بقلم الناقد والباحث : د.عمرو دواره
مما لاشك فيه أن الفنانة القديرة الموهوبة جدا سميحة أيوب هى أحد أيقونات الفن العربي، ورمز من رموزه الأصيلة الخالدة، وهى القيمة الرفيعة السامية والقامة الشامخة التي ساهمت في إثراء حياتنا الفنية بتجسيد عدد كبير من الشخصيات الدرامية الخالدة بجميع القنوات الفنية، ولذلك فقد نجحت بمشاركاتها الفنية المتتالية، وإبداعاتها المتعددة خلال مسيرتها الفنية في تحقيق مكانة خاصة لها في قلوب جماهير وعشاق الفن على مدار عدة أجيال، تلك الجماهير التي أصبحت (سميحة أيوب) بالنسبة لها علامة للتميز والجودة الفنية بعدما عشقت أداءها الطبيعي، وأعجبت بصدق تمثيلها ومهارتها في تجسيد مختلف الشخصيات.
وهى بالطبع لم تكن تستطيع أن تحقق تلك المكانة الرفيعة، وأن تضع بصمة مميزة خاصة بها إلا بعدما نجحت في توظيف موهبتها المؤكدة التي صقلتها بالدراسة الأكاديمية وبالثقافة الموسوعية عن طريق القراءة المستمرة، وبكثير من التجارب المتتالية وبالعمل مع كبار المبدعين العرب والأجانب، وأيضا بالمشاهدات المسرحية المنتظمة والسفر لمختلف المهرجانات الفنية.
وتقتضي الحقيقة أن أقرر في هذا الصدد أنه لا يمكن إجراء أي دراسة أكاديمية عن تطور فن التمثيل بمصر والوطن العربي دون تناول أعمال وإسهامات هذه الفنانة القديرة المثقفة مرهفة الحس، التي عشقت الفن وبذلت من نفسها وجهدها الكثير والكثير، فساهمت بالإبداع في شتى المجالات الفنية، كما ساهمت في نشر القيم السامية وتقديم روائع الفن الأصيل.
ومما لاشك فيه أن الكتابة عن قامة شامخة بحجم وقدر الفنانة المبدعة (سميحة أيوب) بإسهاماتها الكثيرة جدا والمتعددة والمتنوعة في جميع القنوات الفنية، عملية شاقة ومرهقة للغاية، خاصة مع غياب دور المراكز البحثية المنوط بها التوثيق، وكذلك للأسف غياب كثير من البيانات والمعلومات الموثقة عن بعض مراحل حياتها أو بعض أعمالها، وذلك بالإضافة إلى ندرة الدراسات الأكاديمية والمراجع التي تتناول أعمال الممثلين بالبحث والتوثيق والدراسة والتحليل.
وأحمد الله أن منحني فرصة معاصرة هذه الفنانة القديرة ومشاهدة إبداعاتها الفنية منذ بدايات ستينيات القرن الماضي – وخاصة بعروض فرقة (المسرح القومي) بمصاحبة الأسرة – وكذلك فرصة الاقتراب من عالمها الخاص وتعدد اللقاءات الشخصية معها، ومشاركتها في كثير من الأنشطة والفعاليات المسرحية سواء بمصر أو كثير من الدول العربية الشقيقة، فقد حرصت بفترة مبكرة على حضور بعض البروفات المسرحية للعروض المشاركة ببطولتها، وذلك قبل أن تتوثق الصداقة بيننا، وتمنحني شرف تكريمها في أول دورة للمهرجان العربي – الذي شرفت بتأسيسه مع بداية الألفية الجديدة من خلال (الجمعية المصرية لهواة المسرح) – ثم قبولها الرئاسة الشرفية لأكثر من دورة.
وتجدر الإشارة إلى أن الفنانة العربية الكبيرة (سميحة أيوب) بدماثة خلقها ظلت مثالا يحتذى في سلوكياتها الخاصة، لذا يضاف إلى رصيدها إجماع كل من اقتراب من عالمها بصفة شخصية أو نال شرف صداقتها على أن الدرس الأول الذي يتعلمه كل من اقترب منها هو فضيلة الاعتزاز بالنفس دون غرور أو تعال، بل وعلى النقيض تماما فإن التواضع بكل ما تحمله هذه الصفة من معاني سامية ظل من صفاتها الأصيلة ومن سمات سلوكها الشخصي في التعامل مع الجميع بلباقة ولطف وكياسة وعطف وحنان وأمومة حقيقية وعطاء مستمر.
أما الدرس الثاني فهو ضرورة الإتقان الشديد والاجتهاد المستمر واحترام قيمة الثقافة والعلم لتحصيل أكبر قدر من المعلومات والمعارف وتقديمها للآخرين بسهولة ويسر مع احترام قيمة الوقت وضرورة توظيفه بالصورة المثلى.
لقد عشقت الفنانة (سميحة أيوب) الفن منذ صغرها فمنحته سنوات طويلة من عمرها، وظلت طوال مسيرتها الفنية راهبة في محرابه، واستطاعت عبر مشوارها الفني أن تعبر بقسمات وجهها البشوش وصوتها المعبر المميز – الذي تتعرف عليه الأذن جيدا بمجرد سماعه – أن تصبح بالنسبة للفن العربي تموذجا للإنسان العربي المعاصر بمختلف طبقاته وفئاته، كما نجحت في تجسيد شخصية المرأة القوية الثائرة المتمردة على الظلم، فتفوقت بجدارة وبرعت في الأداء المسرحي حتى أطلقوا عليها لقب (سيدة المسرح العربي)، وذلك بعدما نجحت هذه العملاقة المسرحية باعتراف الجميع – بلا استثناء – بأن تصبح علامة فارقة في تاريخ التمثيل المسرحي منذ بداياته وحتى الآن.
حقا لقد سحرتنا هذه الفنانة القديرة بصدق أدائها سواء بتجسيدها لبعض أدوار البطولة المطلقة أو حتى في تجسيدها لبعض الأدوار الرئيسة والتي لم تكن فيها البطلة الأولى، وبهرتنا بأدائها لدرجة أنه لا يمكن تخيل أي فنانة أخرى تقوم بأداء نفس االشخصيات التي جسدتها وأصبحت مرتبطة بها في وجداننا وذاكرتنا، وخاصة تلك الأدوار التاريخية التي برعت في تجسيدها.
وإذا كانت العلاقات بين الدول تحكمها التمثيل الدبلوماسي، فإن القديرة (سميحة أيوب) قد أرتفع مستوى تمثيلها الدبلوماسي إلى درجة الملوك والرؤساء، فمكانتها الرفيعة لم تتح لها فقط فرصة اللقاء مع عدد كبير من الملوك والرؤساء ولكنها أتاحت لها أيضا فرصة عقد علاقات شخصية قوية وانسانية متينة ومستمرة، وربما يعود السبب الأول في استمرار تلك العلاقات بالدرجة الأولى – من وجهة نظري – بخلاف مكانتها الفنية وثقافتها الراقية واعتزازها بنفسها إلى ترفعها عن تحقيق أي مكاسب شخصية أو طلب أي استثناءات.
ومن تتاح له فرصة الاقتراب من عالمها الخاص أو رصد مسيرتها الفنية ستأخذه الدهشة من هذا الكم الكبير من صورها مع عدد كبير من الملوك والرؤساء – بمختلف اتجاهاتهم ومواقفهم السياسية – وبعضها لقطات أسرية حميمة تؤكد سمو مكانتها، وذلك بالطبع بخلاف كم كبير جدا من النياشين والأوسمة والدروع وشهادات التكريم، وأحمد الله على فرصة مصاحبتي لها في عدد كبير من المهرجانات المسرحية ببعض الدول العربية مثل: (ليبيا، تونس، الجزائر، الأردن، الكويت، الإمارات) لأفخر بمكانتها وأستمتع بحرارة استقبالها على كل من الصعيدين الرسمي والشعبي، وأشاهد عن قرب دماثة خلقها وحسن وسمو تصرفاتها، ودبلوماسيتها وكياستها ولباقتها وسرعة بديهتها وذلك بالطبع بخلاف أناقتها وشياكتها المعهودة، وقدرتها على التمثيل المشرف لبلادها.
وتجدر الإشارة إلى أن حياتنا الفنية طوال أكثر من قرن ونصف من الزمان تقريبا لم تشهد سوى ثلاثة سيدات أرتبطت بأسمائهن ومكانتهن صفة السيادة (وذلك دون الأخذ في الاعتبار لقب سيدة مصر الأولى التي تزول بزوال مكانة زوجها)، والسيدات الثلاث هن: (أم كلثوم) سيدة الغناء العربي، و(فاتن حمامة) سيدة الشاشة العربية، و(سميحة أيوب) سيدة المسرح العربي، حيث لم ترتبط تلك الصفة بكل منهن فنيا وإعلاميا فقط، بل وجماهيريا أيضا على مدى سنوات طويلة فيما يقترب من الاستفتاء الشعبي، وبالتالي لم تستطع أي فنانة أخرى منافستهن على هذا اللقب، بالطبع لم تسعى الفنانة (سميحة أيوب) للحصول على هذا اللقب ولكنه ارتبط بها بعد تألقها المسرحي بمنتصف ستينيات القرن الماضي، ونجاحها في تجسيد عدد كبير من الأدوار المركبة، التي حظت بإشادات نخبة من كبار النقاد، كما حققت لها النجاح الجماهيري والشهرة، فكان من المنطقي أن تتوج تلك المسيرة بحصولها على بعض مظاهر التقدير والتكريم واستلامها لأعلى الشهادات والأوسمة، ومن بينها لقب (سيدة المسرح العربي).
وأخيرا أعتقد صادقا أن الكتابة اليوم عن هذه الفنانة القديرة ومجموعة إبداعاتها الخالدة وإسهاماتها المهمة لا تهدف بالدرجة الأولى إلى تأكيد مكانتها أو المشاركة في تكريمها بقدر ما تهدف إلى محاولة استكمال أجزاء الصورة بجميع تفاصيلها لتحقيق الاستفادة من خبراتها المتعددة، وتقديمها للفنانين الشباب ليتخذوها قدوة لهم، ولينتهجوا نهجها ويسيروا على دربها، خاصة وأنها نموذج مثالي للعطاء والإبداع وخير مثال وقدوة للفنان المبدع المعطاء.