقف المنشد بعد العشاء يرتدي ملابس أزهرية فخمة ومعه الفرقة الموسيقية من عازف كمان وعود وقانون وطبال ورقاق وصاجات، وكورال يردد مع الشيخ الذي يحرص على ذكر الله ورسوله أولا، ثم يبدأ في سرد قصة ساحرة من وحي الخيال يستجلب به دموع النساء الذي يحرص على التأثير فيهم أولا، وبعضهن يذهبن في حالة من الذكر والتمايل، وبعضهن يغمي عليهن من قوة البيان وحلاوة الكلام، والمعجزات الخرافية حتي يؤذن الفجر.
وتقام الأسواق من كل البقاع تعرض كافة المنتجات وخاصة حلويات (أبو عجينة) بالسمن البلدي وحمص السيد البدوي والفسيخ المنزلاوي المعتبر وفول وطعمية من عند (محسوب) التي لا مثيل لها الآن.
و لا أستطيع أن أنسي (حي السينما) التي كانت موجودة قبل هدمها للأسف الشديد، وكان هناك ولايزال مجموعة المثقفين وهى مجموعة نادرة في مصر كلها، يقرأون ويناقشون ويتكلمون في مختلف القضايا ولا يزال.
و في جولة لزيارة بقية التكيات تشاهد منشدين مختلفين وكان من ضمنهم الشيخ (سيد النقشبندي) الذي حضر خصيصا للمشاركة في الليالي الجميلة، وأحيانا ابن المنزلة صاحب الصوت السمائي (الشيخ نصر الدين طوبار) والعديد من الشيوخ والمنشدين، لكن كان أغربهم الشيخ (هاشم) و هو صاحب طريقة مختلفة أشبه بمولانا (توفيق عكاشة) الذي ينتمي لنفس المحافظة.
وتمر أيام المولد الجميلة بأحداثها وسهرتها ونوادرها، ثم يعلن انتهاء المولد بعد صلاة الجمعة الأخيرة، ويمر موكب الختام من عربيات نقل وجرارات وتقدم كل طائفة عرضا مذهلا، النجارين ومحلات الموبيليا أصحاب الورش واختراعات وورشة حقيقية في العربة.
الجزمجية يعرضون أحدث أحذية السيدات والرجال من الجلد الطبيعي بأسعار خاصة بمناسبة المولد، ومضارب الأرز والشعير والغلال، الفواكه والخضروات، أصحاب محلات الجزارة مع أنواع متميزة من اللحوم، مضارب القطن و صناع الملابس الحريمي والرجالي.
هذه المنزلة لها طعم ورائحة ولون مختلف وأناس من طينة أخرى، وبها بركة ورزق ودين و فكر وأدب.. هذه منزلة أمي علي روحها السلام ورضي الله عنها وعن كل أبناء منزلة النور.
هذا جزء يسير من خيط طويل لا ينتهي.